حازم حسين

حرب المُختل وهُدنة المُتشائل.. عن مواءمة المحتل والمُمانع وأثرها على غزة ولبنان

الإثنين، 28 أكتوبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الوصولُ للذُروة دائمًا ما يتبعُه انكسارُ المُنحنَى، لهذا قد يصحُّ التفاؤل باحتدامِ الحروب؛ رغم خسائرها الباهظة، انطلاقًا من كونها السخونةَ التى ليس بعدها تسخين، وأنه لا مَفرَّ من الذهاب فيها إلى التبريد الاضطرارىِّ.. إنما المشكلةُ بالنظر لحال غزَّة، أنها سلسلةٌ مُتتابعة من المُنحنيات الصاعدة والهابطة، لا ينكسرُ أحدُها إلَّا ليرتَقِى بديلٌ عنه. والمشهدُ الراهنُ يُشبه نقطةً هابطة، يُحتمَلُ أن تفضى إلى مزيدٍ من الهبوط الناعم، أو تنقلبَ صعودًا نحو ذُروةٍ جديدة.


وإذ نرى الأوراقَ الحاضرة على الطاولة، تغيبُ عَنّا القَطبةُ المَخفيَّة وراء الظهور وبين تلال الأوراق والمُداولات، ولا نعرفُ ما يُرتِّب له نتنياهو فى السِّرّ، ولا كيف تتعاطى الفصائلُ الغزّية مع الجولة الجديدة؛ وكلاهما لديه نسختُه الخاصّةُ من النصر والهزيمة، وما يزالُ مُتشدِّدًا فى طَلبِها بينما تجاوزَها الميدانُ تقريبا، وصارت عَصيَّةً على السياسة والسلاح معًا. وما يُغذِّى الأملَ أنهما وصلا لطريقٍ مسدود تجاه الخيارات السابقة، وما ينسفُه أنَّ القرارات لا تُؤخَذُ بالعقل وحدِه، ولا وفقَ الحسابات المنطقية على الأرض. إنها مُقامرةٌ كاملةُ من الطرفين، وتقطيعٌ للوقت، ورهانٌ على المجهول، أو بالأحرى على الذاتىِّ بدلاً من الموضوعىّ.


استضافَتْ الدوحةُ أمسِ، بالتزامن مع كتابة المقال، اجتماعًا لوفدٍ أمنىٍّ إسرائيلىٍّ مع ثُلاثى الوساطة، بجانب مُمثِّلى حركة حماس، على عادة المُفاوضات غير المُباشرة. وقد سبقَه الحديثُ عن ورقة بايدن مُجدَّدًا، وعن تحديثاتٍ عليها من بعض الأطراف، ومُقترَحٍ جديد صاغَتْه حكومةُ نتنياهو، يختلفُ فى التفاصيل والمَواقيت، ويصلُ إلى الغاية نفسِها بشأن الجلاء عن القطاع، وإفراغ مِحوَرَى نتساريم وفيلادلفيا، وتنشيط إدارةٍ مدنيَّة تبدأُ بمُعاونةٍ إقليمية ودولية، وتُفضى إلى صيغةٍ تتَّصل بالسُّلطة الوطنية على قاعدةٍ تأسيسيَّة جديدة.


ومع التعويل على الورشةِ المُحدَّثَة؛ لا لشىءٍ إلَّا أنَّ اليأس رفاهيةٌ تتجاوزُ الظرفَ وتتعالى على مَواجِع الغَزِّيين، فإنَّ سوابقَ التجارب لا تُرجِّحُ الرهانَ على الليكود وائتلافه الصهيو-توراتى فى أشدِّ حالاته جنونًا وانحطاطًا، كما لا تُبشِّرُ باختلاف مواقف الحماسيِّين تأسيسًا على ثِقَل الضربات التى طالتهم، أو انحلال قبضة الصقور وإعادة القرار جزئيًّا لمُعسكر الحمائم.. فالزمن، وإنْ تحرَّك بالجميع عَمليًّا؛ فإنه لم يحرِفْ الحركةَ عن فِتنتِها بالطوفان وآثاره الوقتيّة، مع استبعادٍ غشومٍ لكلِّ ارتداداته اللاحقة، كما أنه حَفَّز مخابيلَ تل أبيب، وأغراهم بأثرِ المكاسب الميدانيَّة على جبهاتٍ عِدّة، وعزَّز الضغوط على الفصائل من جانب المُمانعة، بعد اضطرار المحور للتساهُل فى الجبهات الرديفة، وتعويضِه عن ذلك بالتشدُّد على الجبهة الأساسيّة.


نظريًّا، تتوافرُ كلُّ الظروف الموضوعيَّة اللازمة لإبرام صفقةٍ.. تضرَّر القطاعُ إلى درجةٍ تفرضُ البحثَ عن مخارج سياسيّة وإنسانية عاجلة، ولم تعُد «حماس» قادرةً على احتواء الضرر، أو إيلام العدوِّ ورَدِّ أذاه عن المدنيِّين العُزَّل، أمَّا الاحتلالُ فقد حقَّق أقصى المُتاح من رُزمة أهدافه المُعلَنَة، وأعاقَ الجغرافيا الضيّقة لا عن أن تكون مصدرًا للخطر فحسب؛ بل أن تظلَّ صالحةً للحياة أصلاً، فضلا على المُكتسبات الضخمة على الجانب اللبنانى، وتقليم أظافر «حزب الله» من قيادته العُليا إلى مُستوياته الميدانيَّة الفاعلة.


وبعيدًا من الورقة والقلم؛ فإنَّ الشروطَ المُؤسِّسة لحال التهدئة يبدو أنها لم تَنضُج بعد، أو أنَّ دُونَها سِلسالاً من المصاعب والعراقيل، المقصودة والاعتباطية، لا تختلفُ فيها مُناوشاتُ الجيوب الحماسيَّة الباكية على الأطلال، عن مُؤشِّرات تفعيل «خطّة الجنرالات» لتفريغ شمال غزّة، ولا الاشتباك الدائر جنوبىَّ الليطانى، وسط محاولاتِ الإحياء المُعقَّدة للقرار 1701 بعد عقدين من مَوتِه السريرىِّ، وتظلُّ الغيومُ المُعبِّئَة للأُفق بين تل أبيب وطهران، أخطرَ ما ينفخُ فى شهوة الصهاينة، ويُهدِّدُ مسارات البحث عن تسوياتٍ مُثمِرَة.


على طُول الشهور الماضية، وصلَتْ الحربُ على الغزيِّين إلى أكثر من ذُروةٍ ومُنحنى. كانت مجزرةُ المُستشفى الأهلى المعمدانى والجرائمُ الكبرى فى افتتاحية الغزو البرىِّ، المَجمرةَ التى نضجَتْ على لَهيبِها مفاعيلُ الهُدنة الوحيدة فى نوفمبر الماضى، وتصاعَدَ البحثُ فى تجديدِها عبر لقاءى باريس بعد مذابحَ عديدةٍ، وترفيعِ المسألة إلى محكمة العدل الدوليَّة، وطُرِحَتْ الورقةُ المصرية وتقدَّمت فى أجواء التسخين على محور إيران وإسرائيل، فى فاصلِ الرَّيبة بين قصفِ قُنصليَّة الأُولى بالعاصمة السورية، ورَدّها عليه فى استعراض للصواريخ والمُسيّرات أشبه بليالى الألعاب النارية.


أمَّا ورقة بايدن فصِيغَتْ بعد اجتياح رفح والسيطرة على الجانب الفلسطينىِّ من المعبر، وتعطَّلت تمامًا باغتيال إسماعيل هنيَّة فى قلب طهران، فيما بدا أنه مُقدِّمةٌ لذُروةٍ جديدة، أفضَتْ ضمن نتائجها الصاعدةِ لتصفية حسن نصر الله وخليفته هاشم صفى الدين، ثمَّ يحيى السنوار نفسه، واستدعاء الأصيل فى محور المُمانَعة للمُواجهة، بدلاً من بقائه وراء ستار الوكيل. والرقصةُ الصهيونية الشيعيَّة أنتجَتْ كثيرًا من الحرارة، وأثارت الغُبارَ فى عُمومِ الإقليم، قبل أن يخفُتَ إيقاعُها مطلعَ الأسبوع الجارى، فيما يُشبِه صفقةَ الكواليس برعايةٍ أمريكية، أو لعلَّها وَقفةُ التثبُّت فى انتظار ساكنِ البيت الأبيض الجديد.


ليس خفيًّا أنَّ نتنياهو يُعلِّق عينيه منذ الآن على مشهد تنصيب ترامب؛ بينما يُمنِّى المُرشِدُ نفسَه بتجديد إدارة أوباما لمرّة ثانية مع كامالا هاريس. الأوَّلُ يُفاضل بين الجيِّد والأجود، على خلاف الثانى الذى يقعُ بين خيارين أحلاهما مُرّ؛ ما يجعلُه مَعنيًّا بتلك المُفاضلة أكثرَ من غيره، لا سيّما أنَّ تمَدُّدَ مشروع الشيعيَّة المُسلَّحة وتمكينه إقليميًّا، قد حدثَا تحت رايةِ الديمقراطيين، ولا تحفظُ الذاكرةُ لمُنافسِهم الجمهورىِّ إلَّا أنّه مَزّق الاتفاقَ النووىَّ، ونحَر جنرالَهم الذهبىَّ قاسم سليمانى دون اعتبارٍ للمُواءمة السياسية. وإذا كانت المواقفُ الكُبرى ستتحدَّدُ فى ضوء الانتخابات؛ فليس مُنتَظَرًا أن يخلع النازىُّ الصهيونىُّ قُفازاته، كما لا يُؤمَل أن تتوقَّف البندقيَّةُ الصفويَّة المُستأجَرة عن الإطلاق من غزَّة ولبنان.


يَفوتُنا فى الصراعِ أن نُذاكرَ عدوَّنا؛ بينما الجلىُّ أنه يتعمَّق فينا حتى النُخاع، وربما يعرفُ عنَّا ما نجهلُه فى أنفسِنا. هكذا انطلقَ من كلِّ الافتراضات العتيقة لدى الفصائل؛ ليُهشِّمَها دفعةً واحدة. وإذ تَوهَّم «السنوار» على الأرجح أنهم سيصرخون صرخةً عنيفة، ثمَّ ينقلبون بعدها إلى الصفقة المأمولة، كان لدى نتنياهو تصوُّر حارقٌ لم يدُر فى أىِّ مخيالٍ ساذج. والمُفاجأة أنهم مُشَوا على عقيدة «الجدار الحديدى» بمَمحاةٍ، وبدَّلوا ما قعَّدَه «بن جوريون» ورفاقُه عن ثوابت الاستراتيجية العسكرية، فكانت الحرب الطويلة، وعلى جبهاتٍ مُتعدِّدة، وفى الداخل كما فى الخارج. وإذ يُمارِسُ الحَمَاسيّون ورُعاتُهم «عَضَّ الأصابع»؛ فكأنهم يقفون على التراث القديم، ولم يتجاوزوا نشوةَ الطوفان العابرة، وهو ما لا يستقيمُ مع أيَّة رغبةٍ إنقاذيَّة يتعيَّنُ أن يتَحَلَّوا بها، وتفرضها عليهم الالتزاماتُ السياسيةُ قبل الأخلاقيّة.


إنَّ القُدرةَ على الخروج من الحرب لا تقلُّ أهميَّةً عن الاقتدار على دخولها. وأهمُّ من مَعرفة وَصفَةِ النصر، أن تعرِفَ كيفيَّةَ الهزيمة؛ لا لشىءٍ إلَّا أنَّ الربحَ يُضيفُ ولا يأخذُ، بينما الخسارةُ تُبدِّد وتُهدِّد ما فى اليدِ أصلاً. والثابتُ أنَّ «السنوار» لم يكُن جاهزًا للحرب على أىٍّ من معانيها، ولا لِمَا بعدها بشروطٍ عادلةٍ أو مُذِلّة، وكلُّ ما فى الأمرِ أنه أطلقَ الرصاصةَ وتغَزَّل فى صداها الصاخب، مُتعَشِّمًا فى أن يُلاقيه الحلفاءُ على منصّة الرماية، أو أن يستدرِجَهم إليها عنوةً. والاستعادةُ هُنا ليست لِلّوم ولا تعليق الخطايا فى رقابِ أصحابها؛ إنما لأنَّ التأسيسَ الذى بُنِيَت عليه المَقتَلَةُ قبلَ سنةٍ، هو ما يتضافرُ مع جنونِ الصهاينة فى إطالتِها إلى اليوم، ويُجبِرُ القضيَّةَ بكاملِها، لا القطاع وحده، على خَوض مُنازلةٍ لم تتحضَّرْ لها، ولا أُخطِرَت بتفاصيلها، وليس فى خزانة إمكاناتها ما يسمحُ لها بالمناورةِ فيها، أو الهروب من استحقاقاتِها المُضنِيَة.


باختصارٍ؛ هُزِمَت الفصائلُ فى تجربةٍ نِضاليَّة، ولا معنى للاختلاف الآن على توصيفِها بين المُقامرة أو المُغامرة المحسوبة، كما لا يعنى ذلك أنها أُبعِدَتْ وُجوبيًّا من الطريق، ولا أنَّ صِفَة الانكسار تنسحبُ بالضرورة على المشروع الوطنىِّ بكامله. ستظلُّ القضيَّةُ حَيّةً وطازجة، وليس السلاحُ الطريقَ الوحيد لبَعثِها أو نَفخ الروح فيها، إذ ثمَّة صُوَرٌ عديدةٌ وغَنيّةٌ للمُقاومة الفاعلة، من هَياج القوَّة إلى رزانة الدبلوماسية، وبينهما سِكَّةٌ طويلةٌ مَرصوفةٌ بالبقاء والتحدِّى ومعارك الديموغرافيا والأرحام. والحال، أنَّ انتدابَ جُندىٍّ واحدٍ من الجيش يُضعِفُ القُدرةَ الإجماليَّة، ويقضى على الفردِ بالإعاقة أو الإبعاد، ما يفرِضُ إعادةَ النظر سريعًا فيما وَصَلَتْ إليه الأجندةُ التحرُّرية، والعمل على تصويبِها وضَبط المسارات فيها، وصولاً لتفعيل عناصر القوَّة الشاملة بدلاً من الاكتفاء بأحد تجليَّاتها، ومن البديهىِّ أنَّ الإجماعَ حصنُها المنيع، وأثمنُ أُصولِها الباقية.


ربما لم يعُد قرارُ الخروج من الميدان فى عُهدة حماس؛ لكن الارتداد عن تيَّار المُمانَعة؛ بعدما تبدَّت منه الهشاشةُ والانتهازيّة، مع العودةِ إلى القِبلَة الوطنيَّة وحدها دون شريكٍ أو مُنازِع، ربما تتحقَّق منهما الضمانةُ الأهمُّ لاستيعاب الإخفاقات وعدم تكرارها، والتمرُّد على قاعدةِ أنَّ الحروبَ لا تنطفئُ فى غزَّة إلَّا لتندَلِعَ مُجدَّدًا، وأنَّ الخسائرَ فيها جميعًا تكون من نصيب القطاع المأزوم، وحتى المُقابل عن النزيف والأرواح لا يُصرَفُ لرصيد فلسطين حصرًا، بقدر ما تتخطَّفه أيادى العدوِّ والصديقِ بحسب الأحوال. لقد عاينَ الحماسيِّون أثرَ الانخراط فى تحالُفاتٍ لا تضعُ شواغِلَهم على رأس أهدافِها، وتنظرُ لهم فى أحسنِ الظروف على صِفَة القاعدةِ المُتقدِّمة، أو البيدقِ الجاهز للتضحية من أجل الحفاظ على الشاه. وإذا كانت للشطرنج أُصولٌ ساسانيّةٌ فارسيَّةٌ بالتاريخ؛ فإنه لِعبةُ عُقولٍ فى الأساس، وميزةُ العقل أنه خزَّانٌ للتجارب والخبرات، ورادعٌ عن اجتراح المحاولات الفاشلة، أو عن استمرائها مرَّةً بعد أُخرى.


كشفَتْ الأيامُ الأخيرة عن مُداهنةٍ وتوافقاتٍ تحت الطاولة. لقد تسامحَتْ الشيعيَّة المُسلَّحة مع الخسائر التى يقعُ عبءُ الثأر لها على عاتق الجمهورية الإسلامية، بينما تتشدَّدُ فيما يُسدَّدُ من حساب فلسطين ولبنان.. مَنشأُ دعاية «وحدة الساحات» من طهران؛ لكنها تقاعَسَتْ عن تفعيلِها عَمليًّا، وأجبرت حزبَ الله أن ينوبَ عنها رغم المخاطر الظاهرة. وإذ منعَتْه من التصعيد بتوظيف كامل إمكاناته اللوجستية؛ فإنها وجّهته للردِّ على اغتيال هنيّة فى أحضانها، وعلى قصف القنصليّة، وما قبله وبعده من تحرُّشٍ مُباشر، مُقابلَ الرقص الخفيف من جانبها فى استعراضاتٍ ناريّة بعِلْم الوصول.


وما حدثَ فى الضربةِ الإسرائيليَّة لإيران قبل يومين، أنَّ الاحتلال أخطرَها بالأمرِ من قنواتٍ وسيطة، وانقلَبَ على خطاباته الزاعقة، مُتجنِّبًا الإيذاءَ وتسعيرَ الأجواء بينهما، وإذا كانت التسويةُ قد جَرَت برغبةٍ من واشنطن، وبإملائها على الطرفين؛ فلا معنى للقبول إلَّا أنَّ العمامةَ الأقدسَ ترتضى بالتوافُق المشبوه، وتُضحِّى بالأطراف دفاعًا عن المركز، أو تترقَّبُ ما ستُسفِرُ عنه الأيَّامُ قبلَ حَسمِ خياراتها، والترقُّبُ بطَبعه يفرضُ أن يبقى الميدانُ ساخنا، ولا سبيلَ للحفاظ على اتِّقادِه سوى بإحراق مزيدٍ من قُدرات حماس والحزب/ أو الفلسطينيين واللبنانيين على التوصيف الدقيق.


ما يفتحُ البابَ للتفاؤل بشأن الهُدنة، هو نفسُه ما يُوجِبُ التشاؤمَ والارتيابَ أيضًا. أو «المُتشائل» على ما أسماه إميل حبيبى بنحتٍ لغوىٍّ حاذقٍ فى روايته ذائعة الصيت. وما بين تشريحِ المحنة الوطنية عبر نقديَّة ساخرةٍ، ومُزاوجة الهزل السياسىِّ بالهجاء الجارح، والنكبة بالخرافة، فتحَ بالكتابةِ بابًا على الحَفر فى الجُروح الغائرة، وهدمَ الجدارَ كاملاً عندما تلقَّى جائزةَ إسرائيل للأدب العربىِّ قبل شهورٍ من اتفاقية أوسلو، وبرَّر موقفَه وقتَها بأن «حوار الجوائز خير من حوار الحجارة والرصاص»، على ما يعنيه من اعترافٍ بالآخر العربىِّ، وتكريسٍ عملانىٍّ له، وكَتْمٍ للبنادق الصهيونيَّة بأيادٍ عِبريةٍ لا تختلفُ عن حامليها فى المنطق والمُعتقد، ولا فى شَبقِ انتزاع الأرض من مُلَّاكِها.


صحيحٌ أنَّ القضيّةَ لا يُضمَنُ بقاؤها بهذا المنطق مُنفرِدًا؛ لكنها انحدرَتْ واضمحَلَّتْ فى كلِّ المحطات السابقة؛ حال تغليب السلاح على ما عداه من خياراتٍ. والعِلّةُ ليست فى مادّة المُقاومة أو هُويّة المُقاوِم؛ إنما فى القطيعة مع الذاكرة وتاريخِها النضالىِّ، والانصراف المجانىّ غير المفهوم عن أن تكون فلسطين جسدًا واحدًا فى خطابات أبنائها، قبل أن يُطلَب من الغريمِ السماحُ بتوقيعِها فى فضاء الجغرافيا والزمن.. إنَّ النزاع ما لم يُحسَمْ داخل الوعى الفلسطينى أوَّلاً؛ فلا سبيلَ لحَسْمِه مع الصهاينة أو غيرهم، والدولةُ ما لم تكُنْ حاضرةً بتمامِها فى خيالِ أصحابها؛ فلا أملَ فى فَرضِها على واقع العدوّ، وفوق أجندته الإلغائيَّة الحارقة.


المفارقةُ فى مُداولات الهُدنة، حاليًا وفى السابق، أنَّ الوسطاء أو أغلبهم على الأقل يخلصون لها ويطلبونها أكثر من المَعنيِّين المُباشرين بها. وبعيدًا من التعقيدات الخارجية؛ فالظاهرُ أنَّ «حماس» مَردوعةٌ عن تقديم التنازُلات المطلوبة بأمرٍ علوىٍّ من المُمانَعة، أو أنها تستنكفُ الخسارةَ القريبة لصالح مُنظَّمة التحرير، وتُفضِّلُ عليها المُغامرةَ البعيدة ولو أطاحت بهما معًا. إنَّ سرديَّةَ الصمود والنصر لم يعُد لها مكانٌ فعلىٌّ على أطلال القطاع ورُكام أشلائه، وكلُّ ما تفعلُه أنها تُسوِّغُ جنون نتنياهو وتُذَخِّرُ بندقيَّته.


وعلى الجانب الآخر؛ فقد قُمِعَ الحزبُ من جانب وُلاةِ أمرِه، بعدما أبدى قبولاً ضِمنيًّا للانفصال عن جبهة غزَّة، وفَوَّض رئيسَ مجلس النواب، نبيه برّى، بالتفاوض عنه. ولم تكتَفِ الخشونةُ الإيرانية بإجبار نعيم قاسم على استدراكِ كلامه سريعًا؛ بل تمادَتْ بدَفع رئيس برلمانها وجنرالِ الحرس الثورىِّ السابق وابن شقيقة زوجة المُرشِد، باقر قاليباف، ليُصرِّح للصحافة الفرنسية بجهازيَّة بلاده للحُلول بدلاً من بيروت، بشأن الاتفاق على ترتيبات تفعيل القرار الأُمَمىِّ رقم 1701. والصورةُ كما لو أنَّ القيادةَ لا تتجنَّبُ الدفاعَ عن أذرُعها فحسب،؛ إنما تستميتُ فى استتباعِها بالآليّة الوظيفيَّة نفسِها؛ بمعنى أنْ تظلَّ «الدوبليرَ» عن العاصمة المُقدَّسة حتى الرمق الأخير.


على المعنى السابق؛ فإنَّ الذروةَ الجديدة لحربِ المُختل لا يُنتَظَرُ منها أن تُفضِى لهُدنةِ المُتشائل. جانبُ التفاؤل فى الخروج من الاحتدام إلى التهدئة، يتبدَّدُ سريعًا بالنظر إلى طموحات طهران وتل أبيب، وجانبُ التشاؤم فى تطلُّعات «حماس» الأيديولوجية والتنظيمية لم يطرأ ما يَشِى بتفكيك قُيودِه الخانقة. لقد عاد نتنياهو لإرسال وُفودِه الأمنية للقاهرة والدوحة بينما كان يُخطِّط لقَصفِ رأس المُمانَعة، والأخيرةُ تتحدَّثُ عن حقِّها فى الردِّ والدفاع عن النفس، بعد كلِّ ما سَرَّبَتْه من قنواتٍ خَفيّة وظاهرة، بشأن استعدادِها لاحتواء أيّة ضربةٍ رمزيّة لا تتسبَّبُ فى أضرارٍ حقيقيّة. وبهذا سيستهلِكُ زعيمُ الليكود الوقتَ كعادته، وسيظلُّ الخنجرُ الشيعىُّ مُشهَرًا على الحلفاء قبل الأعداء؛ لتثبيتِهم رغم مواجعهم، والتركيبةُ هكذا تتكفَّلُ بإفساد المُقاربات من داخلها، وتسمحُ لكلِّ طرفٍ بأنْ يُعلِّق التهمةَ فى رقبة الآخر.
القَصدُ أنَّ الاحتلال يتحرُّك بمنطق نتنياهو، و«حماس» تنطلقُ منذ البداية من أرضيّة شيعيَّة مُمانِعة، لا من مُنطَلَقٍ فلسطينىٍّ. وما صعَّد الحربَ وعَسَّر تناسُلَ الهُدَن من بعضها، هو نفسُه ما يحكمُ الساحةَ الآن بعد كلِّ ما شهدته من تحوُّلاتٍ؛ والخسائرُ تُصلِّبُ مواقفَ الفصائل، والمكاسِبُ تُغرى ائتلاف التوراتيِّين وتُضاعِفُ أطماعَهم. وإذا كانت ضربةُ الردِّ على إيران تأخَّرت لنحو أربعة أسابيع، على خلاف عادة إسرائيل؛ فإنها تقصَّدتْ أنْ تضعَ اللمسةَ الأخيرة على المشهد قبل الانتخابات الأمريكية، فتبدو كأنها استعادَتْ الرَّدعَ، وتضمنُ استدامتَه مع أرجحيّة صُعود ترامب.


ولو مَدَدْنا الخطَّ على استقامته؛ فالمُختلُّ المُتسلِّطُ على تلِّ أبيب لن يُقَدِّم للحماسيِّين ما يُحمَلُ على صِفَة النصر، وهُم من جانبهم لن يُقرّوا له بالهزيمة؛ حتى لا يخذلوا الشيعيّةَ المُسلَّحة، ولو وقعَ الخذلان على الغزيِّين. وحلقةُ النار هذه لا سبيلَ لكَسرِها من دون ضغوطٍ أمريكيَّة صادقة، وترويضٍ للنازيّة الصهيونيّة بكلِّ السُّبل المُمكنة، وارتدادٍ إيرانىٍّ إلى الخُلق واستقامة الضمير، وأن تعودَ الفصائلُ للحظيرة الوطنية على معنى الجزء من الكُلّ، لا القائد ولا عنوان القضية الوحيد.. ربما يكون «التشاؤل» الساخرُ الساخنُ على طريقة إميل حبيبى مَنطقيًّا ومُبَرَّرًا فى تلك الظروف، وربما قبوله للجائزة أيضًا مِمَّا يفتحُ المَدارِكَ على خياراتٍ بديلة؛ ولو كانت خُلاصةُ النكبة الحالية أنْ تتحرَّرَ فلسطين تشظِّيها القديم، ومن الاستتباع والاستخدام الوظيفى والدعائى وفقَ لعبة الأحلاف والأُصوليَّات؛ فلعلَّها تكون أثمنَ وأهَمَّ ما حقّقته منذ أُوسلو إلى اليوم.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة