هل فى تأخر الزواج لمن يرغب فيه ابتلاء من الله تعالى؟، سؤال ورد لـ دار الافتاء، وأجابت الدار بالآتى: الزواج سُنَّةُ النبى صلى الله عليه وآله وسلم التى رغَّب فيها، ونَهَى عن الإعراض عنها. وتأخُّرُ الزواج قد يكون ابتلاءً مِن الله عَزَّ وَجَلَّ لمَن هو راغِبٌ فيه، باذِلٌ ما فى وُسْعِهِ لإيجاد مَن يناسبُ حالَهُ، وعلى مَن ابْتُلِى بتأخر الزواج أن يَصبِرَ ويَحتَسِبَ ويَستعينَ بالله تعالى، ولا ييأس مِن رحمته به سبحانه، آخذًا بالأسباب الموصِّلة إلى مراده، مراعيًا فى ذلك البحث عمن يناسب حالَهُ، مع الرضا بما قدَّره اللهُ له مِن حال يُسْرٍ وَسَعَةٍ، أو عُسْرٍ يُفَرِّجُهُ اللهُ عنه قريبًا أن شاء سبحانه وتعالى.
بيان أن الزواج من سنن الأنبياء عليهم السلام
النكاح سُنَّةُ النبى صلى الله عليه وآله وسلم التى رغَّب فيها، ونهى عن تركها رفضًا لها وإعراضًا عنها، فعن أَنَس بن مَالِكٍ رضى الله عنه قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِى صلى الله عليه وآله وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِى صلى الله عليه وآله وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِى صلى الله عليه وآله وسلم؟! قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللهِ إِنِّى لَأَخْشَاكُمْ لِلهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّي» أخرجه الشيخان.
هل فى تأخر الزواج لمن يرغب فيه ابتلاء من الله تعالى؟
الأصل فى الزواج أنه شُرعَ لمن قدر عليه وتاقت نفسه إليه؛ لما فيه من إعفاف النفس، وطلب النسل، وغض البصر، وحفظ الفرج، فعن عبدِ الله بن مَسْعُودٍ رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» متفقٌ عليه.
والمراد هنا بالبَاءَةِ: مُؤَنُ النكاحِ، سميت باسم ما يلازمها، وتقديره: مَن استطاع منكم مُؤَنَ النكاح فليتزوج، كما فى "شرح الإمام النَّوَوِى على صحيح الإمام مُسْلِمٍ"
فمَن مَلَك مُؤَن النكاح وتكاليفه، وكان قادرًا عليه بدنيًّا ونفسيًّا فإنه يُستحب فى حقه النكاح، حتى يتحقق له المقصود الأعظم منه، مِن حصول المودة والرحمة، وقضاء شهوته فى الحلال، وإنجاب الذرية، وصِيَانَة الأعَرَاضِ والحُرُماتِ، وحفظ الأحسابِ والأنسابِ، وغير ذلك من الأمور التى لا تتحقق إلا بالزواج.
أما غير القادر على مُؤَنِ النكاح، أو القادر فقط على ضروريات الحياة، مع تَوقِهِ إلى النكاح، ومع أخذه بالأسباب المتاحة مِن السعى وخلافه لا يخلو من ابتلاءٍ له، ولا يَسَعُهُ فى هذه الحال إلَّا قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33].
والابتلاء من أقدار الله تعالى ورحمته، يجعل فى طياته اللطف، ويسوق فى مجرياته العطف، وكثيرًا ما تحمل المِحَن فى ثناياها المِنَح، وفى حَنَايَاهَا العطايا والهِبَاتِ والنِّحَل، فكلُّ ما يصيب الإنسان من ابتلاءات هى فى حقيقتها رِفعةٌ فى درجة المؤمن وزيادة ثوابه ورفع عقابه، حتى الشوكة تُصيبه، فعن السيدة عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» أخرجه الإمام مُسْلِمٌ فى "صحيحه". وهذا يقتضى حصول الأمرين معًا: حصول الثواب، ورفع العقاب كما قال ابن حجر رحمه الله تعالى.
وتيسيرُ أمرِ الزواج من عدمه إنما هو مُراد الله عَزَّ وَجَلَّ، ورزقه يُقدِّره ويسوقه لمن يشاء، وقتما يشاء، بالكيفية التى يشاء، شأنه فى ذلك شأن كافة الأرزاق والأقدار السارية فى الكون كله، فعلى من ابتلى بتأخر أمرٍ من الأمور كالزواج أو غيره أن يصبر ويحتسب، ويعلم أن مراد الله له خير، فما أعطى سبحانه أحدًا شيئًا إلا لحكمةٍ، وما منع عنه إلا لرحمةٍ، وكل الأمور خيرٌ للمؤمن إذا رضى وصبر، يدل لذلك ما ورد عن صُهَيبِ بن سِنَان الرُّومِى رضى الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، أن أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، أن أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» أخرجه الإمام مسلم فى "صحيحه".
وعلى المسلم مع الصبر أن يجتهد فى إعفافِ نفسه، وغض بصره، والاستعانة بالصوم متى قدر عليه على كبح جماح شهوته؛ إذ بالطعام يقوى البدن، وتقوى معه شهوة النكاح، وبالصوم يضعف، وتضعف وتُكبَحُ معه شهوة النكاح، كما وجَّه إلى ذلك النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى الحديث السابق ذكره عن عبد الله بن مَسْعُودٍ رضى الله عنه بقوله: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» متفق عليه. والمعنى المراد بقوله «وِجَاءٌ»: أنَّه مُضْعِفٌ للشهوة قَاطِعُهَا.
وأيضًا فإن فى الصوم مع إضعاف الشهوة حُصول ثواب العبادةِ ورياضة للنفسِ؛ حيث يمنع الصائم نفسه عن المباحات كالطعام والشراب فى وقت معين، فيتحقق بذلك تأديبٌ للنفس حتى تمتنع بترك الحلال واجتنابه فى بعض الوقتِ عن فعل الحرام واقترافه فى كلِّ وقتٍ، فيحصلُ بذلك كله طاعة العبد المؤمن وامتثاله لأوامر مولاه عَزَّ وَجَلَّ.
ولا يعنى تأخر أمر يطلبه الإنسان أن يصيبه باليأس أو الإحباط، وإنما عليه أن يتعبد الله تعالى بحسن الظن به، مع الأخذ بالأسباب الموصلة إلى مراده من أمر الزواج، كما أن الإعسار فى الحال لا يمنع التزوُّج؛ لاحتمال حصول المال فى المآل، لذلك رغَّب الله تعالى عباده فى التزويج، وأمر به بنى الإنسان، ووعدهم فيه الغِنَى مِن فضله، وذلك فى نحو قوله سبحانه: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ أن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 32].
وقد بَيَّنَ الحقُّ سبحانه وتعالى أن الزواج آية من آياته، ولم يجعل مَبناهُ مقصورًا على الحالة الماديَّة، وإنما جعل أساسه المودة والرحمة، وحصول السكن الجسدى والسكينة القلبية بين الزوجين، وكل هذه الأمور لا علاقة لها بالمال من قريب أو بعيد، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أن خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أن فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
ولا يَخفَى أن الصالح العام يقتضى التيسير فى أمر الزواج، بل أن أعظَمَ الزواج بركةً ما كان أيْسَرَه مؤنةً وتكلفةً، كلٌّ بحسب حاله؛ لِمَا فى ذلك مِن دلالة على القناعة والرضا، ولأنَّ الْيُسْر دَاعٍ إلى الرِّفْق بين الزوجين، وهو أدعى لحياة أكثر استقرارًا وسَكِينَةً، كما أن التيسير فى أمر الزواج فيه مِن الخير الكثير الوفير، سواء كان فيما يتعلق بمصلحة الزوجين أو المجتمع ككُلٍّ.
فعَنِ السيدة عَائِشَةَ أم المؤمنين رضى الله عنها أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مُؤْنَةً» أخرجه الأئمة: أحْمَدُ فى "المسند" واللفظ له، والطَّبَرَانِى فى "الأوسط"، والحَاكِم فى "المستدرك" وصحَّحه.
كما بَيَّنَ النبى صلى الله عليه وآله وسلم أن المرأة الصالحة هى خيرُ متاعِ الدنيا كلها وأطيبه بالنسبة لزوجها؛ لأنَّها تحفظه عن الوقوع فى الحرام، وتُعينه على القيام بأمور دينه ودنياه، فيهنأ بالعيش معها، وتقر عينه بها، ويحفظ بسببها أمر دينه، ويُحصِّل بذلك كلِّه رضا مولاه وخالِقِه عَزَّ وَجَلَّ، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14]، وعن عبد الله بن عَمْرٍو أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» أخرجه الإمام مسلم فى "صحيحه".
فعلى راغب الزواج حتى وإن كان فقيرًا، أو لا يجد مِن النفقة إلا ضروريات الحياة -أن يسعى فى طلب مَن ترضى بحاله، ويناسبها ما هو عليه، فرَحِمَ اللهُ امرءًا عرف قدر نفسه، وكثيرًا ما نرى حولنا مِن زوجاتٍ مُستَقِرَّات فى حياتهن الزوجية قد قَبِلْنَ بالزواج والعيش مع والدى الزَّوجِ أو أبنائه، وتَقَاسَمْنَ أعباء الحياة معًا، ورزقهنَّ اللهُ بالذرِّيَّة الطيِّبة، ومعلومٌ أن الأحوال تتبدل، وأن الأرزاق تختلف يُسرًا وعُسرًا، ولا أحد يبقى على حالٍ واحدٍ، ويبقى دور الرجل فى أن يَحرص على إيجاد المرأة المناسبة الصالحة المؤمنة التى تطلُب العفاف، وأن تُقيم معه بيتًا يرضى فيه اللهُ ورسولُه عنهما، طالِبَيْن مِن الله عَزَّ وَجَلَّ عَوْنَه الذى ضَمِنَهُ لهما فيما أخبر به النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك الحال فى المرأة إذا جاءها مَن يُرضَى دينُه وخُلُقُه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة