مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تبدو الثوابت في الولايات المتحدة على المحك، في ضوء التعارض الكبير بين الرؤى التي يحملها مرشحا الرئاسة، في إطار العديد من القضايا، وهو الأمر الذي يبدو ممتدا بين الكيفية التي يمكن أن تتعاطى بها واشنطن مع القضايا الدولية المثارة، مرورا بالعلاقة مع الحلفاء، وحتى الأوضاع في الداخل نفسه، في ظل تغييرات كبيرة طغت على المشهد الأمريكي خلال السنوات الماضية، أبرزها حالة الاستقطاب الحاد، والانقسام الكبير، وهو ما يرجع في جزء كبير منه إلى الاختلاف الجذري في الحياة السياسية في أمريكا منذ بزوغ نجم الرئيس السابق، والمرشح الحالي للرئاسة دونالد ترامب، في انتخابات 2016، والتي حقق فيها فوزا تاريخيا على منافسته آنذاك هيلاري كلينتون، على عكس ما آلت إليه التوقعات والاستطلاعات لشهور طويلة سبقت التصويت.
ولعل الحديث عن ثوابت السياسة الأمريكية، يدفع نحو مناقشة العديد من القضايا، يمكننا تقسيمها إلى مسارات ثلاثة، بدءً من مستقبل الديمقراطية في الداخل الأمريكي، مرورا بالعلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها، خاصة في أوروبا الغربية والشرق الأوسط، وما يرتبط بالمنطقتين من قضايا، تحمل أهمية كبيرة، ذات تداعيات على شعوب العالم بأسره، بالإضافة إلى إدارة العلاقة مع خصوم أمريكا، وعلى رأسهم روسيا والصين، في ضوء ما تحقق لهما من نجاح كبير خلال السنوات الماضية، باعتبارهما قوى فاعلة في النظام الدولي، وبالتالي يمكنهما المشاركة في صناعة القرار العالمي، خاصة فيما يتعلق بالأزمات الدولية الراهنة.
وفي الواقع تبدو المحاور الثلاثة سالفة الذكر محلا للخلاف، إلى حد التناقض الصريح بين مرشحي الرئاسة الأمريكية، وهو ما يمثل بعدا جديدا في الانتخابات المقبلة، حيث كانت بمثابة ثوابت غير قابلة للنقاش، ومحلا للاتفاق بين الأحزاب، التي يمثلها كافة المرشحين، خلال كافة المناسبات السابقة، وهو ما يعكس طبيعة المنافسة، التي وإن كانت تبدو تقليدية كونها تقتصر على الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة، إلا أنها تمثل في واقع الأمر صراعا بين تيار السياسة التقليدية في واشنطن، وتمثله كامالا هاريس، بحكم التزامها بما تفرضه عليها الأجندة الحزبية، بالإضافة إلى كونها شغلت منصب نائب الرئيس الأمريكي في الإدارة الحالية، وهو ما يجعلها مثقلة بالتزامات وربما أخطاء لم تقترفها بنفسها، وإنما تتحمل مسؤوليتها بحكم منصبها، من جانب، وتيار آخر يحمل قدرا من الثورية السياسية، ذات الطبيعة الشعبوية، ويمثله دونالد ترامب، ربما يمثل الحزب الجمهوري، ولكنه في واقع الأمر يمثل نفسه، حيث يبقى متمردا على العديد من الرؤى التي يتبناها الحزب، وهو ما يبدو في انتقاداته الكبيرة لأسلافه من الجمهوريين.
ثورية ترامب تجلت في العديد من المشاهد، ربما أبرزها سياساته التي تبناها في ولايته الأولى، والتي اعتمدت نهجا قائما على تكسير الثوابت، إلى حد التشكيك في الديمقراطية الأمريكية، عندما خسر أمام الرئيس جو بايدن، قبل 4 سنوات، وتحريضه لنائبه آنذاك مايك بنس، بعدم الاعتراف بما آلت إليه نتائج الصناديق، بل تشجيعه لخروج أنصاره إلى مقر الكونجرس لمنع الإعلان عن فوز غريمه الديمقراطي في يناير 2021، وهو ما يمثل مساسا بما يمكننا تسميته بأحد أهم "مقدسات" السياسة الأمريكية، ولذا كان انتصار بايدن في الانتخابات الأخيرة، في نظر الكثيرين، بمثابة طوق النجاة لديمقراطية أمريكا، قبل أن يواصل ترامب هوايته في كسر الثوابت مجددا بالترشح لمرة ثالثة، بعدما فشل في الحصول على ولاية ثانية، في الانتخابات الماضية، وبالتالي يصبح الرهان على هاريس هذه المرة باعتبارها امتدادا للتيار المؤمن بالإرث الديمقراطي لأمريكا.
نهج ترامب تعارض مع أعراف السياسة في واشنطن، ليس فقط في الانقلاب على الثوابت العريضة للأمة، وإنما امتدت إلى النهج الذي أدار به إدارته، وهو ما يبدو في حجم الإقالات والاستقالات التي شهدتها الحكومة الأمريكية، خلال الفترة من 2017، وحتى 2021، وهي سنوات ولايته الأولى، حيث توالي أكثر من شخص على المنصب الواحد، وهو ما يمثل استثناءً مهما في عمل الإدارات المتواترة خلال عقود طويلة من الزمن، وهو الأمر الذي يقدم صورة جديدة للسياسة الداخلية، تقوم في الأساس على مركزية صناعة القرار في يد الفرد، وهو الرئيس، مما يتعارض مع أصول الديمقراطية، والتي تمنح مساحة معتبرة في صناعة القرار لمسؤولي الإدارة.
والمفارقة المثيرة للانتباه، تتجلى في كون الرؤى التي يتبناها ترامب تحظى بشعبية كبيرة، وهو ما يبدو في تصاعد حظوظه، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن قطاعا كبيرا من الأمريكيين بات يمثل قاعدة كبيرة لتلك الأفكار التي يتبناها الرئيس السابق، حتى إذا ما فشل في دخول البيت الأبيض مجددا، بدليل الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في أعقاب فشله في الانتخابات الماضية وما نجم عنها من اشتباكات، تجلت في ذروتها في مشهد اقتحام الكونجرس، بينما تبقى هاريس، باعتبارها المدافع عن التيار التقليدي، القائم على حماية الثوابت، تقديم رؤية من شأنها تحقيق قدر من التحديث على تلك الثوابت، أو بالأحرى "إصلاح"، خاصة مع تغير المعطيات سواء في الداخل الأمريكي، أو الخارج.
طبيعة الصراع الانتخابي في أمريكا، تعكس حقيقة الترهل الحزبي، والتي انعكست في واقع الأمر على هوية المؤيدين لكلا المرشحين، فهاريس حظيت بدعم كبار الجمهوريين، الذي برروا توجههم نحو التصويت لها، بحماية الثوابت، بينما تحرك قطاع من الديمقراطيين نحو تأييد ترامب، باعتباره القادر على تحقيق الإصلاح.
وهنا يمكننا القول بأن الانتخابات الأمريكية المقبلة تعكس اختلافا كبيرا في طبيعة الصراع، والذي بات متجاوزا للأحزاب السياسية في صورتها التقليدية، والتي شهدت تراجعا كبيرا، في السنوات الماضية، نحو الثوابت التي تمثل أساسا اعتمدت عليه الولايات المتحدة في بناء نفوذها وصناعة هيمنتها، منذ الأربعينات من القرن الماضي، خلال حقبة الحرب الباردة، عبر تعميم تجربتها القائمة على الديمقراطية على حلفائها ثم عززته في حقبة الهيمنة الأحادية، عبر تصديرها إلى العالم، وهو ما بدا في محاولات فرضها على العديد من المناطق العالم، من خلال العديد من الأدوات، بدءً من الضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية، وصولا إلى السقوط في مستنقع الحروب العسكرية، وهو ما كلف واشنطن مليارات الدولارات خلال العقود الماضية، وهو ما سمح إلى حد كبير في رواج الأفكار الجديدة التي يعتنقها ترامب في مقابل الديمقراطية المتطرفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة