التهدئةُ فى لبنان على مرمى حجرٍ، وبعيدةٌ أيضًا فى الوقت ذاتِه. والعِلَّة فى جنوبىِّ الليطانى، لا تختلفُ عن مَثيلتِها على ساحل غزَّة. إذ تتوافرُ الشروطُ الموضوعيّة لإنجاز الصفقة، ويُريدُها الجميع تقريبًا إلَّا واحدًا. إنه «سفَّاح القرن» بنيامين نتنياهو، وقد أعَدَّ عُدّته للعب بالبيضة والحجر، والرقص على كلِّ الأحبال المُتوازية والمُتقاطعة: ارتباك فصائل المُمانَعة، وضبابيَّة الرؤية الإيرانية، والتردُّد بين الوِفاق والشِّقاق فى حديقة البيت الأبيض، من إدارةٍ تحزمُ حقائبَها للرحيل، إلى ثانيةٍ تتأهَّبُ لترتيب أغراضِها فى دواليب السلطة الأمريكية.
وكلُّ طرفٍ ينظرُ فى ساعتِه مُتحَسِّسًا من ضياع الوقت؛ بينما يتقافزُ الضَّبعُ الليكودىُّ بين عقاربها جميعًا؛ رهانًا على أنْ يُضيِّعَ من «بايدن» ما تبقَّى له، ويسرقَ من «ترامب» افتتاحيَّةَ ولايتِه، ويُوظِّفَ الشيعيَّةَ المُسلَّحةَ فى مُقاومة الأوَّل واستفزاز الثانى.. كأننا إزاء فرصة سهلة ومُستحيلة بالدرجة ذاتها؛ لأنَّ عوامل الإطفاء فيها ما تزالُ قادرةً على التأجيج، ولأنَّ أخطاءَ الحساب قد تتجاوز توازُنات الميدان، والعجز عن الحَسْم بالقوَّة يُستعَاضُ عنه بتسليح السياسة، ما يجعلُ الحوارَ صورةً أُخرى من صُوَر الحرب.
تزحزحتْ الأوضاعُ الجيوسياسيَّة للإقليم فى سنة الطوفان، كما لم يحدُثْ فى العقدين السابقين عليه. كانت حربُ العام 2006 فى لبنان خطيئةً حسابيًّةً من جانب الحزب؛ لكنها زخَّمَتْ دعاياته العاطفية فى الحواضن اللصيقة والبعيدة، وعزَّزت مراكزَه الماديَّةَ فى البيئة اللبنانية؛ ما يسَّر له أن يصرِفَ خسائرَها على الجبهةِ مَنفعةً فى الحُكم.. أمَّا جولة 2008 مع القطاع فلم تخرُج عن نظريّة «جَزّ العشب»، بما تعنيه من رعاية الوضع القائم تحت سقفٍ محسوب؛ لكنها أضافت لحماس فائضًا معنويًّا استُثمِرَ لاحقًا لتثبيت سُلطتها، وتأبيد حالة الانقسام والتنازُع مع مُنظَّمة التحرير والسلطة الوطنية.
وعلى العكس تمامًا؛ تبدو إسرائيلُ اليومَ مُنقلِبَةً على نفسِها، كما لو أنها تستدركُ أخطاءَ الماضى، وتحاولُ تصويبَ ما تعمَّدَتْه أو تغاضَتْ عنه سابقًا. أىْ أنها تنطلِقُ من شعورٍ بالذنب تجاه الذات؛ بمعنى النظر للمسألة من زاوية أنها مَكَّنَتْ للطرفين فى الشمال والجنوب، والقتال الدائرُ حاليًا إنما هو أقربُ للقصاص من الزمن القديم بأثرٍ رَجعىٍّ، وللرغبة فى قَطع الطريق على تكرار الجولة؛ ولو بصورةٍ مُغايرة.
عُقِدَ الرباطُ بين الضاحية والقطاع؛ لتكونَ الأُولى إسنادًا للثانى؛ لكنها صارت عِبئًا عليه للأسف. بدا أنَّ «وحدةَ الساحات» شعارٌ أكثر من كونِها سياجًا حِمائيًّا فاعلاً، وقد سَدَّد الغزِّيون تكاليفَها دون أن ينتفعوا بعائدها؛ هذا إن كان لها عائدٌ من الأساس. والحال؛ أنَّ دخولَ الحزب على جبهة الطوفان عَزَّز ذرائعَ نتنياهو، وفرشَ طريقَه نحو توسعة الحرب بالعاطفة والخُطَب النارية، كما فتحَ له جبهةً رديفة، يُعوِّضُ بالتشدُّد فيها ما يعجزُ عن تحقيقه فى الجبهة الأصيلة.
وإذ يعودُ المُمانِعون الآنَ لفصلِ الساحات عن بعضها؛ فإنَّ غريمَهم يتمسَّكُ بالضغط على المحور من خَواصرِه الهَشَّة، أىْ أنّه يستثمرُ الجنوبَ لإشعال الشمال، ويقبضُ على قاعدةِ لبنان لتجميد المشهد فى قاعدة فلسطين. وصحيحٌ أنَّ نواياه السوداء لم تعُد خافيةً؛ إنما البحثُ فى التهدئة بشروطٍ موضوعية، قد يبدأُ من الهندسة العكسيَّة للجولة القائمة، أى أنَّ إنجاز الصفقة من جهة الجليل، مُقدِّمَةٌ ضروريّة لتكرارها على تخوم النقب.
ومَبعثُ القَول بما تقدَّمَ؛ أنَّ تلَّ أبيب تنظرُ فى أهدافها وأهداف الخصوم معًا. وعلى هذا المعنى؛ فإنَّ الهُدنةَ وتبادُلَ الأسرى مع حماس، سيكونان عُنوانًا على الهزيمة أمامَ الحزب، رغم كلِّ ما طالَه من أضرار؛ انطلاقًا من أنَّه منحَ معركتَه صِفَة «المُشاغَلة والإسناد»، وحدَّد لها هدفًا وحيدًا أنْ يتوقَّفَ العُدوان على غزَّة. وعليه؛ فالرصاصةُ الأخيرةُ يجبُ ألَّا تكونَ حزبيَّةً؛ ليتيسَّر لها ادِّعاء ترويض الميليشيا بمَعزلٍ عن الحركة، ودون تقديم تنازُلاتٍ ماديَّة أو معنويّة.
أما من جانبٍ آخر؛ فإنَّ بقاء «حلقة النار» لم يعُد مُبرَّرًا فى بيروت، لا من الهَمِّ الذاتى ولا حتى الانفعال بالنكبة الفلسطينية؛ بعدما تأكَّد أن التصلُّبَ يحرقُ البيتَ، ولا يُؤذى الجارَ القريب أو يُفيدُ الجارَ البعيد. فكأنَّ إسكاتَ البنادق شَمالاً قد صار مصلحةً عُموميَّة للقضيّة ومن يَدَّعون مُناصرتَها، وأقصى صُوَر الإسناد المطلوبة والمُمكِنَة، وكلُّ تغييبٍ له إضرارٌ بالنفس والحليف على حدٍّ سواء.
المُشكلةُ أنَّ الحكومةَ الصهيونية المُتطرِّفة تطلبُ الحربَ أضعافَ ما يطلبُ خصومُها السلام. وليس القَصدُ منها أن تُنزِلَ بالحماسيِّين والحزبيِّين أكثرَ مِمَّا حاقَ بهم بالفعل؛ بل أن تُبقِى الجمرَ تحت الرماد، انتظارًا لاستكشاف نوايا الإدارة الأمريكية الجديدة، وطمعًا فى اصطحابها إلى جبهة القتال المُباشرة مع إيران. وما يُشجِّعُ على الترقُّب والمُغامرة، أنَّ واشنطن لا تُبدِى القدرَ المطلوبَ من الحَزم مع نتنياهو وعصابته، وتُرخِى له ستارَ المراوغة والابتزاز، وتقولُ ما يحملُ المعنى وعكسَه.
وإذا كانت الضبابيَّةُ طبيعيَّةً فى مناخٍ انتقالىٍّ، ومع إدارةٍ جديدة لم تتّضح ملامحُها الكاملةُ بعد؛ فإنَّ ما يُهَنْدَسُ اليومَ قد يصعُب تدارُكُه غدًا، ومهما أبدى «بايدن» من رغبةٍ فى الخروج من المشهد بصورة ختاميّة مُشرِّفة، أو تحدَّث «ترامب» عن كراهيَّتِه للحروب وسَعيه لكَبْحِها؛ فالخرائطُ قد تَفرضُ عليهما عكسَ ما يتطلَّعان إليه ويُناديان به. أىْ أنَّه لا نَفعَ من الأفكار والرغبات؛ ما لم تُعبِّر عن نفسِها بوضوح، وعلى وجه الاستعجال.
بالحسابات العَمَليَّة، نضجَتْ الظروفُ الدافعةُ لإنتاج تسويةٍ مرحليَّة أو دائمةٍ على الجانب الشمالى، ومسألة الجنوب ستكونُ لاحقةً لها بالضرورة والمُباشرة. وما يمنعُ من وصول القطار لمحطَّته أن طرفًا بعينِه ينزعُ القضبانَ، ويلعبُ فى التحويلة بين وقتٍ وآخر. زيارَتَا الرئيس الإسرائيلىِّ ووزير الشؤون الاستراتيجية لواشنطن بالتزامن تقعان ضمن محاولات التعطيل؛ فاستهدف الأوَّلُ تطويعَ إدارة بايدن، وسعى الثانى لاستطلاع رياح ترامب وفريقِه، وإنجاز تفاهُماتٍ لا تجورُ على أجندة الحكومة، ولا تُكَثِّف الضبابَ بين البلدين فى مُستهَلِّ حقبةٍ جديدة.
إلى ذلك؛ لا يُمكن القفز على مُحاولات تسميم الأجواء مع طهران، وإعادة الرئيس الجمهورىِّ اليومَ إلى ما توقَّف عندَه فى ختام ولايته الأُولى. هكذا يُمكِنُ النظرُ إلى الاستثمار الدعائىِّ فى محاولات الاغتيال التى تعرَّض لها، أو قالت المنظومةُ الأمنيَّة إنها أحبطَتْها، وآخرها أخبارُ القبض على شخصٍ قِيْلَ إنَّ الحرسَ الثورىَّ دفعَه لمُراقبة «ترامب» والنَّيْل منه. وإذا كان ثأرُ «سليمانى» المُعلَّق يجعلُ المسألةَ منطقيّةً؛ فالمصلحة الإسرائيلية من وَضعِ الملح فى الجراح المفتوحةِ يصعُب إنكارُها؛ بل يُحتَمَلُ أنها تنشَطُ على الخطِّ رغبةً فى توجيه الرجل المعروف بإغراقه فى الذاتيَّة وشَخصَنة المواقف والسياسات.
على المَقلَب الآخر؛ نَفَتْ طهران أيَّةَ علاقةٍ بالمسألة، وتردَّد أنها قدَّمت إفادةً مكتوبةً تنفى صِلَتَها بمُحاولات الاغتيال. صحيحٌ أنها لم تكُن تُحِبُّ للانتخابات الأمريكية أن تنتهى لنتيجتِها المُعلَنة؛ لكنَّ عدوّها اللدود نتنياهو كانت لديه رغبةٌ مُضادّة تمامًا، واستثمر بالحرب والسياسة فى تعزيز فُرَص ترامب، وقد لا تكونُ مُحاولةُ الاغتيال بعيدةً من أجندة التأثير فى السباق، ولا مُواكبَتُها الإعلاميَّةُ مُنبَتّةَ الصِّلةِ بالأنشطة الدعائية المُخطَّطة والمدفوعة. وباختصارٍ؛ بقدرِ ما يتأرجَحُ الجَرسُ فى رقبة الجمهورية الإسلامية؛ فإنه يتلاطَمُ ويصخبُ على صدر الدولة العِبريّة، وقد لا يكونُ أىٌّ منهما مُتورِّطًا فعلاً؛ لكنها التمنيّات والاستثمارُ فى الوقائع المحسوبة والعارضة.
من مجموعِ ما فات، تمُرُّ التهدئةُ فى لبنان من قنواتٍ ضيِّقة ومُتعارِضة: عَجْز بايدن عن اتِّخاذ إجراءاتٍ حاسمة، بينما ينسحِقُ بين مطرقةِ الوقت وسندان الخذلان من الداخل والخارج، ورغبة ترامب فى استلام المنطقة باردةً دون جَورٍ على حسابات إسرائيل ومصالحها، ورَفْض إيران للتسليم بالواقع رغم قناعتها بأنَّ المُقبِلَ ربما يكونُ أسوأ، وأخيرًا تضخُّم الطموحات الصهيونية كلَّما تبدَّت هشاشة الآخرين. وبعدما بدأت من سَرديّةِ الخطر الوجودىِّ والبحث عن الأمان، باتت تطمعُ فى ترسيم الإقليم وإعادة تحرير خرائطه، وفى أن تشطُبَ أربعةَ عقودٍ على الأقلِّ من تجربة الشيعيَّة المُسلَّحة.
يصعُب تسويقُ الصفقة الأمريكيَّة فى لبنان على صِفَة الوساطة المُتَجرِّدة. كان بايدن مُنحازًا منذ البداية؛ باختياره ضابطًا سابقًا فى الجيش الإسرائيلىِّ ليكون مبعوثًا للتسوية بين البلدين. ورغم نجاحه فى ترسيم الحدود البحرية قبل سنةٍ من «طوفان السنوار»؛ فإنه فيما تلا الحرب قد بدا عاجزًا عن تقريب الرُّؤى، أو بالأحرى لم يكُن راغبًا فيه، وتسلَّطت نزعَتُه الصهيونيَّة على طبيعة الدور وواجبات الحياد؛ حتى أنَّ لَغتَه لم تخلُ من التهديد، وكثيرًا ما بشَّر بالحوادث قبل وقوعها؛ كأنه كان رسولاً من العدوِّ لا وسيطًا لترشيد العداوة.
وفى المُقابل؛ فإنَّ الحزب لا يفتحُ البابَ لأيَّة مُقاربة مُضادّة، ولو على معنى المُقاومة وتخليق التوازن، ما يُغيِّب فرصةَ الوقوع على «بديلٍ ناضجٍ» بين خِيارَيْن سَيِّئَين. والحال؛ أنَّ حكومة نجيب ميقاتى تبدو مُكبَّلةَ الساقين بالحزب، ويُكبِّلُ الاحتلالُ ورُعاتُه يديها، والوحيد القادر على الفَصل، رئيس البرلمان نبيه برّى، تحكمُه اعتباراتٌ مُركَّبةٌ من الدستور والميثاقيَّة وحقائق الأرض، ومن الانتماء والعاطفة والحرج، ولا يُمكِنُ أنْ يُلَام فى كثيرٍ من التفاصيل؛ بالنظر إلى مهمَّتِه المستحيلة فى التوفيق بين فُرقاء مُتصادِمين، وإلى أنه يصحُّ حسبانه بين ضحايا الحالة الحزبيَّة بمعنىً أو آخر، وماضيًا أو حاضرًا.
وإذا كان الأمينُ العام الجديد، نعيم قاسم، قال فى السابق إنهم يُفوِّضون «الأخَ الأكبر» نبيه برّى؛ فلا يُعرَفُ مجالُ التفويض أو حدوده. وقد تقاطَرَ المسؤولون الإيرانيِّون على بيروت برسائلَ مُتضاربةٍ، وقال رئيسُ برلمانها باقر قاليباف للإعلام الفرنسىِّ إنهم جاهزون للتفاوض مع واشنطن بشأن التهدئة وتفعيل القرار 1701. أى أنَّ برلمان طهران يدَّعى الإمساكَ بما يتعذَّر على برلمان بيروت، وليس فى مَقدور الأخير أن يُغطِّى الجيشَ وحكومةَ تصريف الأعمال، فيما لا يقبَلُه الحزب. وصحيحٌ أنّ الأخيرَ عاجزٌ عن فَرْض رُؤيتِه؛ لكنه قادرٌ قَطعًا على إفساد بقيّة الرُّؤى.
على هذا المعنى، تبدو المُعضِلَةُ اللبنانيَّة أعقَدَ من الظاهر، ولا تقعُ حصرًا فى الجنوب، أو ما يخصُّ مُجريات الحرب الدائرة، سواء اعتبرناها عُدوانًا أو قتالاً مُتكافِئًا. وإذا كان السؤالُ الأكثرُ رَواجًا فى غزّة يأتى تحت عنوان «اليوم التالى»، قاصدًا ترتيبات ما بعد الهُدنة على صعيد الإدارة المدنيَّة، ومعاش الناس، وبرنامج الإعمار، وتوازُنات السلطة على المديَيْن القريب والبعيد؛ فإنَّ لبنانَ أحوجُ ما يكون لإثارة المسألة نفسها؛ ولا يُمكنُ القولُ إنها من باب الرفاهية وما يَحتملُ الإرجاء.
أزمةُ لبنان الحقيقيَّةُ فى يَومِها التالى، وقد تأكَّد أنَّ الصيغةَ القديمة لا يُمكِنُ استمرارها، بينما لا يعترفُ الحزب بما آلَتْ إليه الأحوال، ويعودُ جريحًا من القتال؛ لتعويض خسائره فى السياسة. وإذا كانت حالةُ التعادل فى 2006 قد تَبِعَها اقتحامُ بيروت بالسلاح، وفَرْض الثُّلث المُعَطِّل، ثمَّ الإمساك بخِناق الدولة وكلِّ مرافقها لنحو عقدين؛ فالسياق الراهنُ يبدوُ أخطرَ مِمَّا فات، وعلى أيّة حالٍ من الحالين: إنْ أقنعَ الحِزبيّون أنفسَهم بالرجوع بشَارةِ النصر؛ فسيطمَعون فى تأكيدها بالداخل. وإن أَقرّوا فى دواخلِهم بالهزيمة؛ فسيستميتون فى إنكارها على حساب شُركاء الوطن.
وهكذا؛ فبقدر التطلُّع إلى مُقاربة تَسوَوِيَّة مُقنعةٍ، يتعيَّن البحثُ من الآن عن توافقاتٍ داخليَّة قابلة للإنفاذ، ولا تُهدِّد ثلاثيَّة «التعايش ونهائيَّة الكيان وعُروبته»، كما لا تُعيدُ إنتاجَ أسوأ ما فى الماضى من انقلاباتٍ أفرزتها الحوادثُ الكُبرى، بغضِّ النظر عن رغبة القُوى الفاعلة فيها، أو عن الاستعداد لها وكفاءة التعاطى معها.. وقعت الوقائع كُلَّها على رأسِه دون اختيارٍ منه، بمعنى الإجماع الواجب فى بيئة مُتشَظِّيةٍ، ولا فارقَ إطلاقًا بين الاقتراب غير المسؤول من «حِلْف بغداد» قديمًا وصولا للحرب الأهليّة المُصغّرة فى 1958، أو الدخول الإذعانىِّ المشبوه فى «محور المُمانَعة» حديثًا؛ بما قوَّض الدولةَ واستتبَعَها لحساب أجندةٍ أكبر منها، وعلى غير ما تقضى مصالحُها تمامًا.
لقد سمحَ اتِّفاق 1969 لحركة «فتح» بحُريَّة الحركة؛ فقاد إلى حصار بيروت وإخراج عرفات ورجاله، وحرَّك سُلطةَ المجالِ العام من ثِقَل الرمزيَّة الفلسطينية إلى عبء الحرب الأهلية. والأخيرةُ أسلَمَتْ البلدَ بعد خمس عشرة سنة للوِصاية السورية، ومنها إلى نَحْر رفيق الحريرى فى قلبِ عاصمتِه؛ ثمَّ نَقلِ العِصمَة إلى إيران، وبالتسلسُل لا يُمكن أنْ تظلَّ الأُمور على حالِها؛ كما تستحيلُ العودةُ فى الزمن أيضًا. والبديلُ، أو المَخرج الوحيد، أنْ «يتلَبْنَن» لبنان بالكُليّة، وللمرَّة الأُولى تقريبًا فى تاريخه، أو على الأقلّ أن يتدفَّأ بالحاضنة العربية الأَمينَة؛ لحين امتلاك زمامِه واكتمال عافيته؛ بما يُعينُه على تخطيط سنواته المُقبِلَة خارج وِصاية الخارج أو استقواء الداخل.
الحصيلةُ الإجماليَّة؛ أنَّ البحثَ عن مَخرجٍ من الحرب المُتأجِّجة جَنوبًا، يحملُ مهمَّة ازدواجيَّة لناحية ترتيب البيت من الداخل. وعلى حسبِ ما ستتوصَّل المُداولات الجارية بشأن التهدئة، ستَرتَسِمُ ملامحُ الحِقبة اللبنانية المُقبلة؛ فإمَّا أنْ يعودَ البلدُ لِمَا كان عليه؛ كأنه لم يأخُذْ من الرحلة إلَّا الدمار وتكاليف الحرب، أو أن يُعيدَ تأهيلَ بيئته السياسية على نحوٍ مُتوازنٍ، ولا يستَعدِى فريقًا ضدّ آخر.
والخطرُ أنْ يحملَ الاتِّفاق بذورَ الفُرقة؛ من باب الإيحاء لمُعارِضى الحزب بأنه أوانُ السَّحق وتسوية الحسابات العالقة، أو إرخاء الحَبل للشيعيَّة المُسلَّحة أن تُحصِّل من الداخل ما فَقدَتْه فى الخارج، وكلاهما يحملُ تهديدًا بتسعير أجواءٍ شبيهةٍ بالحرب الأهلية. قد لا تكونُ البيئة اللبنانيَّةُ جاهزةً لها، أو لا تتوافر الرغبةُ الخارجية فى إذكائها؛ إنما كثيرًا ما تقعُ الحوادث بأثر سوء التقدير، وأكبر النار من مُستَصغَر الشَّرَر.
إسرائيل فى ضرباتها تتقصَّد هذا، وقد بدأت بتأليب بقيّة الطوائف على الحزب، ثم بتأليب البيئة الشيعيّة نفسها بعمليات مُمنهجة للإرهاب والإرعاب و»كَىّ الوعى»، وبتفعيلٍ واضحٍ لعقيدة الضاحية وما تحمله من نُذر عقابية وإفنائيَّة تترصَّد الناس فى صحوهم ونومهم. وهذا ما يفرضُ على السلطة الشرعية أن تقطع الطريق على أجندة التأجيج الطائفى، وأن تُروِّض الحزب ورُعاته، وتستغل حماوة الإسناد الإقليمى وما أنتجته القمة العربية الإسلامية، وفاصل الانتقال بين إدارتين أمريكيتين، فى الوصول إلى الشروط الأفضل؛ ولو لم تكن مثاليّة تماما.
أحدث المقاربات جاءت أواخر الأسبوع المنقضى، مع ورقة من ثلاثة عشر بندًا قدمتها السفيرة الأمريكية فى بيروت للرئيس برّى، وتضاربت الرُّؤى بشأنها، بين ادِّعاء أنها تنطوى على الشروط العبرية المرفوضة سابقا، ونفى رئيس البرلمان أى حديث فيها عن حرية التحرُّك للاحتلال فى أرض لبنان أو سمائه، ثم الاختلاف بشأن القرار 1701 ومُندرجاته. وأرجح المُتواتر، أن التصوُّر يُؤسِّس لهُدنة من 60 يومًا، على أن تتبعها مُداولات بشأن التهدئة الدائمة.
يقع الخلاف فى بندٍ يستحدث لجنةً غربية للإشراف على تفعيل القرار، بينما تُركز بقيّة التفاصيل على آلية التنفيذ ودور الجيش، ومراقبة الحدود لمنع التهريب. أما مسألة نزع السلاح على قاعدة القرار 1559؛ فإنها حاضرة ضمنيًّا فى القرار 1701، وإذا كان الحزب يرفضها؛ فإسرائيل لن تقبل بتجاوزها ومعها الأمريكيون، سابقون ولاحقون. وعليه؛ فقد لا تعبرُ الورقة الأخيرة من قناة الشد والجذب، واعتراض السلطة الشرعية بالأصالة رفضًا لفكرة الرقابة الغربية، كما اعتراض تل أبيب على تغييب بند حرية الحركة، وغمز طهران من قناة الضاحية تأسيسًا على نهائية مسألة السلاح بالنسبة للمُمانعة.
يعجزُ بايدن عن تمرير رُؤيته؛ حتى مع تِرداد أنَّ الوساطة تجرى بوِفاق ترامب ومُباركته. والحال؛ أنَّ الطرفَيْن المُتحارِبَيْن لم يَعودا مُقتنِعَيْن بالرئيس الراحل، وكلاهُما يترقَّبُ خليفته: الصهاينة من باب العَشَم والسوابق، والمُمانَعة تأسيسًا على رسائل الانتخابات، بينما لا يُمكن توقُّع ما سيَؤول إليه البيتُ الأبيض. لم يكن «دونالد» صديقًا لفلسطين؛ لكنه لا يتطلَّعُ إلى «شرق أوسط» مُشتعِل. ولديه مصالحُ مع العرب بما يدفعُه لتجنُّب إغضابهم؛ لكنه يتخيَّرُ رجالَه من قاع اليمين المُتصَهين. وإذا صحَّ للصهاينة أن يُراهنوا عليه؛ فيصحُّ أيضًا للشيعة أن يترقبّوا نُسخةً مُغايرةً، وبين الخَاطِرَين تنزفُ الساعاتُ وتتداخَلُ الاحتمالات.
لا رغبةَ لدى تل أبيب للتهدئة فى غزَّة؛ لذا تتهرَّبُ من الاتفاق فى لبنان، ربما لعِلْمِها بأّنَّ «وحدةَ الساحات» المُعطَّلة ميدانيًّا، تثبَّتَتْ فى السياسة وتسوياتها بقوّة الواقع. وستنشَطُ الوِرَش والمُداولات؛ لحين إنضاج السياق مُجدَّدًا بحسابات الإدارة الأمريكية الجديدة، أى لن تستقرَّ الأوضاع قبل دخول 2025؛ ولو تيسَّر إحرازُ هُدَنٍ جُزئيّةٍ قبل التنصيب. التحدِّى ليس فى تبريد جنوب لبنان؛ لأنه سيحدُث حتمًا، وبمُجرَّد حدوثِه سيُفجِّرُ من ورائه جبهاتٍ لا تقلُّ سخونة. وواجبُ الجميع الآن، وعلى وجه السرعة، أن ينظروا فى «اليوم التالى»، فى كلِّ التفاصيل لا فى الرئاسة فقط، وأن يأخذوا المسألةَ بالجدّية الواجبة، وعلى شَرط النِيَّة الخالصة بألَّا يعودَ لبنانُ لِمَا كان عليه، ولا أنْ يَمُرَّ لواقعه الجديد على أجساد تيَّار منه أو طائفة؛ أكان بنعومة السياسة أم بخشونة السلاح.