وليد فكرى يكتب: عن التشاؤم وأصوله نتحدث «2»

الثلاثاء، 12 نوفمبر 2024 11:00 ص
وليد فكرى يكتب: عن التشاؤم وأصوله نتحدث «2» وليد فكرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أستكمل اليوم حديثى عن أصول أشهر ما يتشاءم منه الناس بشكل عام - والمصريون بشكل خاص - فأرجو من القارئ مراجعة المقال السابق.

.4. كلب أسود أو قطة سوداء = جن أو شيطان:
من منا لم يسمع هذا القول من قبل؟ الأمر لا يقتصر على افتراض لا أعرف من أين أتى به البعض أن جنا قرر أن يترك حياة الجن ويتشكل فى هيئة قطة سوداء تبحث عن طعامها فى الفضلات وتتعرض لأذى الناس، بل يتجاوزه للتشاؤم من الحيوان أسود اللون، وكأننا قد انتهينا من أمر العنصرية ضد البشر، فقررنا أن نمارسها ضد الحيوان!

ذلك المعتقد بشؤم الحيوان أسود اللون تغذى على عدة روافد، من ناحية كانت بعض حكايات العرب قبل الإسلام تتحدث عن أناس وجد بعضهم كلبا أسود فى الصحراء، فقرر تربية هذا الكلب واستخدمه فى الصيد والحراسة، وذات ليلة بينما كان الرجل بين اليقظة والنوم فوجئ بكلبه - الذى كان يظن صاحبه نائما - يخاطب كلبا آخر بلسان البشر.. فأنصت الرجل إلى حديثهما ليكتشف أنه كان يأوى فى دياره شيطانا من الجن.

أو قصة أخرى عن امرأة فقدت زوجها واشتاقت له فسعت لتعلم السحر لتصل إليه به، فجاءها كلب أسود ضخم ودعاها لامتطاء ظهره وطار بها فى لمح البصر إلى مدينة بابل الشهيرة تراثيا بالسحر، فقابلت هاروت وماروت وتعلمت منهما السحر الأسود وأثناء ذلك خرج من جسدها فارس كأنه طيف وطار للسماء، فقال لها الملكان: هذا إيمانك قد فارقك منذ قررت تعلم السحر.

وفى أوروبا العصور الوسطى كانت القطة السوداء كائنا مضطهدا، فقد كانت من خرافات محاكم التفتيش الكنسية التى أحرقت أعدادا كبيرة من الأبرياء بتهمة ممارسة السحر، أن السحرة والساحرات يلتقون ليلا فى الغابات وهم متنكرون فى هيئة قطط سوداء، ليقيموا طقوسهم الشريرة برئاسة الشيطان نفسه، وقد عبر الكاتب الأمريكى إدجار آلان بو عن الشعور بالتشاؤم من القطط السوداء فى قصته القصيرة المقبضة «القط الأسود» التى نشرها فى العام 1843.

أما الرافد الثالث للتشاؤم من القطط والكلاب السوداء فهو ارتباط اللون الأسود فى الثقافة العربية بسوء الحال، فيقال مثلا: «فلانا سوّد وجه أهله بأفعاله» أى أنه قد جلب عليهم الشعور بالعار بأفعاله، أو «لا تسود وجهى أمام الناس» أى «لا تخذلنى أمامهم».. وفى القرآن الكريم يستخدم تعبير «سواد الوجه» بنفس الغرض فى القول الكريم «يوم تَبيض وجوه وتسوَد وجوه».. ويحضرنى هنا موقف طريق ذكره الكاتب ابن الجوزى فى كتابه «أخبار الحمقى والمغفلين» عن رجل أحمق قرأ الآية فرفع يديه للسماء وقال: «اللهم بيض وجهى يوم تبيض وجوه وسوده يوم تسود وجوه»، وهو لا يفهم معنى الآية وكناية سواد الوجه.

من هذه المنطلقات تغلغلت فى أذهان البعض تلك الفكرة السيئة عن الكلاب والقطط السوداء، إلى حد أن صفحات الرفق بالحيوان تزدحم بالمنشورات عن أناس ولدت قطتهم لكن بين قطيطاتها قطة سوداء، فقرروا أن يتخلصوا منها تشاؤما.. ولا أدرى أيهما فى الحقيقة كان شؤما على الآخر القطة السوداء أم الجهلة الذين عاقبوها على أمر ليس ذنبا ولا هو بيدها.

.5. «جاله اللهم احفظنا المرض الوحش!»
ثمة معتقد قديم جدا أن ذكر اسم الأذى يجلبه.. يذكرنى هذا برواية قديمة للدكتور نبيل فاروق - رحمه الله - فى سلسلة «ملف المستقبل» تحمل اسم «ابن الشيطان»، عن أن ابنا للشيطان يستدعى بقراءة اسمه المكتوب بلغة قديمة غامضة لا يستطيع قراءتها إلا التعساء والبائسون والمجرمون، ليرجع إلى الأرض ويعيث فيها فسادا.

مسألة الكناية عن الاسم بكلمة أخرى عرفتها الثقافات المختلفة ومنها العرب، سواء للتعظيم أو للحياء أو للتطير.. فأما التعظيم فكان مثلا بأن تمتنع القبيلة عن ذكر الاسم المجرد للحيوان الذى يمثل «الطوطم» - أى السلف القديم - للقبيلة، فيقال للثعلب «أبى الحصين» وللأسد «أبا الحارث» وهكذا.. وما زالت بعض مناطق صعيد مصر تسمى الثعلب «أبى الحصين» بحكم تأثرها بهجرة تلك القبائل منذ قرون.

أما الحياء والاحتشام فيكون عند ذكر عضو حساس فى الجسم أو علاقة حميمية بين الرجل والمرأة أو فعلا مما يحتشم فيه كقضاء الحاجة.

أما الامتناع عن ذكر الاسم تشاؤما فهو الأكثر شيوعا إلى يومنا هذا.. ونصادف منه أمثلة كثيرة، أشهرها تطير البعض من ذكر اسم مرض السرطان فتجدهم يقولون عنه «المرض الوحش» أو «فلانا أصيب بالله أكبر»، أو «جاءه اللهم احفظنا».. والجملة على بساطتها تحمل معنيين هما استبشاع المرض إلى حد رفض ذكر اسمه، وطلب الحماية من الله بالتكبير «الله أكبر» أو «الدعاء بالحِفظ».

كذلك يمتنع بعضهم عن ذكر الكلمات التى تشير للجن كأن يقولوا عنه «بسم الله الرحمن الرحيم» أو «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» لو كان يقصد جنا شريرا بالذات.

ويشتهر المصريون بمقولة «الملافظ سعد»، فإذا ذكر أمام بعضهم ما يكره زجر محدثه قائلا: «ما الذى تقوله؟ الملافظ سعد» فى إشارة للتشاؤم من ذكر آية أحداث سيئة خوفا من تحققها.

ينحدر هذا السلوك - سواء مع الأمراض أو الكائنات المؤذية أو الأحداث السيئة - من معتقدات بعض الشعوب القديمة أن أرباب وآلهة الشر والأرواح المؤذية يمكن استحضارها بمجرد ذكر الاسم، فإذا حضرت لم تنصرف بغير إشباع رغباتها الشريرة فى إلحاق الأذى بمن استدعاها، وكذلك من اعتقاد فى أن افتراض السوء يحققه، وهذا الاعتقاد الأخير قد يحمل بعض الوجاهة فيما يتعلق بالأثر النفسى للتشاؤم أنه قد يدفع المتشائم لا إراديا لارتكاب ما يؤذيه أو «يعكس» أثر أمر يزمع القيام به لتحقيق الخير.

بشكل عام، فإن التشاؤم وأسبابه وأصوله وتراكم معتقداته فى الوجدان الجمعى للشعوب هو من الموضوعات المثيرة والثرية جدا، والتى تستحق دائما النظر والبحث والتحليل لما بين سطورها من تفاصيل تاريخية مهمة.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة