سحابةُ دخان، ولا تعليقَ من البيت الأبيض. الصحافةُ تقولُ إنَّ «بايدن» أزالَ حظرَه السابقَ على استخدام الأسلحة بعيدة المدى ودقيقة التوجيه ضدَّ العُمق الروسى، وردودُ الفعل كلُّها واقعةٌ بين التهوين والتهويل. والخطوةُ، حال صحة ما يتردَّد بشأنها، قد لا تَنُمّ بالضرورة عن رغبةٍ حقيقية فى التصعيد كما يتبادَرُ للأذهان، بل عن نزوعٍ لتحرير الرسائل المُعتادَة بلُغةٍ جديدة، وتقليب التُّربة لإخراج بقايا الجمر المطمور بالرماد إلى سطح الأحداث.
وبقَدرِ ما يُحتَمَلُ أنْ تكونَ مُحاولةً من الإدارة الآفلةِ لخَلْط الأوراق، وإرباك الوريث الجمهورىِّ وإدارته التى لم تتكشَّف ملامحُها بعد، فإنها تقبلُ التفسيرَ باعتبارها استجابةً لتطوُّرات الجبهة الأوكرانية، وتمريرًا لمفاتيح التفاوُض بين الشرق الأوسط وأوراسيا.. والاحتمالات مُتعدِّدةٌ، المُناكَفة السياسة مع الداخل، وإعادة المُتمرِّدين الأُوروبيِّين لبيت الطاعة، وأخيرًا تظهير التحالُفات على الجانب الآخر، وتوظيفها ضدَّ بعضها؛ كما لو أنها نسخةٌ أمريكيَّة من «وحدة الساحات».
كانت إدارةُ بايدن طرفًا أصيلاً فى المشكلة منذ بدايتها، ما يَحولُ دون افتراضِ إمكانيَّة أن تكون جزءًا من الحَلّ، وأسبابُ التوتُّر الكامنةُ لسنواتٍ طويلة بين موسكو وكييف، لم تُطِلّ برأسِها إلَّا من رخاوة واشنطن فى ولايتِها الرئاسيَّةِ الأخيرة. تشجَّع بوتين فى شيخوخة العجوز جو، وعلى إيقاع قذائفه تشجَّعت طهران، وتبدَّلت حساباتُها فى الإقليم. دخلَتْ الصينُ على الخطِّ لإبرام صفقةِ تهدئةٍ مع الرياض، وبدا أنَّ محور المُمانَعة يُغلِقُ دفاترَه القديمةَ؛ استعدادًا لحسابٍ جديد.
ربما استبَقَ «السنوار» حدودَ الترتيبات فى الزمان والكيفية؛ وأطلق «الطوفان» على غير ما كان يُرادُ منه فى الخطَّة الأصليَّة المُعَدَّة سِلَفًا؛ لكنها تظلُّ كُلُّها سِلسلةً واحدةً مُتداخلةَ الحلقات، قد لا يكونُ الاتِّفاقُ مَلموسًا فيها من جهة الشرق بتلاوينه المتنوِّعة؛ إنما ما يَشبُكُها جميعًا ببَعضِها بُؤسُ التعاطى من جانب الغرب، أو من قيادته الاستبداديَّة العُليا على وجه التحديد.
فى سَرديَّةٍ صِيْغَت لإسناد الديمقراطيين بالأساس؛ يتبدَّى من كتاب «حرب» غير ما أراده مُؤلِّفُه المُخضرم بوب وودوارد، فحصيلةُ المعلومات والنميمة ورَبط الظواهر بالكواليس، أنَّ المعركةَ تفجّرت بإسهامٍ عظيم من السيد بايدن، وأنَّ ترامب ربما يكون مُصيبًا فى القول إنها لم تكُن لتندَلِع أصلاً فى وجوده.. كانت الوقائعُ سابقةً للرئيس بخطوةٍ على الأقل، واستجاباتُه البطيئةُ والبائسةُ كانت تستنفِرُ المُتحفِّظين، وتُرخِى الحِبالَ للهائجين.
وعلى المنوالِ نفسِه، فالضعفُ أمام إسرائيل أوغرَ صدورَ الفلسطينيين، والهشاشةُ حفَّزَتْهم على المُغامرة، وفجاجةُ الانحياز للصهاينة عمَّقَت المأساةَ فى غزَّة، وكلُّها معًا أَغْرَت الجمهوريَّةَ الإسلاميَّةَ بالرقص على أطراف الميدان؛ لحَجز مَقعدٍ أمام طاولة التفاوض.. والخلاصةُ؛ أنَّ الرجلَ الذى قدّم نفسَه مُنقِذًا للولايات المُتَّحدة من «الترامبيّة» الطائشة، ورَّط العالمَ بكامِلِه فى حالةٍ من الجنون المفتوح، وها هو فى الأمتارِ الأخيرة من إرثِه السياسى، يبدو كَمَن يُحاول إطفاءَ النار بالنار.
إن كان قد نجحَ فى شىءٍ طوال أربع سنوات؛ فهو أنه ضلَّلَ الحُلفاءَ والخصومَ، ولم يَمْشِ على خَطٍّ واضحٍ فى التفكير والقرار، أنجز انسحابًا مُخزِيًا من أفغانستان، تُقابِلُه عَودةٌ استعراضيَّةٌ صاخبةٌ إلى المنطقة العربية، وفيما بينهما لم يَقُل إنّه ينصرفُ عن الحرب؛ لكنّه وَضَع السلاحَ فى الخزانة وأحكَمَ إغلاقَها. وفى السياسة يُستَحسَنُ أن تذهبَ للسلام بكامل العتاد، وأن تضعَ البندقيَّةَ أحيانًا فى قفصِ الحمام.
والهَشُّ أمامَ طالبان؛ لن يكون صلبًا فى مُواجهة الروس، وبمُجرَّد أن يَسقُطَ الحَجَرُ الأوَّلُ؛ يتداعى البناءُ، ويتقافَزُ الجميع على أطلال الجدار. والوقتُ على ساعة «بايدن» ليس كما فى بقيَّة الساعات؛ ما يعنى أنَّ الهامشَ المُتاحَ قبل الانتخابات الأمريكيَّة أضيقُ من المُغامرة وأَوسَعُ من الحَسْم. وهكذا فَهِمَتْ الشيعيَّةُ المُسلَّحة أنها إزاء مناخٍ مُواتٍ لإعادة تركيب التوازنات، ورأىَ الصهاينةُ طريقَهم مفتوحةً إلى كُلِّ ما مُنِعوا منه سابقًا.
ما يزالُ الاحتمال قائمًا بشأن الدعائيَّة أو التلفيق؛ على معنى أنَّ ما قِيْلَ بشأن التصريح لأوكرانيا باختراق المحظور، ليس أكثرَ من تشغيبٍ على قنوات اتِّصال ترامب، أو رسالةٍ مُبطَّنةٍ للعدوِّ والصديق. أىْ أنّه استطلاعٌ وتوجيه، يتقصَّدُ تعديلَ الرُّؤى والمسارات، دون الاضطرار لقفزاتٍ ميدانيَّة حقيقية، فكأنّه يقولُ لبوتين إنَّ الإصبعَ على الزناد، وللأوروبيِّين: عُودوا إلى حواضنكم، وللإدارة الجديدة أنَّ السبيلَ لم تعُد سالِكَةً بعد، ويُمكن قَطعُها أو زَرعُها بالحُفَر.
ما يُرجِّحُ خِفَّةَ الخطوة وخُلوَّها من المضمون؛ أنها أقربُ لإعلان الحرب من إظهار الإسناد، ولن يقرأها الرُّوسُ على معنىً مُغايرٍ، كما أنَّ الأوضاعَ الميدانيَّة تطوَّرت كثيرًا عمَّا كان فى أوَّل النزاع، ولم تعُد قابلةً للحَسْم بسلاحٍ نَوعىٍّ أو تصعيدٍ عَمَلانىٍّ؛ حتى مع بقاء «ثغرة كورسك» ساخنةً، وافتراض فاعليَّتها فى الإيذاء أو إبرام المُقايَضة. دخولٌ مُتأخِّرٌ للغاية، تُقابِلُه صلابةٌ من الكرملين، ويأسٌ فى أوروبا، ويَقينٌ من أنّه حالَ التفعيل لن يتجاوز الشهرين على الأكثر، وسيُوقِفُه ترامب بعد ثانيةٍ من التنصيب؛ هذا إذا لم يكُن قد فعلَها أصلاً منذ الآن، بالاستدراك الناعم فى واشنطن أو بالضغط الخَشِن على كييف.
وضعَ «بايدن» صواريخ ATACMS فى صندقِ البريد إلى من يهمّه الأمر. أحدثَتْ مُكالمةُ المستشار الألمانى أولاف شولتز الطويلة مع بوتين صدمةً مُزعجة، وما يزالُ «ماكرون» يتحدَّث بنكهةِ التمرُّد الفرنسىِّ عن وُجوبيَّة استقلال أُوروبا، وإرساءِ فضائها الأمنىِّ المُشترَك بمعزلٍ عن ابتزاز واشنطن. موسكو تُعَدِّلُ عقيدتَها النووية، وزيلينسكى ينتظرُ ورقةَ الإذعان مع قدوم الإدارة الجديدة. إسرائيلُ تتهرُّبُ من التهدئة فى جنوب لبنان، وإيران تُحفِّزُ الحزبَ على إبقاء الميدان ساخنًا. والصواريخُ المُتقدِّمةُ لن تحسِمَ تلك التشابُكات قطعًا؛ لكنَّ التلويحَ بها قد يُغيِّرُ قليلاً من ملامحها النافرة، ويُصالِحُ بعضَها على بعض.
حتى آخر الأسبوع الماضى، كان يُمكن النظر لخطوةٍ شبيهة على أنها تعكيرٌ مقصودٌ لمياه الإدارة الجديدة. إنما بعد اجتماع المكتب البيضاوىِّ بين الرئيسين، وتعهُّدِ الراحل للآتى بالتعاون وسَلاسَة انتقال السُّلطة؛ فقد لا يَصحُّ القَولُ إنَّ ما سِيْقَ فى مسألة رَفع الحظر يُترجِمُ خِلافًا ومُناكفةً بين الفريقين. ومع صعوبة افتراض أنْ يلعبَ بايدن فى فريق ترامب، مهما أبدى من سماحةٍ واتِّساع صَدر؛ فَمِن غير المنطقىِّ أنه يتشدَّدُ لمَنحِه هامشًا للمُفاوضة، وتعميقِ المأزق ليتجلَّى بعدها انفتاحُ الخليفةِ اللدود، ومِثاليَّة الصفقة التى يَعرضُها. يظلُّ احتمالاً بالقَطع؛ لكنّه ضعيف.
وحتى بافتراضِ الأسوأ؛ فالواقعُ أنّه عَمَّا قليلٍ سيُغادرُ المشهدَ، وما أحدثَه فى أيَّامه الأخيرة، لن يكون عَصيًّا على التفكيك فى أيَّام ترامب الأُولى. بمعنى؛ أنّه إذ يتَّخذُ قرارًا بتلك الخطورة، يعرفُ يَقينًا أنه لن يصمُدَ إلَّا لعِدَّة أسابيع، ولن يُحدِثَ أثرًا ملموسًا لناحية تدعيم أوكرانيا أو خلخلة صفوف روسيا. ولأنه فى النهاية ليس هاويًا، ولا تتحدَّدُ مَواقفُه بالعاطفة وحدها؛ فلعلَّه يتقصَّدُ من الإشارة الساخنة، سواء وقعَتْ أو جرى تدارُكُها، أن يُصَوِّبَ على الجبهة الأُوراسيَّة؛ ليجنى الثمار من جهةٍ أُخرى، ماديَّةً كانت أمْ مَعنويَّة.
يُفتِّشُ الرجلُ عن رحيلٍ مُشرِّفٍ، ولو كان صاخبًا. كانت الرئاسةُ بالنسبةِ له طريقًا إلى التقاعُد عند ذُروة المجد؛ فتفاجَأ أنها تختِمُ سِجِلَّه السياسىَّ بصفحةٍ سوداء، وتُشيِّعه إلى مَقبرةِ القادة مُكَلَّلاً بالعار. وهكذا؛ فقد يُخَيَّلُ إليه أنَّ إظهارَ البأس الآن سيعفيه من مَلامة التفريط فى السابق، وستتحسَّنُ صُورتُه النهائيَّةُ لاحقًا، عندما تُبرَمُ الصفقةُ الجائرةُ على كييف؛ فيبدو صَقرًا بالقياس إلى خيار الحمائم من بَعدِه، ويقعُ اللوم عن المُهادنة والتسليم للبوتينيَّة الصاخبة على عاتق الوريث. بالتأكيد يظلُّ احتمالاً خفيفًا؛ لكنه يتناسَبُ مع خِفَّة الديمقراطىِّ العجوز.
وفيما فات أيضًا؛ أنه يَستشعِرُ اتِّساعَ الشّقوق فى الجدار الغربىِّ، ويحاولُ ترميمَه ولمَلَمة ما تساقطَ من أحجارِه. هو يَعرِفُ بالضرورة أنَّ «الناتو» لن يعودَ لسِيرَتِه الأُولى مع ترامب، ويستميتُ لإبقائه مُتماسِكًا حتى ما بعد تلويحة الوداع. وبتصعيدِه الدعائىِّ يُطمئنُ باريس، ويضعُ العراقيل أمام القناة حديثة التدشين بين موسكو وبرلين، مُتحرِّكًا من مُنطَلَقِ أنَّ أيّة خُروقاتٍ على الجبهة ستُوضَع فوقَ كاهل الحلف، بحيث لا يعودُ الاتِّصالُ بالغريم مُثمِرًا، ولا التمرُّدُ آمِنًا. إنه ترهيبٌ وترغيبٌ فى الآن ذاتِه، فضلاً على إمكانيَّة المُبادَلَة الناعمة مع بوتين؛ بمعنى أن يكتفى بالرسالة عن مَضمونِها هُنا؛ ليستشرِفَ أثرَها ويتحصَّلَ على مُقابلِها فى نطاقٍ آخر.
هنا نكونُ قد وَصلنْا إلى مَربَط الفرس. فالملفَّات التى تعقَّدتْ فى أيادى الديمقراطيين طوالَ سنواتٍ، لا تقبَلُ الحلحلةَ بالتزامُن فى أسابيع. وعليهم أن يَتخيَّروا مَيدانًا واحدًا ويُضَحّوا ببقيَّة الميادين. ونشاطُ الأيَّام الأخيرة يُرجِّحُ أنهم وَقَعوا على الخيارِ بالفعل؛ فلا أوكرانيا تشغَلُ موقعًا مُتقدِّمًا بين الأولويَّات الراهنة، ولا الهُدنَة فى قطاع غزَّة على مَرمى حجرٍ كما كان يُؤمَلُ ويُشاع؛ إنما الجهودُ كُلُّها مُنصرِفَةٌ إلى مُحاولة الاستدراك فى لبنان، والبحث عن «صورةِ فاعليَّةٍ» يختَتِمُ بها الرئيسُ ولايتَه، ويتأبَّطها بين رُزمةِ أوراقِه فى مَوكبِ الخروج من البيت الأبيض.
أعدَّتْ واشنطن مُقترَحًا من ثلاث عشرة نقطة، وأرسلته للسُّلطات اللبنانيَّة عبر السفارة الأمريكية فى بيروت، وليس يدًا بيدٍ من المبعوث الرئاسى آموس هوكشتين كما جرت العادة. وبينما تبدو الظروفُ الموضوعيَّةُ اللازمةُ للاتِّفاق مُتوافرةً؛ فإنَّ لإسرائيل شُروطًا مُتشدِّدةً لن تنزِلَ عنها، وإقناعُها أقربُ للمُستحيل، بينما يعدُّ نتنياهو الساعات لاستقبال ترامب. عاملُ اطمئنانِه هو نفسُه عاملُ الخوف لدى المُمانَعة، ويُمكِنُ النفاذ من تلك الثغرة لتطويع الشيعيَّة المُسلَّحة، ودَفعِها إلى التوقيع اليومَ؛ اتِّقاءً لِمَا يحملُه لها الغَد.
الدولةُ اللبنانيَّةُ راغبةٌ فى الخروج من النفق؛ صحيحٌ أنها تعترضُ على بعض التفاصيل، لكنّه اعتراضٌ يقبَلُ التذويبَ بالوعود والضمانات، ومَبعَثُه بالأساس ما يَقبضُ عليه حزب الله من ثوابت يَرفضُ الرجوع عنها، ويأتمِرُ فيها بإملاءاتِ طهران، وارتجافِ عينِها التى ترى الفيلَ فى الغُرفة، وتتحسَّسُ من أنها قد تُهزَمُ فى لُعبَتِها الأثيرة/ الشطرنج؛ بمُجرَّد أن تُفرِجَ عن البيادق وتترُكَ «الشاه» عاريًا من الحماية المُتقدِّمة.
هكذا يبدو الحلُّ فى خزانة المُرشِد، والمفتاحُ ربما يكون فى جَيب بوتين. علاقةُ البلدين عميقةٌ للغاية، وقد رُفِّعَتْ مُؤخَّرًا إلى شراكةٍ استراتيجيَّة، والتعاونُ قائمٌ فى كلِّ المجالات، من أوَّلِ الحرب الأوكرانية إلى الدعم الفنىِّ فى الصناعة الدفاعيَّة والنووية، كما يتعاونان من النقطة صفر فى دمشق. وبجانبِ تَطويع الملالى وحَرَسِهم الثورىِّ؛ فإنَّ تفعيلَ القرار 1701 فى جنوبىِّ الليطانى يقتضى إيقافَ تسليح الحزب، وهذا قرارُه الإيجابىُّ فى طهران بقَطع الإمداد، والسلبىُّ فى موسكو بفَرضِ الحصار على سلاسل التوريد، عبر تأمين الحدود، والهيمنة على فضاء سوريا وخطوط تماسِّها مع لبنان.
يتجرَّأ الرجلُ فى خريفِه على ما لم يُقارِبْه فى عنفوان إدارته؛ ولا معنى إلَّا أنَّ الاحتمالات تساوَتْ لديه، والخسائرَ أيضًا، وأنه يتعلَّقُ بأهداب الفُرصة الأخيرة. لقد استأسَد فى أوًّل «الطوفان» إسنادًا على معنى الشراكة الكاملة؛ حتى لم يَعُد بمقدورِه الرجوع عن سابق مَواقفِه، ولا أنْ يعتصِرَ نتنياهو ليُفرِّغَ أجندتَه من مضمونِها الحارق. بَصَمَ مُبكِّرًا على برنامج الإبادة فى غزَّة، وأقرَّ لحليفِه الليكودىِّ بمشروعيَّة المُطالبة برأس حماس؛ لكنه لم يَفعَلْ فى لبنان، وحاولَ أنْ يبدو مُتوازِنًا طوالَ الوقت، وبإمكانه اليومَ أنْ يعودَ للاستثمار فى الجبهة الرديفة؛ طالما أفلَتَتْ الأصيلةُ من قبضتِه.
صوَّبت عليه تلُّ أبيب بعد كلِّ ما قدَّمَه لها، وكانت بصورةٍ أو أُخرى طَرفًا عضويًّا فى إزاحته من السباق الرئاسىِّ، ثم فى تجليس أَلَدِّ أعدائِه على مقعدِه، ما يُرجِّحُ أنّه يتحرَّكُ بوَجيعةٍ ثقيلةٍ تجاه نتنياهو وحكومته اليمينية المُتطرّفة، ويُخالِجُه شعورٌ بين مرارة الخذلان وحرارة الثأر. وإذا كان هَواهُ الصهيونىُّ يمنعُه من الانصراف عن إسرائيل؛ فإنَّ تطويقَ زعيمِها المُتجبِّر قد يَخدمُها ويشفى غلِيلَه فى وقتٍ واحد.
والحال، أنَّ غزّة لم تعُد وازنةً فى الحرب أو التهدئة؛ إنما هامشُ الحركة الذهبىُّ يقعُ شَمالاً على أطراف لبنان، انطلاقًا من أنه باعثُ الاستمرار فى الجنوب أصلاً، وذريعةُ السرديّة الدعائيَّة عن التطويق ونزاع الوجود، كما أنه المَدخلُ المُتاح دومًا للتمدُّدِ إقليميًّا، وتسعير الأجواء أضعافَ ما هى عليه، وانتداب الولايات المُتَّحدة لتنوبَ عن شياطين الحليفة الصغيرة فى تفجير صدام الأُصوليَّات الحارقة.
وفقَ كلِّ الاعتبارات، وبغضِّ النظر عن تَوافُر الاقتدار، وعن الإمكانيَّة من عَدَمِها؛ فإنَّ تسويةَ الأوضاع فى لبنان بمثابةِ مصلحةٍ مُباشرةٍ للإدارة الغَارِبة. والعجوزُ يُقارِبها من نُقطةِ العجز الكامل؛ لا يستطيعُ أنْ يُضيفَ حَرفًا أو يحذفَ غيرَه مِمَّا تخطُّه إسرائيل، والقرارُ اللبنانىُّ للأسف ليس فى عُهدة الرئيسين برّى وميقاتى/ البرلمان والحكومة؛ إنما يحتكرُه الحزبُ حتى اللحظة، ويُسلِّمُه بطبائع الأحوال إلى وُلاة أمرِه فى رأس المحور وعاصمتِه.
وزبدةُ القول؛ أنَّ أىَّ اختراقٍ لا يُمكنُ أنْ يأتى من جهة الدولة العِبريَّة، كما لا يتيسَّرُ التفتيشُ عنه أيضًا فى بيروت. أمَّا الذهابُ إلى طهران بعد كل الإحَن والمُنغِّصات؛ فيتطلَّبُ وَسيطًا له تأثير معنوىٌّ عليها بالسَّلب أو الإيجاب، وبينما تنقطعُ حِبالُ الوِدِّ مع موسكو بما يَمنعُ استحصالَ وَساطتِها؛ فإنَّ إتيانَها من باب الضغط وتعريض مصالحها للتهديد، قد يكونُ الخيارَ الذى تَفتَّق عنه ذِهنُ بايدن وإدارته. وهى مُخاطرةٌ مُركَّبةٌ بطبيعةِ الحال؛ تُهدِّد بالتأجيج فى أوراسيا، ولا يُضمَن نِتاجُها المأمول فى ساحات المُمانَعة.
يصعُب للغاية تحليل سلوك بايدن، واستخلاص إفادة نهائيَّة بشأن القرار؛ مع الإقرار بأنه ما يزالُ فى حُكم الشائعة أو التمنّيات. مسيرةُ الرجل الرئاسية شديدة الارتباك، ومواقفه متضاربة، والخطايا السابقة لا تُبشِّر بانحرافٍ عن مسار التردِّى، ولا بالتصويب فى الوقت بدل الضائع. الأرجحُ أنها خطوةٌ انفعاليّة فى كل الأحوال، وتُحرِّكها نوازع شخصيّة، وسواء أراد منها أن يُطوَّق ترامب استباقا، أو يُطوِّح حصاة على بوتين ونتنياهو وأى غريم آخر، أو يُسجِّل لنفسه نجاحًا معنويًّا بإظهار البأس، أو ماديًّا بتبريد الجبهة اللبنانية؛ فإنها أوَّلا وأخيرا ينظر فى مرآة غرفته، ويُقيِّم بمعزلٍ عن المجال العام، ويبدو كما لو أنه يجتهد لإنقاذ إرثه فى الأمتار الأخيرة قبل ارتياحه الكامل فى قَعر مستنقع العار.