التوتر الإقليمي يتصاعد، والتعنت الإسرائيلي مستمر، في ضوء إصرار منقطع النظير من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتوسيع نطاق الحرب جغرافيا مع العمل على إطالة أمدها الزمني، لحماية مصالحه الشخصية وللانتصار لأيديولوجية اليمين المتطرف، بينما يبقى الاستقرار مرهونا بالاستماع لصوت العقل، من جانب جميع أطراف الصراع، وهو الأمر الذي يحمل في طياته العديد من الأبعاد، منها ما هو دبلوماسي، عبر إبداء مرونة أكبر في المفاوضات، وأخر داخلي، يتجسد في تعزيز الجبهة الداخلية، داخل دول الإقليم، وهو ما يمكن أن يتحقق عبر إعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية على حساب الرؤى الحزبية أو الأيديولوجية، أو حتى المصالح الشخصية، وهو الأمر الذي لا ينبغي أن ينطبق على إسرائيل فقط، وإنما من المفترض أن يمتد إلى الأطراف الأخرى.
الحالة الإسرائيلية، والتي تناولتها في مقالي السابق، تجسدت في تلاقي المصلحة الشخصية لرئيس الوزراء الذي يرغب في البقاء في السلطة، مع الرؤى الأيديولوجية لليمين الإسرائيلي المتطرف، والذي يعد نتنياهو جزء منه، ناهيك عن أعضاء حكومته، والذين تطغى عليهم النزعة المتشددة، وهو ما يبدو بوضوح في العديد من الوزراء، ربما أبرزهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، والذي قاد بنفسه عدة اقتحامات للمسجد الأقصى، وكذلك وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وكلاهما هدد بالاستقالة، حال رضوخ نتنياهو لمطالب وقف إطلاق النار، وهو ما يعد بمثابة مقامرة غير محسوبة، على حساب الشارع الراغب في قدر من الهدوء، واستعادة الرهائن، وكذلك هيبة الدولة العبرية، التي طالها الكثير من الأذى بفعل العجز عن تحقيق أهداف العملية العسكرية الممتدة منذ عام كامل، في مواجهة ميليشيات عسكرية، بينما نالت في اللحظة نفسها من سمعة إسرائيل التي طالما روج لها الغرب باعتبارها نموذج للديمقراطية، في الإقليم المشتعل، في ضوء تجاهل مطالب آلاف الإسرائيليين.
إلا أن الأمر الأكثر خطورة، فيما يتعلق بالدولة العبرية، يتجسد في حالة من عدم الاستقرار الأهلي، وهو ما ظهر بجلاء في الاحتجاجات التي شهدتها الشوارع في تل أبيب، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى محيط منزل نتنياهو، في حين تبقى هناك قنابل موقوتة، تتجلى في سلاح المستوطنين، والذي يمكن أن يكون بمثابة نواة مهمة لتشكيل ميليشيات على غرار تلك التي تحاول إسرائيل محاربتها في أراضي أعدائها.
وبينما يبقى الوضع في الدول العربية معكوسا، وعلى رأسها فلسطين ولبنان، واللتين تمثلان ذروة العدوان الإسرائيلي، في اللحظة الراهنة، حيث تشهر الفصائل سلاحها في مواجهة العدوان حاليا، بينما يمكن استدعاءه لحسم المعارك الداخلية، في مواجهة معارضيهم، وهو الأمر الذي سبق وأن شهدته الأراضي الفلسطينية، وكذلك في لبنان، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن الحالة المتوترة حاليا ترجع في جزء منها، إلى هشاشة الجبهة الداخلية، وهو الأمر الذي ينبغي معالجته ليكون أساسا لبناء الاستقرار في الداخل، ومن ثم في الإقليم بأسره.
وفي الواقع، يعد الاستقرار الأهلى هو الرهان الرئيسي في اللحظة الراهنة، لبناء حالة إقليمية مستقرة مستدامة، حيث تبقى المصالحات الداخلية، والعمل على بناء مؤسسات قوية، هي الأساس لتعزيز حالة الصمود في مواجهة العدوان، عبر تعزيز سيادة السلطة المركزية على كامل أراضي الدولة، في الحالتين الفلسطينية واللبنانية، وبالتالي الحديث بصوت واحد أمام المحافل الدولية، من شأنها تعزيز الدور الذي تلعبه القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة، وعلى رأسها مصر، والتي تسعى إلى تحقيق حالة من الهدوء، عبر مواقف تتسم بقدر كبير من التوازن.
ولعل الحديث عن الدور المصري، يبقى ممتدا ليتجاوز حقبة العدوان، فقد نجحت الدولة المصرية في قيادة الإقليم إلى سلسلة من المصالحات بين الدول المتنافسة، منذ ميلاد الجمهورية الجديدة، ربما ساهمت بصورة كبيرة في إبداء قدر من الصمود الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، بدا واضحا في الإجماع بين دولها الرئيسية حول العديد من الثوابت، التي تصب في صالح القضية الفلسطينية، منها الدعوة إلى وقف إطلاق النار فورا، ورفض مخططات التهجير، والضغط على الاحتلال للسماح بدخول المساعدات الإنسانية، والتمسك بالشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، وهو ما ساهم في العديد من الانتصارات التي تحققت على صعيد القضية الفلسطينية خلال الأشهر الماضية، بينما تسعى نحو تعزيز الاستقرار الأهلي في الدول الهشة، عبر استضافة أطراف الصراعات الداخلية، والعمل على تهيئة بيئة للحوار، إدراكا منها بمحورية البعد الداخلي، في تحقيق الاستقرار الإقليمي بصورته الجمعية.
ويعد التوافق المنشود بين أطراف المعادلة الداخلية في دول الصراع، في حاجة ملحة إلى تغليب المصلحة الوطنية، بعيدا عن المفاهيم، التي كانت سببا رئيسيا في حالة الانقسام، التي هيمنت على المشهد الإقليمي بأسره، بين محاور، تحمل اسم المقاومة وأخرى الاعتدال، وهي الحالة التي كان الاحتلال هو المستفيد الأكبر منها، خاصة بعدما ساهمت في إشعال الحروب الداخلية، والتي سعت من خلالها إسرائيل نحو مزيد من التوسع، وزعزعة الحالة المركزية التي حظت بها القضية الفلسطينية لعقود، وهو الأمر الذي بلغ ذروته خلال العقد الماضي، لتعود الأمور مجددا إلى الاستقرار النسبي، في أعقاب ثورة الـ30 من يونيو، وهو الأمر الذي دفع نتنياهو وحكومته نحو محاولة إعادة استنساخ الفوضى، عبر حرب إقليمية شاملة، سعى إليها من رحم العدوان على غزة، قبل عام كامل.
وهنا يمكننا القول بأن الاستقرار الأهلي في دول المنطقة، وخاصة دول الصراع، والعمل على بناء المؤسسات بمثابة بعدا محوريا لا غنى عنه في مواجهة العدوان الإسرائيلي في اللحظة الحالية، بل وتقويض خططه المستقبلية، التي تهدف في الأساس إلى تصفية القضية، وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم في بناء دولتهم المستقلة ذات السيادة، وبالتالي إهدار ما تحقق خلال الأشهر الماضية، من اعترافات دولية بالدولة الفلسطينية، ودعم كبير لحصول فلسطين على العضوية الكاملة بالأمم المتحدة