هذه الحرب الدائرة على مدى أكثر من عام، شهدت تداعيات وتحولات يبدو بعضها مخططا، والبعض الآخر تفرضه تطورات المواجهة، ما يجعلها بحاجة إلى دراسة وتفهم بعيدا عن الكلاسيكيات الجاهزة، التى لا تصلح لفك ألغاز صراعات وحروب اتخذت أشكالا وتفاصيل مختلفة وتتشعب لتعيد رسم سيناريوهات تبدو فى الكثير من الأحيان بعيدة عن التوقعات الجاهزة، وبالرغم أن أحداث 7 أكتوبر كانت مقدمة لكل ما جرى من ردود أفعال وتطورات، لكن بعد أكثر من عام على طوفان الأقصى تجاوزت الحرب التى يشنها الاحتلال غزة لتمتد على طول الجبهات، حرب إبادة فى غزة، وجرائم حرب ضد الإنسانية ومذابح وحصار وحرب تجويع على القطاع، وجبهة فى جنوب لبنان ومواجهات مع إيران، كل هذا مع تطورات تشهدها الحرب تقوم على اختراقات وتطورات تقنية ومعلوماتية تمثل قفزات تشير إلى أن الاحتلال يبدو أنه كان جاهزا لهذه المواجهة، واتخذ عملية 7 أكتوبر ذريعة لشن الحرب بهذا الشكل.
مبكرا كانت مصر هى الطرف الوحيد الذى حذر من أن تتسع الحرب وتفتح جبهات شمالا وجنوبا وهو ما تحقق، وبدا تطورا متوقعا ومرسوما، وبدا أن القاهرة بخبرتها فى التعامل مع ملف معقد تمتلك من المعلومات ما يجعلها قادرة على توقع سير المواجهة، بينما بقيت بعض الأطراف تتعامل بناء على نماذج سابقة ولم تستطع قراءة شكل جديد من التحولات التى تتفاعل لتصيغ واقعا جديدا يختلف عن المواجهات السابقة.
على سبيل المثال كانت عمليات الاغتيالات والتصفية هذه المرة لقيادات أكثر عددا وأخطر فى المواقع، وهو نوع من الاغتيالات يتجاوز العمل العسكرى إلى عمل سياسى، حيث سبق فى كل المواجهات السابقة أن كانت الاغتيالات تتم على فترات متباعدة، لكن هذه المرة يبدو الأمر من قبل الاحتلال منهجيا، خاصة فيما يتعلق بجبهة لبنان وحزب الله، وأيضا فى التعامل مع حماس وقياداتها، والرغبة فى تحقيق فوز ما، وهو أحد الأهداف التى أعلنها نتنياهو فى بداية الحرب، بجانب أنه بعد أن أبدى قبولا لعروض التبادل عاد ليتملص منها ويناور، بل إنه أبدى عنادا ولوح بالاستغناء عنهم حتى لا يتحولوا إلى نقطة ضعف، بجانب أنه يحرص على تسويق حربه على أنها حرب دفاع بالرغم من حجم ما ارتكبت قوات الاحتلال من جرائم تتجاوز الدفاع إلى الإبادة والتصفية العرقية .
وبالتالى فإن مخططات الحرب على غزة تختلف هذه المرة وتتضمن تهجيرا تبادليا بين الشمال والجنوب، بجانب تنفيذ عمليات نوعية واغتيالات لقيادات الداخل، وهى خطوات تعتبر مختلفة عن مواجهات سابقة لم تكن تستمر كل هذا الوقت، بجانب أنها تشمل عمليات تهجير وتقليب للسكان بحثا عن أنفاق يوجد بها أى قيادات، وهو أمر لا يمكن تقييم نتائجه لكنه مثل ولا يزال تطورا نوعيا فى طبيعة المواجهة بجانب الجبهات التى تم فتحها شمالا وجنوبا.
الشاهد أن هذا الفصل يبدو مختلفا عن مواجهات سابقة، وتحولا عسكريا وسياسيا تمثل فى استمرار الدعم الأمريكى بالسلاح وأنظمة الصواريخ بجانب الدعم فى مواجهة إيران، والدفع ببوارج وحاملات طائرات، وهذه الشواهد تؤكد أن الحرب هذه المرة تحول مختلف، يفترض أن تكون لدى الأطراف جميعها قدرة على تفهم الأمر تكتيكيا واستراتيجيا، طول الوقت الحرب على غزة وفتح جبهة جنوب لبنان بشكل يختلف عن مواجهات سابقة لأنه مباشر وليس من وراء وكلاء، فقد كان إعلان إيران راعيا لعملية 7 أكتوبر هو نفسه تحولا فى المواجهة دفع نتنياهو للدخول فى جبهة الشمال وتنفيذ اغتيالات واختراقات غيرت من توازن معادلة القوة، وتحولا فى الحرب، وفى قضية الشرق الأوسط فى الصراع الإقليمى، يزيل الستار والأقنعة، ليدور مباشرة بين إسرائيل وإيران.
كل هذا يشير إلى تحولات تتسع وتظهر كل يوم، ومنذ بداية الحرب بدا أن القضية الفلسطينية عادت إلى الواجهة العالمية بعد سنوات من التراجع، وهو أمر مهم كان يتطلب أن تتوجه الفصائل الفلسطينية إلى توحد يمكنها من التعامل مع هذه التحولات وعدم البقاء فى سياق التحليلات والرهانات السابقة التى لم يثبت أنها أنتجت واقعا أفضل، وقد كان الصراع الداخلى إحدى أخطر الثغرات والأخطاء التى أضعفت القضية، وكانت الحرب الحالية فرصة لاستعادة الوحدة والتعامل من خلال سلوك سياسى كهدفين للعمل معا، وقد بذلت مصر جهدا كبيرا على مدى سنوات لتوحيد الفصائل الفلسطينية، آخرها يوليو 2023، قبل عدة أسابيع من الحرب، وهناك مساع مختلفة للتقريب بين الفصائل.
ربما تكون هذه هى الخطوة الأهم فى مواجهة تحولات ضخمة، تعيد تشكيل مفردات الصراع، فى فلسطين المحتلة وأيضا فى المنطقة، وبالتالى لا يمكن الاكتفاء بسياقات سابقة ظلت فيها الشعارات أكثر من الفعل، فى مواجهة تحولات عاصفة.
مقال أكرم القصاص
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة