في الوقت الذي ترتكز فيه المعركة التي تخوضها إسرائيل، في اللحظة الراهنة، على العدوان الغاشم ذو النطاق المتسع، الذي امتد من قطاع غزة، مرورا بلبنان، وسوريا والعراق، وحتى اليمن، وصولا إلى إيران، فإن معركتها الأخرى، تحمل نطاقا دبلوماسيا، بينما تحمل شراسة لا تقل في تأثيرها، عن الاعتداءات العسكرية، التي وصفها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في عدة تصريحات له، بأنها ستغير شكل الإقليم، وهو ما يبدو بوضوح في حالة الشد والجذب التي تنتهجها الدولة العبرية مع حلفائها في الغرب الأوروبي، ومن قبلهم الولايات المتحدة، في ضوء ما يبدو من تصريحات عدائية متبادلة، تارة، وخطوات عملية، من قبل بعض الدول، أبرزها الاعترافات بفلسطين، قرارات تتعلق بحظر تصدير الأسلحة للاحتلال.
المعركة الأخرى لنتنياهو، والتي تستهدف حلفائه، اعتمدت خطة ممنهجة، تقوم في الأساس على العديد من الأبعاد، أبرزها تقويض الثوابت، وأبرزها الديمقراطية، التي تمثل مدخلا مهما لنفوذ القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسهم واشنطن، وهو ما تناولته في مقالي السابق، عن طريق الحشد ضد تيار بعينه، وهو ما بدا في مشهد نتنياهو أمام الكونجرس، أو من خلال التصعيد العسكري، في مناطق تتسم بقدر كبير من الحساسية، على غرار اليمن، وما سوف يترتب على ذلك من تداعيات اقتصادية، من شأنها تأليب الشارع الداخلي، وذلك بالتزامن مع صعود تيارات اليمين المتطرف، نكاية في القادة المتقاعسين عن تقديم الدعم للحرب الشرسة، بالإضافة إلى خلق مساحة توافقية أكبر مع المعارضة، حال وصولهم إلى السلطة، في ظل تشابك المصالح والتقارب الأيديولوجي، وهو ما يفسر الدعم الضمني للمرشح الجمهوري دونالد ترامب.
إلا أن ثمة بعدا آخر، لا يمكن غض الطرف عنه، وهو الحرب التي تخوضها إسرائيل ضد الأمم المتحدة، والتي تحمل في جوهرها مسارات متوازية، أولهما سياسي، عبر الهجوم على المنظمة الدولية الأكبر، واستهداف أمينها العام أنطونيو جوتيريش بشكل مباشر، عبر مطالبته بالاستقالة تارة، ومنعه من دخول تل أبيب تارة أخرى، وذلك ردا على مواقفه التي ألقى فيها باللوم على استمرار حالة الاحتلال، ودعمه الكبير لوقف إطلاق النار، وحل الدولتين، باعتباره السبيل الوحيد لإرساء الاستقرار في المنطقة، والعالم، بينما قام مندوب الدولة العبرية بتمزيق الميثاق الأممي على العلن، وداخل محرابها، في تحد سافر للعالم بأسره، سواء الحلفاء أو الخصوم، بما يحمله من إشارة رمزية مفادها أن إسرائيل فوق القوانين والأعراف، في حين يبقى تجاهل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن المرتبطة بغزة ولبنان، جزءً لا يتجزأ من حملة الاستعداء التي يشنها نتنياهو وحكومته على المنظومة الأممية.
بينما يحمل المسار الآخر بعدا عسكريا يقوم على استهداف منظمات تابعة للمنظومة الأممية، في مناطق الصراع، وهو ما يبدو في أحدث صوره، في الهجوم على قوات اليونيفيل في لبنان، وقصف منشآت تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، في غزة، ناهيك عن مصادرة مقرها في القدس الشرقية، وهو ما يمثل امتدادا ليس فقط للانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل، وإنما يحمل حالة من الاستهزاء للمجتمع الدولي، والنظام العالمي الراهن، والذي اعتمد لحظة بزوغه المنظمة الأممية باعتبارها مصدر الشرعية في صورتها الدولية.
المسارين سالفي الذكر، في حملة الاستهداف الإسرائيلي الممنهج للأمم المتحدة، حمل بعدا قضائيا، عبر تجاهل الأحكام الصادرة من قبل محكمة العدل الدولية، والتي دعت إلى وقف إطلاق النار، بالإضافة إلى إنهاء حالة الاحتلال للأراضي الفلسطينية، وهو ما يتوافق مع الشرعية الدولية، القائمة على حل الدولتين، والتقليل منها.
الموقف الإسرائيلي من الأمم المتحدة، ربما يحمل استشعارا بحالة الحشد الدولي، الذي تواجهه، والذي ساهم في انقلاب المواقف الدولية بصورة كبيرة تجاهها، في ضوء تراجع الدعم الذي كانت تحظى به قبل عملية طوفان الأقصى، أو مع بدايته، عندما تبنى جزء كبير من دول العالم، وفي القلب منهم دول المعسكر الغربي، ذريعة الدفاع الشرعي عن النفس، وهو ما بدا في الدعم الكبير من قبل أعضاء الجمعية العامة، لمنح فلسطين العضوية الكاملة بالمنظمة الدولية، وكذلك تصويت أغلبية أعضاء مجلس الأمن لصالح نفس الأمر، وكذلك دعمهم لقرارات وقف إطلاق النار، وهي القرارات التي قوضها الفيتو الأمريكي مرارا وتكرارا، بينما في الوقت نفسه يمثل جزءً لا يتجزأ من خطتها الهادفة إلى تقويض نفوذ حلفائها، وعلى رأسهم واشنطن، رغم مواقفها السالفة الذكر، في دعم تل أبيب، حيث يرتبط نفوذها بصورة كبيرة بالمنظمة، ليس فقط في إطار سيطرتها على مراكز صناعة القرار داخلها، وإنما في إطار رمزي، يتجسد في الرعاية الأمريكية للمنظمة منذ نشأتها والتي تأسست في عام 1945، وللمفارقة من قلب مدينة سان فرانسيسكو، عندما وقعت الدول الأعضاء على ميثاقها هناك، في ضوء الخلاف بين أمريكا وإسرائيل حول إدارة الحرب في غزة.
وهنا يمكننا القول بأن معركة إسرائيل ضد الأمم المتحدة، بالإضافة إلى سياساتها المناوئة للحلفاء في الغرب، سواء في أمريكا أو أوروبا الغربية، يمثل محاولة صريحة لسياسة "عولمة" الفوضى، والتحول بها من النطاق الإقليمي الضيق، إلى نطاق عالمي، وإن اختلفت الأدوات، بين البعد العسكري، كما هو الحال في منطقتنا، من جانب، أو استهداف البعد القيمي، عبر تقويض الثوابت الدولية، من جانب آخر، وحتى استهداف المنظومة الأممية بصورتها الجمعية، عبر الهجوم على الأمم المتحدة، ومحاولات تقويضها، في إطار شغل الرأي العام العالمي، عن فشل الاحتلال، وعجزه عن تحقيق أهدافه، مع خلق مساحة إضافية أمامه لارتكاب المزيد من الانتهاكات.