يقرر المؤرخون أن الحروب الصليبية انحصرت بين عامى 1096 و1291م، مشيرين بذلك إلى عدد من الحملات العسكرية، كان الصليب - شعارها المرفوع، وكان بيت المقدس الهدف والوجهة، ثم تغيرت الوجهة - مع بقاء الهدف - بنزول الأوروبيين على شاطئ الركن الشمالى الشرقى من قارة أفريقيا، عندما أدركوا أن مصر (التى أطلقوا عليها مسمى رأس الأفعى) هى العقبة الكئود أمام السيطرة على "مهد السيد المسيح"، ونقل المواجهة مع الثقافة الإسلامية لأراضيها.
والحقيقة أن هذا التعريف لمسمى "الحروب الصليبية" محل نظر، فكيف يمكن أن يكون المقصود به "الحملات المتتابعة "زمنيا" والمتوافقة "جغرافيا"، والمستجيبة لدعوة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية، والفاتيكان الكاثوليكى، دون أن يمتد إلى تاريخ التدافع - السابق واللاحق- للثقافتين المتجاورتين المختلفتين فى كثير من قيمهما (الإسلام والمسيحية الغربية).
إن اختزال مسمى "الحروب الصليبية" فى 195 عاما للحملات السبع (فى رواية أخرى: التسع) أمر مخل، كون المسمى يشمل كل محاولات الغرب المسيحى دفع الثقافة الإسلامية بعيدا، وهو بهذا المعنى يعنى أنها حروب مستمرة حتى اللحظة، بدأت من المعارك الأولى: "موتة" 629 م، و"تبوك" 630 م اللتين أسستا سلسلة من المواجهات المقتصرة ـ قديما ـ على الجانب العسكرى، والمتطور - حديثا - لجوانب سياسية وثقافية واقتصادية وفكرية مع عدم إغفال الجانب العسكرى.
وكانت معركة اليرموك عام 636 م أول هدف تحرزه الثقافة الوليدة فى الشرق، ليبدأ تراجع الثقافة الغربية وسقوط أملاكها فى معارك أخرى منها أجنادين 634 م، وسبيطلة 647 م، وذات الصوارى 655م ، حتى تمام فقد الجزء الشرقى والجنوبى من حوض البحر المتوسط، لكن الغرب لم ييأس، فتواصل السجال، ليحرزوا أهدافا ونحرز أخرى، كان لنا منها طردهم من الشرق بحصار عكا عام 1291، وسقوط القسطنطينية عام 1453م، وكان لهم إسقاط الأندلس بعد فقد القسطنطينية بـ38 عاما (1491م).
وعندما جاء نابليون إلى مصر عام 1798 كان على وعى بهذا السجال وخطورة مصر كلاعب رئيسى فيه، ومن ثمّ كان يطمع فى "فرنسة" مصر، ليصبح "رأس الأفعى" لهم لا عليهم، فجاء بمطبعة وفرق علمية وفنية ومسرح، إلا أن "الأفعى" التفت عليهم فطردتهم، وطردت من بعده فريزر 1807، لكن الحظ ابتسم لهم أخيرا فى عام 1882.
ورغم تجاوز البشرية لفكرة الحروب الدينية، وتعاظم تكاليف التوسع والضم، إلا أن الغرب المسيحى ما زال يخشى استرداد الثقافة الإسلامية لأوطانها عفية، ومن ثمّ خطط لفصل قوة الإسلام الذاتية ـ التى ينتشر بها حاليا ـ عن قوته بأوطانه، فكان هدف السيطرة على أوطان المسلمين وإشغالهم بأنفسهم قضية وجودية للغرب.
لكن كيف يمكن تحقيق هذا الهدف دون تكاليف مرهقة؟
الحل تمثل فى وجود كيان بديل يلقى عليه الغرب عبء المواجهة، يتترس فى الخط الدفاعى الأول أمام "الأفعى وأخواتها"، يفصل بينهم، ويقاتلهم بالوكالة.
هنا كانت إسرائيل فكرة عبقرية، عبر عنها الرئيس الأمريكى بايدن فى شبابه بقوله: لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا إيجاد إسرائيل"، فهل كان الرجل يقصد بكلامه خطورة "فلسطين" على الحضارة والثقافة الغربية؟.. بالتأكيد لا
ليس المقصود فلسطين.. بل المقصود الحضارة والثقافة الإسلامية، وفلسطين مجرد "موقع مناسب"، لحشد اليهود غير المرغوب فيهم فى مواجهة الثقافة غير المرغوب فيها، ومثلما اتحد 25 ملكا وقائدا أوروبيا فى العصو الوسطى لشن حملاتهم السبع علينا، رغم اختلاف لغاتهم ومذاهبهم الدينية ومصالحهم نجد الغرب حديثا يتحد لدعم الاحتلال والإبادة فى فلسطين، متجاوزا خلافاته البينية، ذلك أن ملف الحضارة والثقافة الإسلامية دائما خارج دائرة الخلاف.
ومن ثمّ ففلسطين ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، إنهم فقط الخط الدفاعى الأمامى لنا كأمة، ومن المؤسف أن نجدهم يقاتلون دون دعم "كامل المعنيين" بالمعركة التى هى امتداد للحملات الصليبية القديمة/ الجديدة (629 م - ... م).