حازم حسين

من الهزيمة للمُفاضلة بين ربحَين.. كيف ينظر نتنياهو وخصومه إلى الانتخابات الأمريكية؟

الإثنين، 21 أكتوبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الضربةُ التى لا تقتلُ قد تدفعُ إلى الأمام أو الخلف؛ المهمُّ أنها تُغيِّر المواقعَ عَمَّا كانت عليه. ونتنياهو كأنه اعتمد ذلك مبدأً لحركته طوالَ السنة الماضية، منذ الموجة الوحيدة لطوفان الأقصى فى غلاف غزَّة، وإلى استهداف منزله فى قيسارية جنوبىّ حيفا قبل يومين. والشاهدُ أنه يضربُ فيَقتُل، أو يُضرَبُ فيتحفَّز على مزيدٍ من القتل، وفيما بين الحالين يتحرَّكُ الميدانُ تحت أقدام المُتحاربين، ولدى كلِّ طرفٍ سَرديَّتُه عن النصر: يربحُ الاحتلال بالمضىِّ فى سيناريو الإرعاب وكَىِّ الوعى وتسييج المنطقة بالنار، وتربحُ المُمانَعة لأنها لم تنكَسِرْ تمامًا، أو على الأقلِّ لم تُسَلِّم له بالانكسار. أمَّا الهزيمةُ؛ فكلاهما ينفيها ويتبرَّأ منها، لكنها واقعةٌ على الطرفين بالحسابات العَمليّة. الضَّرَرُ الذى يطالُ الشيعيَّةَ المُسلَّحة يفوقُ قُدرتَها على الاحتمال، والموتُ الذى تُفرِطُ الصهيونيَّةُ فى صِناعته لا يُنتِجُ إلَّا مزيدًا من الغضب ورغبة الثأر. والخرائطُ إذ يُعادُ رَسمُها وفقَ توازناتٍ جديدة؛ فإنه الترسيمُ الذى يصلحُ عنوانًا لجولةٍ بين جولات؛ لكنها ليست حاسمةً بشكلٍ كامل، كما لن تكونَ الأخيرةَ بالقطع.


لم يعُد زعيمُ الليكود مشغولاً بالخسائر؛ طالما أنه مُتفوَّقٌ فى وحشيَّة الضربات، وأن الخصومَ ينزفون أكثرَ مِمَّا ينزف. بدا منذ افتتاحيَّةِ المُواجهة أنه ذاهبٌ فى الاستنزاف إلى آخره، ويُؤسِّسُ رهانَه على أنه ينطلقُ من نقطةٍ أكثر صلابةً من الجبهة المُضادّة، ولديه هامشٌ مفتوحٌ من الإسناد والتعويض. لذا لم يكُن الردُّ على الطوفان مُتناسِبًا؛ لأنه لا يطلبُ الثأر بقدر ما يسعى لتغيير المُعادلة القائمة، كما لا يعنيه الأسرى إلَّا كذريعةٍ للبقاء فى الميدان، وتطوير العمليات وفقَ الخُطَّة المُعَدَّة سَلَفًا. والحال؛ أنَّ الاشتباكَ مع ذهنيَّةٍ صِفريَّة كهذه يبدو صعبًا وشديد التعقيد، لأنه من ناحيةٍ يتغذَّى على المُبرِّرات التى يمُدّه بها المُمانِعون من الجبهات المفتوحة، وفى الناحية الأُخرى لا يُمكن الاطمئنانُ إلى أنَّ حرمانَه منها قد يُخفِّفُ فائضَ الجنون، أو يمنعُ انحرافَ حالة الرخاوة عن معانيها التهدويَّة، إلى إظهار صيغةٍ من المُطاوَعة التى تُفهَمُ على معنى الخنوع والارتداع؛ فيستأسِد بأكثر مِمَّا هو عليه فى أجواء الصدام. أى أنَّ التصعيدَ أو التراجعَ يُثيران المخاوفَ نفسَها، ولا يخلوان من اللوم أيضًا.


ومع الإقرار بالمصاعب، وبأنها ناشئةٌ عن سلوكيَّات نتنياهو؛ فلا يُمكِنُ إعفاء جانب المُمانَعة من المسؤولية عن الحال القائمة، وما يُحتَمَلُ أنْ تتطوَّر إليه بأثر الأخطاء المُتبادَلة. والنقدُ هُنا ليس عن طبيعة المسار الذى يختارونه اليومَ فحسب؛ بل من أنهم أطلقوا الرصاصةَ الأُولى دون جُهوزيَّةٍ كاملة، ولا حسابٍ للآثار والارتدادات المُتوَقَّعة، وكيف يتعاملون معها بما يُحقِّقُ الأهدافَ أو يُرشِّدُ الانتكاسات. والاستنادُ فقط لحقيقة أنهم انتدبوا ذواتَهم مُمثِّلين عن قضيّةٍ عادلة، لا يصرفُ النظرَ عن أنهم يُسلِّمونها الآنَ فى وضعيَّةٍ أشدّ بؤسًا، بالقياس إلى ما كانت عليه. وكما أنَّ المُبادرةَ ترفعُ الحظوظَ من العاطفة والتشجيع؛ فإنها تُرتِّبُ أعباء مُركَّبةً على أصحابها حالَ الخطأ، سواء مع العدوِّ إذ يستعرضُ عضلاتِه عليهم، أو مع الحاضنة الشعبيَّة بينما تُسدِّدُ فواتيرَ المُغامرة، ولا تُعايِنُ ما يُطمئنُ أرواحَها إزاءَ المستقبل القريب. يظلُّ النضالُ العاقلُ محكومًا باعتبارٍ وحيد؛ أَلَا وهو أن تُدَار اللعبةُ بتوازنٍ بين الآمال والإمكانات، مع اجتناب أن تنزلقَ الرايةُ هُبوطًا أو تتقهقرَ للوراء. وما حدثَ؛ أنهم عجَّلوا بما كان مُتعَذّرًا على إسرائيل، وفتحوا لها كلَّ الأبواب المُغلقة؛ حتى تيَسَّر لأسوأ حكوماتها وأشدِّها يمينيَّةً أن تستدعى كلَّ الخططَ المُرجَأة، وتعيد تفعيل أسوأ البرامج والخيارات المعروضة على المنطقة، لا على فلسطين أو لبنان حصرًا.


لا مجالَ للقول بالمُؤامرة أو التواطؤ؛ إنما الطريقُ إلى الجحيم كثيرًا ما تُعبِّدُه النوايا الحَسنة. والنظرُ فى سلسلة الحوادث منذ «الطوفان»، يشى كما لو أنها كانت تُلاقى نتنياهو على ما يُحبّ، وتُرخِى له حبلَ الذرائع بأوفق السُّبل المُمكنة لإنجاز غاياته. العمليَّةُ التى أطلقتها «حماس» أزاحت عن كاهله ضغوط الداخل على مشروعه الإصلاح القضائى، وأعادت ترميمَ بيئتِه السياسيَّةِ، واستدعت خصومَه إلى الحكومة على باقة شروطه الكاملة، ثمَّ كان دخولُ حزب الله على خطِّ المُواجهة تحت شعار «المُشاغَلَة والإسناد»، ما منحَه غطاءً لسرديَّةِ الخطر الوجودىِّ وسط مُحيطٍ مُعادٍ، وأمَدَّه بالدعايات الكافية لتَوسِعَة نطاق الحرب، واستنفار الغرب فى هَبّةٍ قويّة لإنقاذ قاعدته المُتقدّمة، ووكيل أُمثولته الحضارية فى الشرق المُتخلِّف. وهكذا بالتتابع: التحاقُ الحوثيِّين يُسوِّغُ منطقَ الحرب الأُصوليَّة مُترامية الأطراف، وزَخْم التحرُّكات بين ميليشيات العراق وسوريا يُؤشِّرُ بأصابعَ طويلةٍ على إيران، وحادثة بلدة «مجدل شمس» الدرزيّة فى الجولان يفتحُ قوسَ المُتاجَرة بالدم العربىِّ نفسِه، وإجلاءُ المُستوطنين عن بلدات الجليل يتبَعُه الإفراطُ فى ترحيل اللبنانيين من أنحاء الجنوب، والصواريخُ والمُسيَّرات الاستعراضيَّة من الجمهورية الإسلامية، تُعيدُ التذكيرَ بأجواء الحروب الصليبيَّة؛ إنما هذه المرَّة تحت ظلال نجمة داود.


أراد الراحلُ يحيى السنوار أن يصرخَ فى وجه الاحتلال، وأن يستدعِىَ الحُلفاء إلى ميدان القتال أيضًا. إمَّا أنه أساءَ الحسابات فتضخَّم «الطوفان» على غير قصده وهواه، أو أفرطَ فى ابتلاع ما يتعذَّر عليه هَضمُه من إغاظة العدوّ والحطّ من كرامته، وإزاءَ النتائج لا قيمةَ اليومَ للمُقدِّمات والأسباب. ما يعنينا أنه إمَّا تحرَّك بتطميناتٍ من جانب المُمانعة؛ ثمَّ لم يتحصَّل إلَّا على خذلانٍ كامل، أو سعى لتوريطِهم فاستوعبوا الفكرةَ وغَسلوا أياديهم منه. ولأنه أسَّس حربَه بالكامل على رهاناتٍ من خارج إمكاناته؛ كان عليه أن يتجرّع الهزيمةَ مُنفردًا على مرأى من أصدقاء المُعتَقَد والقَسَم. ولأنهم حُبِسُوا فى مُراوحةٍ مُرتبكةٍ، بين الطمع فى تثمير جهود الفصائل الغزّية، والرغبة فى النَّأى عن تكاليفها؛ قدَّموا ساقًا وأخّروا الثانية، فكان سهلاً على الصهاينةِ أن يتدرَّجوا فى بَتر الأطراف برَويّةٍ، ودون أيّة مُخاطرةٍ تقريبًا.


والقصدُ أنَّ قائدَ حماس ورّط نفسَه والشركاءَ فيما يتجاوزُ قدراتهم الحاضرة، أو خططَهم المُتوسِّطةَ وبعيدة المدى، وهم من جانبهم فَوَّتوا الطُّعم؛ لكنهم ابتلعوا خُطّاف الصيد، فما أكلوا إلى الشبع ولا استحصلوا على النجاة الكاملة. وباختصارٍ؛ لقد لوَّثت الشيعيَّةُ المُسلَّحة القضيَّةَ منذ قرَّرت اتِّخاذَها منصَّةً للتجارة والمُزايدة؛ ثمَّ أضرّت بأقوى أُصولِها الصُّلبة، حينما استتبَعَتْها وشجَّعتها على العمل دون طهران وفوق فلسطين، وزجَّت بها فى النار أوّلاً، ثمَّ أثارت الغُبارَ حول المَقتلَة بالخطابة والاستعراض، ودون إسنادٍ جادٍّ وفاعل، أى أنهم أَشْركوا بوَحدانيّة الوجيعة الغزِّية عندما طمعوا فى التربُّح من ورائها، بينما لم يشتركوا فى اقتسام تكاليفها، ولا تركوها تحصدُ فى السياسةِ لقاءَ ما سدَّدته من الأرواح، كاملاً، وبريئًا من الإلهاء والحَرْفِ والتلوين.


والتدرُّج الذى تحقَّق من إخفاقات المُمانعة، سمحَ لنتنياهو بأن يُرقِّى حربَه بوتيرةٍ صاعدة، ويقفَ عند كلِّ مستوىً حاصدًا مكاسبَ السابق ومُتَحَضِّرًا لاستحقاقات اللاحق. وهكذا؛ بعدما كان يطلُبُ إفناءَ حماس، وتكسيحَ القطاع واستحصالَ صورةٍ للنصر على أطلاله، صار يُؤكِّدُ فى خطاب إعلانِه عن مقتل السنوار، أنَّ المعركةَ مُستمرّةٌ ولا تنازُلَ عن أهدافها، وهى التى صِيغَتْ فضفاضةً ومُبالِغَةً لضمان ألَّا يُضطَرّ للنكوص بضغوط الداخل أو الخارج. بالضبط مثلما أزاح حسن نصر الله من الضاحية؛ ثمَّ مدَّد عمليَّاته إلى البقاع وما فوقها، كأنه يتحضَّرُ لاختصام لبنان فى كامل الجغرافيا بتَوسِعَة النار، وفى الديموغرافيا بالسَّعى لتأليب الطوائف على بعضِها. ولا خطابَ يعلو رَاهنًا على الترقُّب وانتظار رَدِّ إسرائيل على الباليستىِّ الإيرانى فى مطلع أكتوبر، ثمّ الردُّ على الردِّ، حتى أنَّ التلاسُنَ المُمتدَّ من تل أبيب لطهران قد أسدلَ ستارًا ثقيلاً على عموم المنطقة؛ فصار العدوانُ هَامشًا على مَتن المُناكفة وترتيب المصالح بين الأُصولِيَّتَيْن، وبينما يلعبُ نتنياهو جولةً مفتوحةً مع خامنئى، فإنَّ استهدافَ بيت الأوَّل قد يتبعُه التصويبُ على مخبأ الثانى، وهكذا على طريقة «تنس الطاولة» يتجدَّدُ التخادُم بين الطرفين؛ فتعلو حظوظُ الشيعيّة المُسلَّحة من الدعايات والعواطف المُتأجِّجة إسلاميًّا وعربيًّا، وتتراكَمُ مكاسبُ الصهيونيَّة على الأرض ومن اللحمِ الحَىّ.


تنشغلُ المُمانَعة بالاستعراض وينصرفُ الصهاينةُ إلى النتائج. وهكذا كلَّما حقَّق نتنياهو مكسبًا ثقيلاً، كان «نصر الله» يردُّ عليه بخطبةٍ شعبويّة، تُطرِبُ السامعين ولا تردَعُ المُتجبِّرين.. ومَنطقُ الصورة التى لا تعكسُ واقعًا حقيقيًّا يقودُ طهرانَ نفسَها؛ لهذا حرصَتْ فى المَرَّتين اللتين قصفَتْ فيهما إسرائيل على أن يكون العرضُ مسائيًّا؛ حتى تُؤخَذَ اللقطاتُ المطلوبةُ على خلفيَّةٍ ليليَّةٍ تُظهر أضواءَ الصواريخ والمُسيَّرات، وتُعظِّمُ أثرَ المشهد مع انطلاق المُضادَّات الأرضية، فيصيرُ أقربَ إلى الألعاب النارية التى يُحبّها الجمهورُ؛ بغَضِّ النظر عن الفاعليّة على الأرض وفى توازُنات الصراع. أمَّا فى المحَكَّات الحقيقية، فيتحدَّثُ المُرشِدُ طويلاً عن الصبر الاستراتيجى، ثمَّ ينتقلُ منه إلى «التراجُع التكتيكىِّ»، وتُساقُ الرسائلُ عبر وسطاء إقليميِّين ودوليِّين عن استعداد طهران لاحتواء ضربةٍ محدودة، وعدم التعقيب عليها.


وبينما يُقبَلُ ذلك فى السياسة؛ بل يُحسَبُ على الحصافة والتعقُّل؛ فإنه يفتقدُ معناه الناضجَ بالنظر إلى أنها تستأثرُ به لذاتِها، وتمنعُه عن الحُلفاء والتابعين فى الساحات الرديفة، فلا يعودُ بمَقدور «حماس» النظر أصلاً إلى هامش التنازُل من أجل هُدنةٍ تكتيكيَّةٍ أو تهدئةٍ طويلة المدى، كما تُمنَعُ الدولةُ اللبنانيَّةُ من اتِّخاذ القرار فى السِّلم والحرب بسُلطةِ فائض القوَّةِ الحزبىِّ، حتى بعدما انكشَفَ وتبدَّتْ هشاشتُه تجاه العدوِّ؛ فإنه ما يزالُ مُتسَلِّطًا على السلطة الشرعية فى بيروت، ومُعَطِّلاً لها عن الاضطلاع بواجب الإنقاذ. والحال؛ فقد أظهرت سنةُ الطوفان أنَّ أذرُعَ المُمانَعة أُجبِرَتْ على مُواجهةٍ غير مُتكافئةٍ على الإطلاق؛ ليس لفارقِ الإمكانات مع الخصم المُباشر فحسب، ولكن لأنها مُسَيَّجَةٌ بالأوامر والنواهى من قيادة المحور، فليس فى مُستطاع الضاحية أن تستخدمَ صواريخَها المُتطَوِّرة، ولا أن تنفصل عن جبهة غزَّة أيضًا، والأخيرةُ ممنوعةٌ من الانصراف إلى مأساتها، لأنَّ غيابَها عن أن تكون شاخصًا يُصوِّبُ عليه الاحتلال، معناه أن تنتقلَ طاقته النيرانيَّةُ بكاملها إلى بقيَّة الساحات.


فى الجولة الإيرانية السابقة، رَدَّ نتنياهو على «ليلة الصواريخ والمُسيَّرات» عند مُنتَصَف أبريل بعد خمسة أيَّامٍ فقط. كانت رسالةً خفيضةَ الصوت لكنها عميقةُ المعنى؛ إذ استهدفَ بطَّاريات المنظومة الدفاعيّة المُكَلَّفة بحماية المُنشآت النووية، وعبر مُقذوفاتٍ أُطلِقَت من مُقاتلاتٍ خارج المجال الجوىِّ؛ فكأنه يُخطرهم بهدوءٍ أنه ينصرفُ عن الإيذاء مع القُدرة عليه، ويعرفُ الأهدافَ المُوجِعَة مع امتلاك الوسائل الكافية للنَّيْل منها. أمَّا الجولةُ الثانيةُ فقد تأخَّر التعقيبُ عليها لأكثر من ثلاثةِ أسابيع حتى الآن، وهو ما لا ينسجمُ مع طبيعة الدولة العِبريَّة وسوابقها العَمَليّة. وبقدر ما قد يُقرَأ فى ذلك من معنى الارتباك وعدم الحَسم؛ فإنه يُثير الانزعاجَ بشأن طبيعة الضربة فى الحجم والأثر، حيث كثيرًا ما يكونُ الاستعجالُ أرحمَ من التباطؤ، كما لا يُتيح هامشًا للرصد الواسع، والتعمُّق فى الخطط والتكتيكات، وتحرير بنك الأهداف على صورةٍ أكثر توحُّشًا وإيلامًا. والتأخُّر ربما تحكمُه اعتباراتٌ عسكريَّة؛ لكنه ليس بعيدًا على الإطلاق من حسابات السياسة أيضًا، بمعنى أنه ينظرُ لواشنطن قبل أن يضرب طهران، ويتعذَّرُ عليه أن يقفزَ دائرةَ المواءمة الحرجة مع الإدارة الأمريكية، لا سيَّما فى احتدام موسم الانتخابات؛ لكنه يعملُ بالتوازِى على توظيفِها فى قلب المُواجهة وتقديرات الميدان، أى أنّه يُرضى «بايدن» تحسُّبًا لصعود كامالا هاريس، ويُدير لعبةَ الوقت بحيث يتجنَّبُ التداعيات المُزعجة حال عودة حليفه المُفَضَّل دونالد ترامب.


يخشى الديمقراطيِّون من تأثير الضربة على مُرشَّحتِهم، خصوصًا إذا بادرت إيران بالتعقيب عليها عاجلاً، أو نشَّطَتْ أذرُعَها لاستهداف إسرائيل مُباشرةً، أو التصويب على الأُصول الأمريكيَّة فى المنطقة. ونتنياهو إذ يُبدِى تفهُّمًا ظاهرًا للمخاوف؛ فإنَّ حِسبتَه تتأسَّسُ على اعتباراتٍ مُغايرة. سيكونُ عليه إرجاء الهجوم إلى ساعةٍ لا تُشكِّلُ خطرًا على الانتخابات؛ على أن يتكفَّلَ الترقُّب بتهدئة الجمهورية الإسلامية انتظارًا لهُويَّة الرئيس الجديد، فترتدع عن الردِّ إذا عاد الجمهورىُّ الشَّرِس مُجدَّدًا، أو تصطدم بالعجوز بايدن فى أسابيعِه الأخيرة بالسُّلطة، ووقتَها لن يكون باكيًا على شىءٍ إطلاقًا، وسيسعى لتسليم الشرق الأوسط نظيفًا لوريثتِه وابنته الروحيَّة، بقدر ما سيُحِبُّ أن يُظهِرَ صهيونيَّتَه ويُغالِى فى توقيعه الأخير على ورقة الصداقة مع إسرائيل. وعلى هذا المعنى؛ سيُنفِّذ «بيبى» ضربتَه قبل موعد التصويت غالبًا، وبالنظر إلى أنَّ الأسبوعَ الجارى يشهدُ اكتمال وصول منظومة «ثاد» الدفاعية بطاقم تشغيلِها الأمريكىِّ، فقد تكونُ فى الأسبوع المُقبل.


يُفاضِلُ زعيمُ الليكود بين خيارين أسوأهما حلو، والإيرانيون مُخيّرون بين المُرّ والأكثر مرارة. فى سابقةٍ أقلّ احتدامًا، وأجواءٍ لم تكُن على الصخب الحادث اليوم، بادر ترامب بتمزيق الاتفاق النووىِّ، ثمَّ شطبَ جنرالَ المُمانَعة الذهبىَّ قاسم سليمانى دون تفكيرٍ أو تردُّد. وبينما دعمت إدارةُ بايدن حقَّ إسرائيل فى الردِّ على الرَّشْقة الباليستيَّة؛ فإنها تُريد ألَّا ترتدَّ عليها بواحدةٍ من مُفاجآت أكتوبر الانتخابية، وقد رأى نتنياهو أنَّ الفكرةَ صالحةٌ للتداول، ويُمكِنُ أن تُعزِّز موقفه فى المعركةِ الجزئيّة مع رأس المحور الشيعى، وفى الحرب الإقليمية الدائرة إجمالاً. والغايةُ ألّا يكون الفاصلُ بين رصاصتِه وتصويتِ الناخبين كافيًا لانتفاضة الحرس الثورىِّ بالأصالة، أو عبر الوكلاء، وبينما يُمكنُ أنْ يُغريَهم فوزُ «هاريس» بالردِّ الصاخب لإرساء مُعادلاتٍ جديدة؛ فهذا مِمَّا يُلاقِى إرادته بالذهاب لنقطةٍ أعلى؛ بغرض تطويق السيِّدة الديمقراطية مُبكِّرًا، وإجبارِها على توقيع عقودِ إذعانٍ لا تختلفُ عن التزاماتِ سَلَفِها. وفى الحالين؛ ستكون الصناديقُ محطّةً لتصفير العدَّادات؛ بمعنى أنَّ مراسمَ التسليم والتسلُّم بين رئيسين؛ ولو من طيفٍ واحد، ستجعل كلَّ اشتباكٍ لاحقٍ أقربَ إلى صورة العدوان، كما لو أنه بدايةٌ من الصفر، وتصويبٌ مُباشر على الرئيس الجديد.


الشِّقاقُ بين واشنطن وتلِّ أبيب ظاهرٌ للعيان، ولا يُمكنُ الاستناد إلى كثافةِ الدعم فى إنكار أنَّ الرُّؤى مُتنازِعَةٌ للغاية بشأن حال الميدان ومآلِه. أرادَ «بايدن» أن يُلملِمَ الصراعَ مُبكِّرًا عن الآن، وعجزَ بأثر عوامل عِدّةٍ بينها مُيولُه العقائديَّة، ورخاوتُه السياسيّة، وجنونُ الائتلاف التوراتىِّ الحاكم فى إسرائيل. على هذا المعنى؛ تصحُّ الإشارةُ إلى ما تردَّد مُؤخَّرًا تحت عنوان التسريبات، ونشرته قناةٌ عبر تطبيق تليجرام محمولاً على أنه جانبٌ من تفاصيل الضربة المُرتَقَبة لإيران، ويُحتَمَلُ أنه مِمَّا مَرَّرته قناةُ البيت الأبيض بغَرض تطويق نتنياهو أو تعديل خياراته. والأخيرُ واعٍ تمامًا إلى أنه مُنكَشِفٌ على المشهد الأمريكىِّ، ولديه فاعليّةٌ معنوية تُمكِّنه من حَرْفِ مسار السِّباق، وبقدر ما يسعى لاستخدامها فِعليًّا؛ فإنه يتجنَّب المُجاهرةَ بها أو استثارةَ الديمقراطيِّين صراحةً، وهو يعلمُ أنَّ مُستقبلَ خُصومِه أسود مع ترامب؛ لكنه لن يكون وَرديًّا مع كامالا، وبالتالى فإنه يتخيَّرُ بين رِبحين، لا بين ربحٍ وخسارة، وهذا ما لا يتوافرُ للطرف الآخر على الإطلاق.


فى السياسة كما فى الحرب؛ يتعيّنُ أنْ تعرفَ عدوَّك جيَّدًا، وألَّا تجهلَ نفسَك أيضًا. وبينما أظهرَ الصهاينةُ وعيًا عميقًا بالآخر، وضغطوا بكلِّ الصور على أعصابه القاتلة؛ فإنه على العكس، بدت المُمانَعةُ أقلَّ معرفةً به وبذاتِها. هذا ما يُفسِّر تكرارَ الانتكاسات، واستفحالَها مرَّة بعد مرّة، كما لا يُبشِّرُ باعتدال الموازين؛ وقد قدَّمَتْ آخرَ ما فى مُستطاعِها، بينما يتأهَّبُ نتنياهو لاستبدال حليفٍ بمَنْ تُطابقه مظهرًا ومَخبرًا، أو استقبال الصديق الأكثر جنونًا ومُطابَقةً لصورتِه المثاليَّة. إنها أخطاءُ المَواقيت والحسابات الخفيفة؛ إذ أصابته من جانب غزّة فى أشدِّ حالاته ارتباكًا وبحثًا عن طوقِ نجاة، وأتاحت له سنةً كاملةً قبل أن تضع الشيعيّةَ المُسلَّحةَ أمام امتحانٍ مأساوىٍّ مع احتمالية رجوع ترامب. تدفَّقتْ الهدايا على ذئب الليكود منذ اليوم الأوَّل؛ وأهمّها أنَّ أعداءه أعانوه على تذخير الانتخابات الأمريكية، وحوّلوها إلى رصاصةٍ مُرجَأة فى بندقيَّتِه التى ما توقَّفت عن حصد الضحايا، ويبدو أنها لن تتوقَّف قريبًا.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة