عصام محمد عبد القادر

بناء الإنسان من منظور دلالات القيم

الأحد، 10 نوفمبر 2024 02:08 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يقع على التربية العمل على تهيئة الفرد لأن يسلك الطريق القويم الذي يعينه على إعمار الأرض باعتباره مستخلفًا عن ذلك؛ لذا أضحى بناء الإنسان يرتكز على فلسفة السلوك السوي، والذي تتشارك في إكسابه وتعديل المعوج منه جهات عدة، يأتي في مقدمتها الأسرة والمؤسسات التربوية والمجتمعية التي تعمل جميعها على تعزيز ماهية تقييم الذات لديه؛ ليصبح قادرًا على أن يصوب من خطئه ويرجع عن المسار المخالف للطريق الصحيح.


وللإنسان مجموعة من المتطلبات والاحتياجات التي يرغب في استيفائها بغض النظر عن الآلية والطريقة، وهنا يأتي الدور الفاعل للتربية التي تهتم ببناء الوازع الداخلي لديه؛ فيوازن بين مكونه الروحي والمادي، ومن ثم تتسق الأفعال مع القناعات الداخلية، ويصبح الفرد منا قادرًا على أن يتوافق مع مجريات الأحداث والقضايا بصورة متزنة؛ فلا يتجاوز حدود النسق القيمي ولا يتبنى فكرًا متشددًا ليقهر ويكبت نفسه التي بين جنباته.

والتربية السوية تستهدف العمل الممنهج لاستقامة النفس، وهذا يحدث حال غرس النسق القيمي الذي يتبناه ويؤمن به المجتمع، والمنسدل بطبيعة الحال من عقيدته التي تحثه على السلوك الطيب من حسن تعامل مع الغير وتعاون بناء في شتى مسارات الإعمار ومحبة لا تقتصر على مصالح خاصة وتكافل يقوم على خصال كرم وإيثار وعشرة طيبة يتلوها تماسك وترابط محمود، وغير ذلك من مقومات التعايش السلمي التي تقرها العقول التي تفقه بصورة صحيحة ماهية الحياة الدنيا.


وفلسفة بناء الإنسان لا تقتصر على النشء دون غيرهم؛ لكنها عملية كبرى تستهدف التركيز على إصلاح الذات لدى الفرد بغض النظر عن المرحلة العمرية، وهذا يعني ضرورة أن نصلح من أنفسنا بصورة مستمرة، ولا يتسلل في نفوسنا يأس أو إحباط تجاه هذا الأمر الذي قد يبدو صعبًا في ظاهره؛ حيث يمكننا بمزيد من الإرادة والمنهجية العلمية أن نحول القلوب القاسية لقلوب تلين لذكر الله وتصدع بالإيمان فتصير مطمئنة تتحول من شقاء المعصية إلى دروب الطاعة التي تجعل الإنسان منا عارف بربه يلجأ إليه في كل وقت وحين، لديه تسليم بقضائه وقدره، راغبًا في كرم رضائه.


وإذا ما أردنا أن نستكشف صحة مسار البناء لدى الإنسان بعد أن بذلنا الجهد المنظم وقمنا بغرس منظومة القيم الحميدة لديه؛ فإننا نرصد ونتابع سلوكه ما إذا كان قادرًا على أن يكابد من أجل أن يصل لمبتغاه بصورة مشروعة تتفق مع ماهية الخلق القويم؛ فنراه حيث أمره المولى عز وجل، ولا نجده حيث نهاه الله تعالى، وهذا يؤكد دون مواربة على صدق النوايا وصلاح النفس والمطابقة بين القول والفعل، ومن ثم يصبح الإنسان مواطنًا صالحًا بما تحمله الكلمة من دلالة ومعنى. 


وبديع صنع الله في احتياج لأن نغرس لديه الرقابة الذاتية التي تتمثل في الوازع الداخلي أو ما نسميه الضمير، وهذا ما يشعره بالمسئولية ويعضد لديه فكرة المحاسبية ويعزز لديه الثقة بالنفس إذا ما أدى السلوك في إطاره الصحيح، وفي المقابل لا يشعر بارتياح حال اقترافه سلوكًا يتنافى مع صحيح القيم، وفي كلا الحالتين استطعنا أن نجعله رقيبًا على نفسه؛ فتطمئن قلوبنا تجاه ما يقوم به من سلوك في طالع المستقبل، ونضمن ولائه وانتماؤه لوطنه الذي يتأتى من إيمانه العميق بربه.


وغرس قيم الإخلاص والإتقان من مستهدفات بناء الإنسان، وفي هذا الإطار يتوجب علينا أن نوعي أبناءنا بأهمية بذل الجهد في العمل كي نصل إلى مرحلة الاتقان، ومن ثم تلقى أعمالنا صورة الرضا والاستحسان، وبناءً عليه نطمح إلى مزيد من التقدم والتطوير أو ما نسميه من الحسن إلى الأحسن؛ فنتعلم من الخطأ الذي نقع فيه ونسارع في إصلاحه وننمي من قدراتنا على المستويين الفكري والمهاري، قال تعالى (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) النمل: 88، وهذا يؤكد في نفوسنا أن الإتقان منهجٌ ربانيٌ.


وثمة ضرورة حيال تعضيد الفكر الرشيد الذي ينبري على مفاهيم صحيحة لا تخالف المنهج الرباني ولا تتعارض مع ثوابت العقيدة؛ لذا أضحى بناء الإنسان يقوم على فكرة التوعية التي يجب أن تستمر؛ حيث إن انقطاعها يهدد بانحرافات خطيرة يصعب معالجتها في وقت قصير، وهنا نعظم من دور الأسرة وسائر المؤسسات التربوية التي تمتلك من مقومات تنمية الوعي الكثير بما يساعد في تحقيق الأمن الفكري الذي يعزز الأمن القومي للوطن بأبعاده المختلفة.


ومن دلالات القيم النبيلة والخلق الحميد أن نعمل دومًا على تعزيز الطاقة الإيجابية لدى أبنائنا؛ حيث نوقن جميعًا بأن الإنسان منا إذا ما استشعر أن لديه هدفًا واضحًا؛ فإن معنى الحياة لديه يصبح واضحًا، وفي المقابل إذا لم يتوافر هذا الهدف؛ فإن فكرة التقدم والنمو والسعي للإنجاز تصبح مهب الريح، ومن ثم لا تتشكل لديه الرغبة في تذوق معني للحياة، وقد يقع في براثن الإحباط الذي يحيط بوجدانه؛ فيفقد شهيته وهويته ومتعته وكل معنى راق أو جميل في تلك الحياة المليئة بالخيرات والمسرات.


وعند بناء الإنسان يتوجب علينا أن ندعمه بقيمة التفاؤل باعتبارها من مقومات الحياة والبقاء؛ فمن خلالها تعضد في النفوس المقدرة على التحمل، ويستطيع الفرد أن يلبي احتياجاته، ويسعى لتحقيق طموحاته، إلى أن يصل إلى مستويات الرفاهية في هذا الكون الفسيح المليء بالأسرار والإعجازات الثمينة التي تغير من ماهية العيش والمعيشة؛ فلا صعوبات أو محن تنغص عليه الحياة، ولا تحديات أو مشكلات تجعله يتوقف عن مسارات وطرائق النهضة والبناء.


ويصعب أن ينفك بناء الإنسان عن وعي صحيح تجاه احترام القوانين المنظمة للحياة والتي تؤكد فلسفتها على الحفاظ على ثوابت مقاصد الشريعة السمحاء، وفي هذا الخضم يجب أن نعزز في النفوس ماهية النزاهة التي تشير إلى مقدرة الفرد في أن يحافظ على المال العام ويعمل على تنميته وتحصينه عبر آليات الضبط التي تضمن تجنب إهداره أو أخذه دون وجه حق، ويتناغم مع مفهوم النزاهة سلوك من يقع على عاتقه المسئولية، ونقصد بذلك سلوكه الشخصي كالإنصاف وتجنب التحيز والأمانة والحياد والتفاني في العمل من أجل تحقيق غايات المؤسسة وليس غايات شخصية، ناهيك عن الإخلاص والصدق وكافة الممارسات الصحيحة.


واستكمال مراحل البناء للإنسان ينبغي أن تقوم على فكر متجدد مستنير يقوم على منهجية علمية يستطيع الفرد من خلاله أن يواجه قضية أو مشكلة؛ فيحرص وبكل هدوء على القيام بتحديد القضية أو المشكلة؛ لتصبح أكثر وضوحًا في تفاصيلها، ويركز في موضوعها لتشغل حيز تفكيره، ويهتم بالبحث عن بدائل لحل المشكلة أو القضية، ويضع في اعتباره مراجعة وجهات النظر الأخرى، ويهتم بالتعرف على الأطروحات والمدخلات التي توصف بالجدة، ويكون لديه المقدرة على تعديل القرار أو وجهة النظر عند توافر أدلة على ذلك، ويتخذ القرار وفق أهداف ومعايير واضحة، ويتحرى الموضوعية في الأحكام، ويمعن في حل القضية أو المشكلة، وينتهج المثابرة حتى التوصل لحل مرضٍ، ويتحلى بالصبر في إصدار الأحكام أو عند اتخاذ القرارات أو في تكوين المعتقد.


وغرس الولاء والانتماء أمرًا لا مناص عنه؛ حيث إنهما من القيم التي تحرص على تعضيدها سائر منابر بناء وتنوير العقول؛ حيث استهداف ترسيخ الهُوِيَّة والتي تُعبر عن ذات الفرد وكيانه الذي يرتبط بمولده وانتماؤه، والثوابت التي يتمسك بها من لغة ومعتقد وقيم موجهة لسلوكه، ومقدرته في الحفاظ على تراثه، واعتزازه بثقافة موطنه، والتفاخر بحضاراته، والطموحات والآمال المشتركة مع بني وطنه نحو المستقبل.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة