بين القليل الذى حصَّلَتْه فلسطينُ من المجتمع الدولى، وما تبقَّى لأهلها ضمن الأُصول الكُبرى، والعوامل المُعزِّزة لبقائهم على أراضيهم، تقفُ وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «أونروا» فى صدارته. أخذَتْ الأُمَم المُتّحدة منهم كلَّ شىءٍ تقريبًا لصالح إسرائيل، ومنحَتْهم ورقةً ذات صِفَة إنسانية؛ لكنها تُحوِّطُ على كثيرٍ من الثوابت الضامنة للقضية، وأهمّها على الإطلاق رعاية مَظلَمة اللاجئين، وضمان حَقّ العودة فى نطاق الأمل المُعلَّق، وإنْ تعذَّر الوصول إليه فى المدى القريب. إنها عَمليًّا أضعفُ كثيرًا من إحقاق العدالة؛ لكنها أقوى من تسييل الحقوق المشروعة وصَرفِها فى زواريب البطش والمراوغة، وقد صارت هاجسًا عظيمًا لدولة الاحتلال، وحاجزًا يحُدُّ أجندتَها لتصفية الصراع بالشَّطب والإلغاء؛ لذا فإنها لم تكُن تُوفِّر فرصةً للمساس بالهيئة الأُمَميَّة فى كلِّ محطَّة احتدامٍ سابقة، كما اعتبرت «طوفانَ الأقصى» وتداعياته سياقًا مِثاليًّا للإجهاز عليها. والغرضُ الظاهرُ أنها تستكملُ مُخطَّطَ الحصار والتجويع؛ إنما جوهرُ التصويب عليها أبعدُ كثيرًا، ويتَّصل مُباشرةً بإعادة تحرير المسألة على وجهٍ ثنائىٍّ خالص، يعزلُ العالمَ عن المُنازعة الأبديَّة بصورةٍ كاملة، ويقفز فوقَ سبعة عُقودٍ من الذاكرة النضَّاحة بالعدوان والدم وإهدار الكرامة.
يُسمِّى الصهاينةُ نكبةَ فلسطين بحربِ الاستقلال، ويعتبرون أنها كانت موعدَ الاستحقاق التاريخى، ومحطَّةَ استيلاد الدولة من العَدَم، وعلى حساب العدم أيًضا؛ بحسب زعمِهم. وتلك السرديَّةُ تتصادَمُ واقعيًّا مع الحقيقة الديموغرافية السابقة على الاستيطان وقرار التقسيم، وأنَّ الأرضَ لم تكُن مشاعًا فى المِلكيَّة ولا خاليةً من السُّكّان. وإذا كان التقادُم وتكرارُ الانتكاسات يلعبان فى الوعى، وتُهدَرُ فيهما كثيرٌ من الحقائق التى طُوِيَت بالمذابح أو الإنكار؛ فإنَّ بقاءَ المنكوبين على الثغور المُمكِنَة أتاحَ لهم الاستمساكَ بسرديَّتهم الأصيلة/ البديلة، وإذكاءها فى المِخيال الوطنىِّ والقومى؛ لكنها ظلَّت فى حاجةٍ للإسناد من الخارج، إسنادًا لا يُنشئ المراكزَ القانونيَّةَ الثابتةَ بالتاريخ والواقع، بقدر ما يُعزِّزُ حضورَها فى الضمير العالمىِّ، ويُرَشِّدُ كثيرًا من خطابات الغرب، وانحيازاته الصارخة للفئة الباغية.
القيمةُ المَكينة فى الوكالة أنها الأثرُ الباقى من ورشة التلفيق وصناعة المأساة. لقد تيسَّر لتلّ أبيب أن تتهرَّب من استحقاقات الولادة القسرية، وبينما كان قرارُ التقسيم ينصُّ على دولةٍ عربيَّة تقتسمُ الجُغرافيا محلَّ التنازع، ما يعنى أنَّ شرعيَّة القِسم اليهودىِّ تتأسَّس على القبول الكامل بالشراكة؛ فإنها نجحَتْ عبر المُراوغة الصهيونية المعروفة، وتحت ستارٍ من الحيل الأنجلوساكسونية الوقحة، فى تفعيل شِقٍّ من القرار وإنكارِ الثانى، وانقلَبَتْ على التعهُّدات التى منحتها عضويَّةَ الأُمَم المُتَّحدة بعد سنةٍ تقريبًا من قيامِها، وما تبقَّى من عملية الخداع والتضليل الكُبرى كان استحداث أونروا؛ لتكونَ وعدًا مُؤجَّلاً باستدراك ما فَوَّتَته الظروفُ القاهرة، وعجزَ الفلسطينيون والعربُ عن فَرضِه بالسلاح أو السياسة. وهكذا قد لا تكونُ الصورةُ واضحةً لدى أهل البلد الأصليِّين، أو أنهم يختزلون المُؤسَّسةَ الدولية فى مهام الإغاثة بطابعِها البيولوجى؛ لكنَّ اللصَّ الخبيثَ يرى فيها ما هو أخطر وأكثر إزعاجًا؛ لأنها تظلُّ مُتجاوزةً لشروط اللحظة وتوازُناتها القاسية، وتقفُ على منشأ المِحنَة بقدرٍ من اعتدال الرؤية، ورعاية ثوابتِها القديمة. خُطورتها الكُبرى للسارق أنها تُوثِّق الجريمةَ؛ وتنقُل صكوكَ الملكيَّة لأصحابها من جيلٍ إلى جيل؛ وبهذا يصيرُ بقاؤها تحت صيغة النظام القائم على القواعد، بديلاً مُؤقَّتا عن بقاء البشر أنفسِهم؛ مهما طال الزمن وتأخَّرت العودة. والمعنى؛ أنها ليست مُجرَّد رادعٍ معنوىٍّ عن مُحاولات التهجير اليوم وغدًا؛ بل تحبسُ الزمنَ فى داخلِها على ما كان قديمًا، وتنزعُ الشرعيَّةَ عن كلِّ إبعادٍ مَاضَوىٍّ، يتوهَّمُ المُحتلُّ أنه أنجزَه وأغلقَ دفاترَه إلى الأبد.
السَّعىُ لتقويض الوكالة ليس جديدًا؛ بل ربما تتوافرُ شَواهدُه منذ ولادتها. صحيحٌ أنها عبرَتْ فى بادئ الأمر تحت ظلال المُواءمة، وكونها أقربَ إلى ابتسامةٍ للمنكوبين بعدما أُخِذَ منهم كلُّ شىءٍ آخر، لكنَّ وضعيَّة الصِّفَة الإنسانيَّة المنزوعة من السياسة لم تكُن غطاءً سميكًا، ولا استمرَّت دون افتئاتٍ ومُناكفات. المحطَّةُ الأبرز كانت قبل سِتّ سنواتٍ تقريبًا، عندما قرَّرت واشنطن وَقفَ تمويلِها فى ولاية ترامب، مُتسبِّبةً فى الإضرار بأنشطتها؛ انطلاقًا من أنَّ الولايات المتحدة أكبرُ المُساهمين فيها. لكنَّ عمليةَ الاستهداف تسارَعتْ واصطَبَغت بنكهةٍ منهجيَّة منذ «الطوفان»، وبدا مع إعلان إسرائيل خلال مارس الماضى، عن تورُّط بعض مُوظَّفيها فى الهجمة على غلاف غزَّة، ولَعِب أدوارٍ لصالح حماس وكتائبها القتاليَّة، أنها نَصَّبَتْها شاخصًا بين رُزمة الأهداف المعروضة على الحرب، واتَّخذت قرارًا بتصفيتها، أو على الأقل إبعادها عن مناطقها الأهمِّ بمُعطيات الحجم والرمزيَّة. وبينما لم تُقدِّم دليلاً مُعتبرًا بحقِّ المُتَّهمين، وأفضت التحقيقات إلى نَفى الرواية المُلفَّقة من جُذورها؛ فإنَّ بعضَ الدُّول التى علَّقت مُساهماتها ظلَّت على مواقفها، وما أظهرت تل أبيب رجوعًا عن سابق تصميمها. وبقدرِ ما نظرت للفصائل على أنها سلاحُ فلسطين الخَشِن، وتُحارب مُعادِلَه السياسىَّ الشرعىَّ فى الضفَّة الغربية، فإنها تعاطَتْ مع الوكالة على ما يبدو باعتبارِها اللواءَ القانونىَّ الأُمَمىَّ فى ترسانة الدولة الضائعة، والغطاءَ الذى يحرمُها من تثمير النجاحات التكتيكية فى الميدان؛ لأنه لا قيمةَ لتدمير الأرض ما بَقِى الناسُ عليها، ولا فاعليَّةَ لسَلب حقوقِهم المادية طالما ظلَّت مُتسَلِّحَة بالرمزيَّة والمعنويات، وبالمشروعية التى لا تذبلُ ولا تنطفئ.
تُديرُ «أونروا» عمليَّاتها فى خمسة أقاليم: غزَّة والضفَّة وسوريا والأردن ولبنان، وترعى قرابة 6 ملايين لاجئ نصفُهم تقريبًا فى الأرض المُحتلَّة. وانطلاقًا من كَونِها تقومُ على التبرُّعات والمُساهمات الطَّوْعيّة؛ فإنَّ استدامتَها المالية مَرهونةٌ بالتوافق عليها، وهذا التوافقُ مُعلَّقٌ بدَوره على السُّمعة وسلامة الأهداف والغايات. أمَّا التصويبُ الإسرائيلىُّ عليها فيتقصَّدُ أمرين خَطِيرَين: الأوَّل ينسحبُ مُباشرةً على حضورِها فى الداخل، والثانى ينثرُ الغبارَ فى أجواء الخارج بأثرِ الوَصْم والتشويه، ويردعُ الحُلفاءَ القريبين عن مُواصلة الدعم والمساندة، أو يُقلِّصُ الموارد والتدفُّقات المالية إلى الحدِّ الذى لا تصيرُ فيه قادرةً على الوفاء بالتزاماتها القائمة. والمسألةُ اليومية تتخطَّى تدبيرَ المعاش والحاجات الضرورية؛ إذ تضطلعُ الوكالةُ بأدوارٍ حيويَّة فى رعاية السرديَّة القَويمة، وتحصين الذاكرة الوطنية من ألاعيب التحريف وتقادُم الوقائع، ولطالما كان النزاعُ قائمًا مع دولة الاحتلال على نظامِها التعليمىِّ ومناهجها الدراسية. وبالنظر للبديل المطروح من جانب تل أبيب؛ فقد قالت إنها جاهزةٌ لتدبير المساعدات المطلوبة فى غزَّة، وهذا لا ينفصلُ عن أحاديثَ سابقةٍ بشأن تطويع المُقرَّرات التربوية؛ للتحكُّم فى إعدادات التنشئة وبناء الوعى، فضلاً على أنَّ أعمال الإغاثة ستتحوَّلُ وقتَها إلى ورقةٍ سياسيَّة تُؤازِرُ أجندةَ الاحتلال، وتُكمِلُ برنامجَه العسكرىَّ، وهو ما لا يتنافى مع طبيعة وكالة الغوث فحسب؛ بل يتعارضُ تمامًا مع فكرة العمل الإنسانى فى الفلسفة والديناميكيات.
تأسَّست «الأونروا» فى العام 1949 بالتزامُن تقريبًا مع استكمال الشرعيَّة الأُمميَّة لإسرائيل؛ فكأنهما ناشئتان عن أصلٍ واحدٍ، ولهما مراكز قانونيّة مُتساوية أو مُتعاضِدة، وبينما لا تملكُ الدولةُ العِبريَّة أن تشطُبَ الوكالةَ أو تُصادر وجودَها بالكُليَّة؛ فإنها قادرةٌ بالطبع على تقويضِها. وما حدثَ قبل يومين، أنَّ الكنيست صوَّتَ على تشريعين فى إطار الفكرة ذاتها: الأوَّل يحظرُ عَملَها فى مناطق السيطرة الصهيونية، ما يشملُ كاملَ فلسطين وفقَ السياق القائم بعد الهيمنة على قطاع غزَّة، والثانى يقطعُ العلاقات الدبلوماسية معها، بمعنى أنه يلغى صِفتَها القانونيّة فى فضاء القضيّة المُباشر. وقد سبق ذلك صدورُ قرارٍ بمُصادرة مَقرّها فى حىِّ الشيخ جرّاح بالقدس، وإمعانًا فى تعميق الرسالة أُقِرَّ أن يكونَ بُؤرةً استيطانيَّة، ما يُعبِّر مَعنويًّا عن مذهبٍ مُضادٍّ لها تمامًا، ومُفارقةٍ مَلهاويّةٍ لا يسهُل تجاوزها بالتهوين أو الإنكار؛ إذ إنها الحارسُ على حقوق اللاجئين حاضرًا ومُستقبلاً، وقد حوَّلَتْها السلطةُ التى تختصِمُها بالقانون والإنسانية لا غير، إلى لاجئٍ جديدٍ يُضافُ لقائمة المنكوبين الطويلة. فوكالةُ اللاجئين كأنها صارت أحدثَ الضيوف على لائحة اللجوء.
الأغلبيَّةُ التى مرَّرت التشريعين تُثيرُ القلقَ، وتكشفُ عن استفحال الحالة اليمينيَّة فى المجال الصهيونىِّ العام. لم تعُد المسألةُ مُجرّدَ طَيفٍ من الخطاب يُمثّله الليكود، أو يتضامن فيه التوراتيِّون وأحزابُ المستوطنين؛ بل باتت موجةً عارمةً تُعبِّر عن البلدِ بكاملِه، وينخرطُ فيها الجميع تقريبًا، أمَّا الاستثناءاتُ فإنها هامشٌ ضَيِّقٌ لدى بعض النخبة الثقافية، من باب اصطناع الاتِّساق القِيَمى تحت سقف الضمير، وغَسل السُّمعة، ومحاولة تقديم صورةٍ غنيّةٍ ومُتنوِّعة عن مُجتمعٍ بالغ التوحُّش. لقد أقرَّ النوابُ من كلِّ الأطياف قَانونَى الحظر والقطيعة بنسبةٍ تتخطَّى 90%، وهو ما يفوقُ 88% التى مَرَّرت قانون رَفض حلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مُستقلَّة فى يوليو الماضى. وإذا كانت جولةُ الحرب الحاليةُ قد بدأت من نقطة الصدمة؛ فإنَّ الشارعَ بعدما استعاد توازُنَه قليلاً صار يتحدَّثُ عن الصفقة واستعادة الأسرى، وتآكلت شعبيَّةُ نتنياهو وحكومته، وبدا أنَّ تيّار الوَسَط يزدهرُ كبديلٍ مُحتَمَل. أمّا الآن؛ فقد أضافت المَقتَلَة المفتوحة وعمليّات الاغتيال الناجحة مزيدًا من الداعمين للائتلاف الحاكم، وصار جانتس ولابيد وآيزنكوت صورًا باهتةً من ذئب الليكود، والجنرالات يطلبون الحربَ أكثر من السياسيين، والدولةُ التى نشأت فى أحضان العصابات، تعودُ لأصلِها القديم، وعلى صورةٍ أفدح فى الفاشيَّة والوقاحة والافتتان بالدم.
الوكالةُ كيانٌ اعتبارىٌّ لا يُؤخَذُ بأفعال الطبيعيِّين فيه. بالأرقام؛ تبلغُ جُملةُ العاملين نحو ثلاثين ألفًا، أكثر من ثُلثِهم فى قطاع غزَّة، وربما تورّطَ البعضُ فى أنشطةٍ تتجاوز أدوارَ الأونروا وصيغتَها الإنسانيَّةَ الصافية؛ إنما لا يصحُّ تحت أىِّ ظرفٍ أن يُوظَّف هذا للمساس بها وَصْمًا أو تعطيلاً. وحتى لو صَحَّت بعضُ المزاعم الإسرائيلية بشأن المُوظَّفين الأُمَميِّين، أكان فى الطوفان أو ما تلاه؛ فإنها لا تمسُّ قيمةَ الوكالة ولا تُسوِّغ إطاحتَها من المشهد، مع استحالة إيجادِ البديل الفاعل والقادر على أداء مهامّها المُعقَّدة. لقد تردَّد أنَّ أحدَ العُمَّال كان يحملُ رسائلَ «السنوار» لرجاله، ويُحتمَلُ أنَّ آحادًا منهم قدَّموا الدعم أو التسهيلات للمُقاتلين؛ إنما أقصى ما يُقبَلُ هُنا أن تُطرَحَ المعلوماتُ المُوثّقة، ويُعاقَبَ كلُّ شخصٍ عمَّا تورَّط فيه، وبالكاد يُمكنُ أن تُلام «حماس» على اتِّخاذ العمل الإغاثىِّ ساترًا لعناصرها، أو توظيفه أداةً لتمتين حضورها المُهيمن على حياة الغزيين، وتأمين اللوجستيات والإعاشة لمجتمع الكتائب والأنفاق. باختصارٍ؛ لا دفاعَ فى المُطلَق ولا هجومَ دون مَنطق، والسيِّئةُ لا تَعُمُّ، كما لا يَصِحُّ اتِّخاذها منصّةً لإهدار الحسنات، والتصويب على المُتَّهم والبرىء معًا.
بالمنطقِ البسيط، لا يقعُ الاحتلالُ وإجرامُه على فريقٍ دون آخر، والغزِّيون جميعًا تحت النار وفى عُمق المأساة. الوظيفةُ الدولية لا تشطُبُ المُعاناة، ولا تصبُّ الناس جميعًا فى قالبٍ واحد. ربما ينفعلُ شخصٌ بالقضيَّة؛ فيشتبك مع جانبها السياسىِّ أو الحربى، والطبيعىُّ المُعتاد أنَّ الوكالةَ لا تتوقَّف عن الفحص والتدقيق، وعملية الرَّفْت والتوظيف مُستمرّةٌ طوالَ الوقت، وكلّ مَنْ تَشوبُه شائبةٌ يُزاحُ فورًا ودون مواءماتٍ. أوَّلاً لأنها كيانٌ دولىٌّ لا فلسطينىّ، ولا تُحابى الفلسطينيين بقدر ما تُقدّمُ لهم أقلَّ القليل، ومن مصلحتها وضمانات بقائها أن يظلَّ الثوبُ نظيفًا، وألَّا تُؤخَذَ بجريرة الأخطاء الفرديَّة. يقتضى هذا؛ لو خَلصت النوايا، أن تتعاونَ إسرائيلُ معها للتسهيل لا التعطيل، ولضمان قُدرتها الدائمة على لعب الأدوار الإنسانية، والاستعصاء على الاختراقات الأيديولوجية؛ لكنَّ الاحتلال بطبعِه يسعى لهَضمِ الحقوق لا صيانَتِها، ويكرهُ الذين يُؤازرِونها بسببٍ ومِن دون سبب، ولم يكُن الأمينُ العام أنطونيو جوتيريش ضالعًا فى الطوفان، ولا فى المزاعم المُلفَّقة بحقِّ أونروا، عندما أعلنته تلُّ أبيب شخصًا غيرَ مرغوبٍ فيه، ومارسَتْ أقصى مُستويات الجرأة والتبجُّح على القانون الدولىِّ، وعلى المُؤسَّسة التى أنشأتها ومنحَتْها صِفَة الوجود الشرعىِّ.
التصويتُ على رَفض الدولة الفلسطينية قبل ثلاثة أشهر، ثمَّ على إزاحة وكالة الغوث مُؤخَّرًا، وبينهما الموقف الوقح من رأس الأُمَم المُتَّحدة نفسِه، تَنمُّ كلُّها عن نزوعٍ صهيونىِّ إلى إزالة كلِّ القيود المَعنويّة على مشروعها الإلغائىِّ؛ حتى مع عجزِها عن تشكيل حاجزٍ مَادىٍّ يردعُه أو يحولُ دون توسيعِ مَداه. والحال؛ أنَّ فلسطين المُستقلّة حاضرةٌ بمُوجَب القرار 181 الذى يمثِّلُ ركيزةَ التقعيد والإجراء فى إنشاء إسرائيل، والوكالةُ مُجَسَّدةٌ بالقرار 302 تثبيتًا لكلِّ ما سبقَه من إقرارٍ بحُقوق الفلسطينيين، مُقيمين ولاجئين، والأمينُ العام يُمثّلُ رمزيَّةَ المُؤسَّسة التى مَنَحَتْ الصهاينةَ دولتَهم المنزوعة من أساطير التوراة. والانقلابُ على كلِّ هذا بمثابة انقلابٍ على الذات، وفى عُمقِ مَعانيه يُقوِّض الدولةَ العبريَّة من داخلها، إذ لا معنى لإسقاط القرارات الأُمَميَّة المُؤسِّسَة لها إلَّا أنها تتعرَّى اختياريًّا من الشرعيَّة، وتُمزّقُ شهادةَ الميلاد، ولا معنى للتصويب على وكالةٍ أُمميّة مُكمِّلة لمسار بنائها الأوَّل؛ إلَّا أنها ترتدُّ إلى ما قبل الوجود الفعلىِّ، كما أنَّ طعنَ الجمعيَّة العامّة فى شَخص رئيسِها؛ كأنه خروجٌ من عباءتها إلى العراء. فهل يتشجَّعُ النظامُ الدولىُّ مُتعدَّد الأطراف، القائم على القواعد، ويتَّخذُ مَوقفًا مُكافِئًا بالردِّ على الاحتلال بالمِثْل، أو مَدِّ الخطِّ على استقامته وتفعيل القرارات بحَسمٍ واتّزان؛ أى أن تسقُطَ فلسطينُ فتسقط معها إسرائيل، وتُزاح أُونروا فيعود الصهاينة عصاباتٍ ومُستوطِنين «هُمّل» فى الكيبوتسات وحظائر الدواب؟!
تعملُ إسرائيلُ منذ نشأتها وفقَ مبدأ «اطلُب الصفح بدلاً من الاستئذان»، بمعنى أنها لا تسعى إلى التفاوُض وإبرام التسويات المُقنعة؛ بل تفرضُ ما تريدُه على صورة الأمر الواقع، ثمَّ تتحمَّلُ اللومَ أو تُقدِّمُ القليلَ مِمَّا أخذته من باب الترضية. وفى المُقابل؛ فإنَّ العالمَ يقفُ فى مَوضع الاستجداء، ويمنحُ الاحتلالَ كلَّ شىءٍ بلا مُقابلٍ تقريبًا، ولا فارقَ بين أن يقعَ هذا بأثر الضَّعف الكامن فى النظام الدولىِّ، أمْ بانحيازِ القُّوى المُتسلِّطة عليه. هكذا اقتُطِعَتْ للصهاينة دولةٌ من فلسطين، دون التزامٍ عليهم تجاه أهلِها، ولا احترامٍ لمُقتضيات القرار الكاشف لوُجودها، وإلى اليوم تُدين «حماس» وبقيّة ميليشيات المُمانَعة، ولا تأخذُ مَوقفًا من جرائم الاحتلال، أو تستنقذُ المدنيِّين العُزَّل مِمَّا يحيقُ بهم. والحال؛ أننا نحتاجُ لتجربةِ وصفةٍ غير التى أثبتت فشلَها الذريع فى كلِّ السوابق والمحطَّات، وليَكُن عبر وَضعِ الاحتلال أمامَ مسؤوليَّاته التى أدمَنَ التهرُّبَ منها، وتعليق شرعيَّته على استكمال الأسباب المُؤسِّسة لها. وبدلاً من المُطالبة بوَطنٍ فلسطينىٍّ ضائعٍ ومُضَيَّع، وتحفيز الدول القريبة والبعيدة على الاعتراف به؛ فلنَعُد إلى نقطة الصِّفر من جديد!
القَصدُ هُنا أن تُسَخَّرَ الجهودُ لطلب التفعيل الكامل للقرار 181 وما ترتَّب عليه، أو إزالته من المُدوَّنة الأُمَميَّة وإعادة الصراع إلى جُذوره الأُولى، بمعنى اختصام ديموغرافيَّتين قائمتين على جغرافيا تتقاطعُ معهما بالدرجة نفسها. أىْ أنْ تتَّجه الدعوةُ لإلغاء المراكز القانونية كلِّها منذ العام 1947، بما ينطوى عليه ذلك من سَحب الشرعيَّة الإسرائيلية، ورجوعها فكرةً فى ذهنِ أصحابها ولو توفَّرت لها كل الركائز الماديّة. على أن تكونَ إعادةُ تأسيسها وإكسابها الصِّفَة القانونية الكاملةَ، مرهونةً بمُعادلة جديدة، يتوافرُ لها اليومَ ما كان غائبًا فى الماضى، ويتحقَّقُ فيها من التوازُن ما تعذَّر بأثر الاختلالات العميقة بعد الحرب العالمية الثانية. قد يبدو التصوُّر خياليًّا، ولعلَّه يُلامِسُ حدودَ الاستحالة، بالنظر لطبيعة المنظومة الأُمَميَّة وباعث إنشائها أصلاً، وإلى الانحياز الأنجلوساكسونى الكاسح، ومَوقع الدولة العِبريَّة فى وعى الغرب الأبيض؛ لكنه سيُمثِّل على الأقلِّ تغييرًا للوسائل والأدوات، ومُقاربةً للمسألة من زاويةٍ غير تقليدية، وضغطًا قانونيًّا وأخلاقيًّا على الاحتلال ورُعاته، وفى كلِّ الأحوال لن يكون مَأساويًّا كحال الفلسطينيين الراهنة، ولا كُومِيديًّا مثل إضافة «وكالة اللاجئين» مُؤخَّرًا إلى لائحة اللجوء.