حازم حسين

عن الحرب والسياسة والأيديولوجيا.. مستقبل إدارة ترامب بين ألغام بيبى وأوهام الممانعة

الأحد، 10 نوفمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كانت حظوظُ «ترامب» عاليةً حتى قبل أزمة الشرق الأوسط الأخيرة. مُجرَّد العودة من مقبرة الرؤساء ذوى الولاية الواحدة، والمُنافسة على فرصةٍ ثانية لم تحدُث فى تاريخ الولايات المتحدة سوى مرَّةٍ يتيمة، كانت إشارةً إلى أنَّ السياسىَّ الجمهورىَّ الصاخبَ يأبى فكرةَ الغياب السهل. بدَتْ طريقُه مفتوحةً لاقتناص بطاقة الترشُّح، وقد أطاح كلَّ منافُسيه الحِزبيِّين دون أنْ يشتبك معهم، أو يُضطَرّ حتى لخَوض أيَّة مُناظرة لاستمالة الجمهور وفقَ آليَّة التصعيد والانتقاء المُعتادة.
ومثلما كان صعودُه الأوَّلُ دليلاً على تغييرٍ عميق، وكَشفًا عن ثغرةٍ تسمحُ باختراق المنظومة من خارجها؛ فإنَّ تكرارَ التجربة لم يدَعْ مجالاً للشكِّ فى إصراره، ولا للتغافُل عن قابليَّة المجال العام لانتهاج مساراتٍ راديكاليَّة تتخطَّى أُطرَ التنميط والهندسة الاستباقيّة. وإذا كان «طوفان الأقصى» قد تركَ أىَّ تأثيرٍ على السباق، فإنه لا يتجاوزُ تظهيرَ الفشل الديمقراطىِّ المعلوم للكافّة، وكان الناسُ يلمسونَه عَمَليًّا فى كلِّ زيارةٍ للبقالات ومحطَّات الوقود، بمعنى أنه أثرٌ كاشفٌ لا مُنشئ، يُؤكِّدُ المُؤكَّدَ ويُغيِّبُ الهواجسَ والاحتمالات. باختصارٍ؛ كانت إدارةُ بايدن تحتضرُ قبل السابع من أكتوبر، ولفظَتْ أنفاسَها الأخيرةَ بعدَه؛ لكنّه المصيرُ المحتومُ فى كلِّ الأحوال.

خسارةُ هيلارى كلينتون فى 2016 كانت صادمةً للغاية، وشعبويَّةُ مُنافسِها عزَّزت الاعتقادَ بأنه لا فُرصةَ للتغلُّب عليه بحلولٍ من خارج الصندوق؛ إذ لا يعترفُ أصلاً بالمنطق، ويتخطَّاه فى كلِّ التفاصيل. هكذا عاد الليبراليِّون عشرات الخطوات إلى الوراء؛ ليُقدِّموا مُنافسًا شديدَ التقليدية فى الجولة التالية. اختفَتْ النزعةُ التقدُّميّة التى تبدَّت فى الوصول بأوَّلِ أسود للبيت الأبيض، وتقديم المرأة الأُولى فى تاريخ السباقات الرئاسية، وكان البديلُ عنهما رجلاً أبيضَ ذا أُصولٍ أيرلندية، له تجربةٌ سياسيَّةٌ راسخة فى أروقة الكونجرس، وصاحب العمر الأكبر بين كلِّ المُرشَّحين والرؤساء الديمقراطيين على الإطلاق.

لم يتخطّ الحزبُ سابقًا عتبةَ العقد السابع؛ بل داومَ منذ ثلاثة عقودٍ على أن يكونَ مُرشَّحوه دون الستّين؛ باستثناء السيدة هيلارى التى عوَّضَتْ رجعيَّةَ العُمر بتقدُّميّة «الجندر».. والاستعانة بسيناتور ديلاوير كانت السبيلَ الوحيد لاستعادة الرصانة، وتقديم وجهٍ مُضادٍّ تمامًا لقُطب العقارات العجوز؛ لكنَّ المنطقَ كان يقتضى الإقرارَ مُسبَقًا بأنه فى مهمَّةٍ إنقاذيَّة طارئة، للحزب أو الدولة كيفما يتراءى لهم؛ إنما عليه أن يُنجزَ المطلوبَ وينسحب. بمعنى أنه رئيسٌ لفترةٍ واحدة، ولعلّهم كانوا مُتّفقين على هذا قبل أن يطمعَ الرجلُ فى خريف العمر بأن يخرج من القصر إلى القبر؛ وكان هذا أوَّلَ مسمارٍ فى نعش الخطّة.

كانت تجربةُ «ترامب» قبل ثمانى سنواتٍ جديدةً على الناخبين. أتاهم من خارج الأُفق السياسىِّ المرسوم بعِناية، وقدَّمَ صورةً نموذجيَّةً للحلم الأمريكى، بهامشِه الفسيح للنجاح، وفُرَصِه المُتاحة دومًا للقفز بين المسارات. والشارع الذى احتضن رجلاً مُلوَّنًا، بدا عاجزًا عن القبول بامرأةٍ على مقعد جورج واشنطن؛ فكان الرهانُ على «بايدن» تصحيحيًّا بنكهةِ المُواءمة بين التقدُّميّة والرجعيَّة. أمَّا بعد تجربته السيّئة فى الحُكم، فقد احترقت ورقةُ الدراية وادِّعاء السَّبق بالخبرة الطويلة، كما صار الرجوعُ إلى الخيارات غير التقليديّة مُغامرةً أيضًا. وأسوأ ما فعلَه الديمقراطيِّون أنهم لم يقرؤوا السياقَ بوَعىٍ جاد، ولا استوعبوا دروسَه السابقة، وغابت عنهم حساسيةُ التقاط الموجة الجديدة للجمهور.

لقد كان تقديم كامالا هاريس سيِّئًا من عِدّة زوايا: الافتتان بحالة أوباما، وتكرار تجربة هيلارى، والرَّبط العميق مع إخفاق بايدن. ثمَّ قبل كل ذلك؛ أنهم فى لُعبةٍ مُحدَّثة تمامًا، وفوقَ الأسقُف المُعتادة فى معارك الأيديولوجيا والسياسات.. والحال؛ أنهم استجابوا فى البداية بفِقه الأزمة، ثمَّ اعتبروا أنها انتهت، وعليه فقد عادوا إلى الإدارة وفقَ الأحوال العادية، بالصمت على الرئيس شُهورًا، ثمَّ بتمرير نائبته بديلاً فى الأمتار الأخيرة من السباق.

يصحُّ النظر لنتائج 2016 على أنها كانت انقلابًا على ميراث أوباما، وإذا أضَفْنا هُويَّةَ المُرشَّحة الخاسرة فيها؛ فإنَّ الجمع بين الحالتين فى شخص «كامالا» كان بمثابة التبرُّع المُسبَق بالهزيمة. والمُقابَلة فى وجهِها الدقيق تحقَّقت فى الأسبوع الماضى، وليس قبل ثمانى سنواتٍ. بمعنى أنَّ «الترامبيَّة» إن كانت ربحَتْ جولةً سابقة؛ فلَمْ تتَّضح فيها تناقُضاتُ الليبراليِّين على حالتها الكاملة، بحسبةِ أنَّ الحزب كان يعيشُ ديناميكيَّةً داخليّة أعادت شيئًا من رائحة التسعينيَّات، وكانت «هيلارى» تستندُ لشرعيَّة زوجها بيل كلينتون بأكثر مِمَّا تتعكَّزُ على تجربتها فى إدارة باراك، لكنَّ الصورة الأوضح للصراع السياسىِّ الراهن تجلَّتْ فى السباقين الأخيرين، فقدَّمت «الترامبية» نفسَها بشىءٍ من الارتباك قبل سنوات، ثمَّ حسمَتْ حربَها مع «الأوباميَّة» اليوم. ما يفرضُ انقلابًا عميقًا سيقودُ بالضرورة إلى إعادة هيكلة الحزبين معًا، وكلَّما تقدَّمت الحالةُ اليمينيَّة سيستأسدُ المُحافظون بدرجةٍ أكبر، وكلَّما سعى التقدُّميّون لمُجاراتهم فسيذهبون ناحية اليمين، قياسًا لِمَا كانوا عليه. إنها مرحلةُ تأسيسٍ أيديولوجىٍّ جديد، وسواء نجحت محاولاتُ اللعب فى إعدادات النظام أو أخفقت؛ فالبلدُ مَاضٍ فى اتّجاه سيتركُ أثرًا عميقًا على تركيبته وتوازُناته السياسيّة.

إنَّ أيّة مُقاربة لفلسفة «ترامب» فى ولايته الجديدة، يتعيَّنُ أن تبدأ من تجربته السابقة ولا تتوقَّف عندها. لقد خسرَ عندما اصطدم بالنظام قبل تَوافُر الظروف المطلوبة للخروج عليه، وأوَّلُها إقناعُ القاعدة الشعبية بالحاجة إلى التغيير، وغياب البدائل. والسببُ الذى أزاحَه من قبل، هو ذاتُه الذى أعادَه اليومَ. بمعنى أنَّ الهزيمة أمام بايدن كانت مفتاحَ الانتصار عليه لاحقًا؛ إذ تكفَّل فى السنوات الأربع الماضية بتعزيز سرديَّة غريمِه اللدود، وتمهيد الأرض لعودتِه الظافرة؛ فضلاً على تحقيق ما كان يُريده المُحافظون الترامبيّون وعجزوا عنه. أى أنْ يُقيموا الحجَّة على البديل الليبرالىِّ فى هيئته الكاملة: رئيس أبيض ونائبة مُلوَّنة وبرنامج يُمثِّل الامتدادَ الطبيعىَّ للأوباميّة المُتسلِّطة على الحزب.

وإزاء الفاعليَّة التى تُؤكِّدُها المُؤشِّراتُ الرقميَّة للسنوات الماضية، والإخفاق الذى تُثبِتُه وقائعُ الأرض، يقعُ التناقُضُ الصارخُ بين التنظير والتطبيق، ويتكشَّفُ للعوام مدى انعزاليَّة النُّخبة عن المجال العام وشواغله، وبهذا تتيسَّر مُخاطبةُ عواطفِ الناخبين، ولا تصبحُ المُناداة بالانعزال عن سياسة اليسار الليبرالىِّ إلَّا تصحيحًا لانعزالِه هو نفسه عن بيئته؛ فكأنها تجميعٌ للعائلة فى فُقَّاعة وطنيّةٍ، بدلاً من فقاقيع تقسيميّة ذات معانٍ امبراطوريّة وعَولَميَّة لم تعُد تُحقِّقُ للناس شعورَ الأفضليَّة والسَّبق، ولا تُطمئنهم إلى المُستقبل الذى تتبدَّل فيه الهُويَّة الجامعة، ويتَّسع الانفتاحُ على الخارج كثيرًا، بينما يضيقُ الداخلُ إلى حدِّ الاختناق بأزماته المُتضخِّمة.

إنجاز بايدن الوحيد أنه أزاحَ ترامب، وإخفاقه الأكبر أنه أعادَه مُجدَّدًا.. وفقَ هذا المُعطَى؛ يصيرُ السؤال الأوقع: لماذا خسرت كامالا؟ وليس لماذا ربح دونالد؟ إنَّ قُدرةَ الأخير على ابتعاثِ نفسه من تحت الرماد، وإعادة تنشيط تجربته بكلِّ مُكوِّناتها الصاخبة، رغم مرارة الخروج المُذلِّ قبل أربع سنواتٍ، وقسوة المُلاحقة بالوَصْم والتشويه والإدانة فى اتِّهاماتٍ جنائيّة، لا تغنى كلُّها عن الإقرار بأنّه ما تقدَّم إلَّا بتأخُّر المُنافسين.. كما أنَّ سُرعةَ العودة، والكفاءة فى ترميم الشعبية واستعادة الحظوظ، ما كانت لتتيسَّر له لو أنَّ وارثيه فى البيت الأبيض أحسنوا العمل، وقدَّموا بديلاً مُقنِعًا.

ومن هُنا؛ فالنتيجةُ ربما تُعبِّر عن رغبةٍ فى مُعاقبة الأوباميَّة بأكثر من كَونها مُكافأةً للترامبيَّة، وهذا ما قد يصحُّ معه القول إنَّ أىَّ ديمقراطىٍّ آخر كان سيتجرَّعُ كأسَ السُّمّ، وأىَّ جمهورىٍّ بديلٍ كان سيحتفلُ بنَخْب النصر. صحيحٌ أنَّ لكلٍّ منهما نكهتَه الخاصَّةَ التى تبدَّت فى السباق، وأفرزت المُؤشِّرات والأرقام على الصورة التى رأيناها؛ إنما لم يكُن التبديل على أيَّة ناحيةٍ منهما ليُغيِّر الخُلاصةَ النهائية، وعليهما استيعاب ذلك؛ لأنه المَدخَلُ لإدارة القُدرات والإمكانات بفاعليَّةٍ فى سنوات التحضير للمُواجهة المُقبلة.
انصرافُ أذهان الديمقراطيين عن واقع الحال سيُورِثُهم مزيدًا من الارتباك، واختزالُ «ترامب» للمسألة فى شخصِه قد يُقوِّضُ طموحَه فى تمرير إرثِه إلى قلب المنظومة، أكان عبر نائبه «جى دى فانس» أو أىِّ بديلٍ آخر. وإذا صَحَّ له أنْ يفخرَ بنتائج المعركة التى خاضَها برُوحٍ قتاليَّة فرديَّة عالية، وربما من دون قبولٍ لدى النخبة الجمهورية؛ فإنَّ عليه التواضُع قليلاً عندما ينظرُ لنفسِه فى المرآة، وعندما يُحاولُ التقصىِّ وفَهم كيف تحقَّقت له العودةُ الاستثنائية، وما يتعيَّنُ عليه إنجازُه لتثميرِها كفاتحةٍ لمسارٍ ترامبىٍّ طويل.

يُمكن القول إنه قدَّم صورةً عصرية لمُحاربى الويسترن، أو نقلَ صيغة البطل الأمريكى من شاشات هوليوود إلى عالم السياسة؛ لكنَّ الاحتمال قائمٌ بأنه اقتنصَ كتلةً ضخمةً من الأصوات تحت هاجس الخوف: أكان من الليبراليَّة التى يزدادُ انحرافُها يومًا بعد آخر، أم منه شخصيًّا، ومِن ارتدادات خسارته على التماسُك الوطنىِّ والأمن واستدامة مرافق الدولة. وفى الذهن إخفاقُ بايدن الآن، واقتحام الكابيتول سابقًا؛ وكلاهما لا يجعلُه خيارًا حُرًّا يُقدِمُ على مشروعٍ مُبتَغى، بقدر ما أنها استجابةٌ اضطراريَّةٌ تتهرَّبُ من بديله المُزعج أو المرفوض.

القراءةُ الخاطئةُ ستُعلِّق الهزيمةَ على الرئيس الراحل، وهو رغم كلِّ إخفاقاته يظلُّ مُمثِّلاً عن أيديولوجيا مأزومة، وتُعانى الارتباكَ والتخبُّط، وإذا كان السباقُ الرئاسىُّ يقبلُ التبسيط فى التفسير؛ فإنَّ نتائج الكونجرس بمَجلِسَيه تُعمِّم التهمةَ على الحزب بكلِّ مستوياته. وفى المقابل؛ فالخطأُ ذاتُه فى الاستدلال سيَعزلُ «ترامب» عن مساحة الوعى المطلوبة لتأصيل برنامج ولايته الثانية، والاستدراك على نفسِه فيما فات، وفيما يغيبُ عن باقة أولويَّاته لصالح المشروع لا الفرد.

إنَّ كلَّ الظروف القائمة تُوفِّرُ له ما يُعزِّز النرجسيَّةَ والافتتانَ بالذات، لا سيِّما مع إقرار المنافسين سريعًا بالخسارة ومُبادرتِهم إلى التهنئة، وهو إنْ لم يَتَحَلَّ بقَدرٍ من الموضوعيَّة والاتِّزان؛ فقد يتعثّرُ فى فوزِه الكبير بدلاً من أنْ يرتقى على أكتافه. والقَصدُ؛ أنّه فى انتصارٍ أقلّ من هذا لم يُفوِّت فُرصَةً للتصويب على نفسِه، والحالة الأقرب إلى الإجماع اليومَ قد تُغريه بالفردانيَّة الكاملة، وتعظيم أسوأ ما كان فى نسختِه السابقة. وبقدر ما أبداه من إشاراتٍ مُناقضة لتلك الهواجس؛ فقد تحدَّث أيضًا عن «فكرة التفويض»، فى مسلكٍ مُعقَّدٍ وإنْ كان يتَّصل بطبيعته الشخصية المعروفة؛ فإنه يُثيرُ القلقَ ويفتحُ البابَ على كلِّ الاحتمالات.

كان خطابُه عقبَ النتيجة ناضجًا بدرجةٍ واضحة، وبدا خفيضَ الصوت وأكثر تعقُّلاً. وهو إذ يبدأ من ذروةٍ عالية؛ فقد تحرَّر من ضُغوطِ التيَّار المُناوئ بعدما سحقَه تمامًا أمام الصناديق وفى وعى القاعدة الشعبية العريضة، فضلاً على الخبرة المُكتَسَبَة من الولاية الأُولى، ومَنطق السَّعْى لإحراز نجاحاتٍ تُبرِزُ حضورَه وتُرسِّخ إرثَه السياسى. إنما فى المُقابل؛ ثمَّة احتمالاتٌ لأنْ ينقلِبَ على نفسِه سريعًا؛ لا سيِّما أنه يخوضُ تجربتَه الأخيرةَ، ولا تعنيه حسابات الانتخابات، ولديه شعورٌ عارمٌ بالهيمنة والشعبية الكاسحة، والأخطرُ أنه شخصٌ يَصعُب توقُّعه أصلاً.

وهكذا تبدو السناريوهات كلُّها مُتكافِئَةً وعلى درجةٍ واحدة من الجدارة، ويصحُّ ترجيح أنْ نشهدَ حقبةً صاخبة فى المواقف والخيارات، كما يُحتَمَلُ أن يترشَّدَ الصوتُ والأداء ذهابًا لصيغة أعمق وأكفأ، وأن يُحدِثَ تغييراتٍ حقيقيَّةً مَلموسةً فى أجندته الخاصة، بل وفى بعض ما يُعَدُّ ضِمن ثوابت واشنطن الراسخة. ربما لهذا يقلقُ الأوروبيِّون، ولا يَطمئنُّ الروس والصينيِّون تمامًا، ويُراوِح الإيرانيِّون والإسرائيليون مواقعَهم بين الريبة والترقُّب والآمال العالية. إنه رجلُ كلِّ الحالات والاحتمالات والأفكار، ويقبلُ بالمنطق الحسابىِّ البسيط أن يُراهِنَ عليه العدوُّ والصديق، وأنْ يَخشَياه أيضًا.

وظَّف «ترامب» الصراعات الدائرةَ ضمن نسيج حملتِه الانتخابية، وكان يعرفُ بالتأكيد أنه غيرُ قادرٍ على إنهاء الحرب الأوراسيَّة خلال ساعاتٍ كما قال، وأنَّ صداقته العميقة مع نتنياهو لا تكفى لتجميد المَقتَلة المُتفَشِّية فى غزَّة ولبنان. ينظرُ الرجلُ لمهامِّه من زاوية «البيزنس مان» مَعنِيًّا بحسبة الربح والخسارة، كما يبدو صادقًا إزاءَ الحديث عن رغبته فى التهدئة، وانحيازِه إلى أزمنة السِّلم وتصفية الصراعات بالأدوات الناعمة؛ لكنه ورثَ تركةً لا يسهُل تفكيكُها على وجه الاستعجال، وقد تَتَسبَّبُ أيَّةُ مُقاربةٍ غير مُنضبطةٍ لها، فى تفخيخ علاقاته الحيوية مع بعض الأطراف، لدرجةٍ تخصِمُ من فاعليَّته والدولة الأمريكية على المدى البعيد.

ما يزالُ لدى «بايدن» هامشٌ من عشرة أسابيع، قد لا يكونُ كافيًا لإحداث أيَّة تغيُّراتٍ على الصعيد الروسىِّ؛ إنما يُمكِنُه أنْ يُثيرَ الغبار فى سماء الشرق الأوسط. والواقع أنَّ زعيم الليكود لن يمنَحَه اليومَ ما منعَه عليه فى الأمس، وحينما كانت أيَّة تسويةٍ بمثابةِ هديَّةٍ سياسيَّة عالية القيمة، وتصبُّ فى صالح المُرشَّحة الديمقراطية. وتلك الوضعيَّةُ المُعلَّقة تسمحُ للحكومة الصهيونية باستنزاف ما تبقَّى من رصيدِ الإدارة القائمة، تحت رايةِ ما يُعرَفُ عن الرئيس الجديد من إسنادٍ كاسح لإسرائيل. بينما فى المُقابل؛ تبدو الشيعيّةُ المُسلَّحة فى مرحلةِ انعدام التوازُن بصورةٍ كاملة، وما بين الضربات التى تلقّتها مَيدانيًّا واستراتيجيًّا، تقبِضُ على لُغةٍ نحاسيّة قديمةٍ وباهتة، تُؤشِّر إلى الانفصال عن الواقع، وإلى عدم القُدرة على التجاوب مع التطوُّرات؛ ناهيك عن تَوَقِّى مخاطر الحقبة الترامبيَّة المُقبلة.

كان بائسًا للغاية، ومُضحِكًا إلى درجة البكاء، أنْ يقولَ أحدُ المسؤولين الإيرانيين إنَّ «محور المقاومة أثبت قُدرتَه على تغيير الإدارة الأمريكية».. وبعيدًا من الخِفَّة وشعبويَّة الرسالة؛ فإنها تُلخِّص تصوُّر المُمانِعين عن فكرة النضال فيما بين السياسة والسلاح، وعن سرديَّةٍ مُحرَّفةٍ للنصر، تخدعُ أصحابها بأكثر مِمَّا تضغطُ على أعصاب خصومِها. إنَّ افتراضَ إدارة الولايات من أطرف غزَّة أو جنوب لبنان، وأنَّ المُقاتلين هُنا قادرون على تلوين الصناديق هُناك، لا يُظهِرُ مدى بُؤس الوعى فحسب؛ بل يفضحُ مقدارَ الاستخفاف بالأذرُع التابعة، وبالقاعدة الشعبية الداعمة، وقبلهما بالأُصول العربية الثمينة وفى قلبها قضيَّة فلسطين، المُتَّخَذَة مَوضوعًا للمُناكفة الصَّفَوية، لا لشىءٍ إلَّا تمرير الأجندة العرقيّة المُلوَّنة مذهبيًّا.

العقليَّةُ نفسُها ربما هيَّأت للسنوار أنه سيكنسُ بالطوفان ما تبقَّى من صلابة نتنياهو وائتلافه، بينما كان يخوضُ نزاعًا داخليًّا صاخبًا على خلفيَّة مشروع الإصلاح القضائىِّ؛ فانعكَسَتْ الوِجهَةُ وترسَّخت حكومتُه تحت راية الإجماع فى زمن الأزمة. وإذا افترض المُمانِعون أنهم أصحابُ سَهمٍ فى إزاحة الديمقراطيين واستجلاب ترامب؛ فإنها كوميديا أنْ يُطلِقَ الشخصُ الرصاصَ على قدميه، وسذاجةُ أنْ يفخرَ بقُدرته على ضَغط الزناد بغَضِّ النظر عن الهدفِ أو دِقَّة التصويب.

وبالمَنطق نفسِه؛ يُصبحُ النصرُ قابلاً للتشويه، ولإكسابه معانى غير ما يُعرَفُ فى أدبيَّات الحرب والسياسة، أو يعرفُه العقلُ الإنسانىُّ السليم؛ إذ يكفى أنْ يُقتَلَ ألفٌ وبضعُ مئاتٍ فى غلاف غزَّة ولو استَوْفَت إسرائيلُ مائة ضعفٍ من الفلسطينيين، وأن يرحلَ 60 ألفًا عن مُستوطنات الجليل ولو نزحَ مليونان فى لبنان. ولنا الفخرُ بإدخالهم الملاجئَ مع كلِّ صاروخٍ ومُسيَّرة؛ وليس مُهمًّا أنْ يتبعوها بغاراتٍ تَهدِمُ البيوتَ على رُؤوس ساكنيها.

كان الزمنُ قد تحرَّك بعيدًا، بينما يُديرُ حسن نصر الله حربَه على طريقة 2006؛ والمُحصِّلةُ أنه دفعَ حياتَه شخصيًّا لقاءَ الخِفَّة وسوء التقدير. وحتى اللحظة؛ لا يبدو أنَّ «محورَ المُمانَعة» أعادَ تطوير رُؤيته للصراع، أو تحديث لُغَتِه، أو إنتاج مُقاربةٍ مُنشَّطة من خُلاصات السنة الماضية، وبما يتلاءم مع مَرحلةٍ يقودُها ترامب. وبينما عمل نتنياهو من البداية لتعزيز حظوظ حليفِه المأمول، واستقبله قبلَ النتائج بتعديلٍ على حُكومته، أطاحَ فيه وزيرَ الدفاع القريب من إدارة بايدن، واستبدلَه بتابِعٍ مُخلصٍ لشخصِه، بجانب ليكودىٍّ سابقٍ ويَمينىٍّ عَتيدٍ على رأس الدبلوماسية؛ فإنَّ طهران والضاحية وأنفاقَ غزَّة، وفنادقَ الحماسيِّين والحزبيِّين فى كلِّ مكانٍ آخر، لم تَضبِط ساعاتها بعد، ولا تجاوزت أوهامَ الماضى أو انخرَطَتْ بعُمقٍ فى مأساة الحاضر.

تموجُ الأرضُ تحت الأقدام، والأُصوليِّون كأنهم أصنامٌ راسخة؛ والمُؤسِفُ أنهم يُكبِّدون القضايا البريئةَ منهم، فواتير باهظةً عن الخطايا التى يرتكبونها بإرادةٍ فرديّة. يُحتَمَلُ أنْ يتلاقى «ترامب» مع نتنياهو بالكُليّة أو يفترق عنه جزئيًّأ؛ لكنَّ الأخيرَ سيجتهدُ للإيحاءِ بالتطابُق الكامل، بينما خطابُ الشيعيَّة المُسلَّحة يُعزِّزُ ذلك، والدراما تمضى فى مسارٍ تراجيدىٍّ لا يتوقَّف النزيفُ فيه؛ قد يُطرَد الحماسيِّون من بعض منافيهم الآمنة، وتَفسَدُ جهود التهدئة بمُراوغاتِ الطرفين أو بالضغوط على الوسطاء، ولا سبيل لاستدراك ما فات بالآليَّة التى تسبَّبت فى ضياعِه أصلاً، ولا للخروج من الحُفرة بينما يتواصَلُ الحَفر فيها. وبقدرِ الإزعاج فى عودة ترامب؛ فإنه يُمكِنُ أن يكون طوقَ نجاةٍ لبعض المُمانَعة، على الأقلِّ من رأس المحور الذى يستغلّ الفصائل وساحاتها الرديفة، ومن عدوٍّ مجنونٍ سيزداد جنونًا، ومن شيطان الذات أوَّلاً وأخيرًا.. الإنقاذ على معنى الاعتراف بالخطأ، والمُراجعة والتصويب، والفصل بين الميليشيا والوطن، ومعرفة أن استمراء اللعبة الخاسرة يُهدِّد بخسائر أكبر، وأن الأوهام أشدّ قسوةً على القضايا العادلة من إجرام العدو وخذلان الحليف.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة