"الرحمة" هي أفضل نعمة يحلُم بها الإنسان، فهي مصدر إحساسه بالأمان، فلولاها ما كان الإنسان أمن بطش الزمان، وما كان تفاءل بغُفران ذنوبه التي تراكمت بسبب العصيان، ولكن هل يُعقل أن مَنْ يبحث عن الرحمة ويستنجد بها ويستجْديها هو ذاته مَنْ يفتقدها في سلوكياته ومع كائنات ضعيفة لا تملك القدرة في الدفاع عن نفسها وعن حقها في الرعاية والحياة، وهذه الكائنات هي الحيوانات، وخاصة الضالة منها التي تفترش من الشارع مأوى لها، وتستمد قوتها من فضلات القُمامة، وتعتمد على العناية الإلهية في الرعاية الصحية، فهل هناك شرع أو قانون ينص على تعذيب أو قتل أو التمثيل بهذه الكائنات الحية التي خلقها المولى عز وجل.
ففي أحد لقاءاتي بالإعلامية "غادة عبد السلام أمين"، تفاجأت بالمُبادرة التي تتبناها تحت مُسمى "حياة رحيمة"، منذ عام 2016م، بهدف حماية الحيوانات الضالّة ووضع نظام قانوني لتطعيمهم، حتى لا يُشكلوا أي خطر على الأفراد، وتقديمها لمشروع قانون يستهدف حماية هذه الكائنات الضعيفة من التعذيب غير المُباح شرعًا أو قانونًا، وذلك بوضع نُصوص قانونية رادعة لكل مَنْ تُسوَل له نفسه تعذيب روح ضعيفة خلقها الله سبحانه وتعالى، سواءً كان هذا التعذيب بهدف ساديّ أو علمي أو مُجتمعي، فللأسف، هناك أساليب للتعذيب يبدو مظهرها الخارجي مشروع، في حين أنها لا تمت للمشروعية بصلة، مثل إجراء الاختبارات على تلك الحيوانات، أو مُحاولة إبادتها وتسميمها، بحُجة حماية المُجتمع. فمما لا شك فيه أن هذه السلوكيات تنزع الرحمة من القلوب، وتُجافي شرع الله تعالى، وتُخالف المبادئ الإنسانية السامية، بل إنها تُولد حالة من الساديّة النفسية لدى مُرتكبيها، وبالتأكيد فإن مَنْ تُسول له نفسه الإتيان بتلك السلوكيات، لا يُمكن أن نتوقع أن يكون لديه أدنى إحساس بالرحمة، وعلينا ألا ننسى أن القرآن الكريم نصّ على تكريم الحيوانات، وأوضح مكانتها ومنافعها في الحياة، فقد قال الله تعالى في سورة النحل: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ). وربما يتعلل البعض بأن هذه الآية لم تذكر الكلاب، ولكن هل ننسى سورة الكهف التي ذكرت الكلب الذي كان رفيق أهل الكهف عندما نصت في قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ).
وقد جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من شدة العطش، قال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ مني، فملأ خُفّه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله، فغفر الله له، قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرًا، قال: في كل ذات كبد رطبة أجر)، هذا وقد شدّد النبي (صلى الله عليه وسلم) المُؤاخذة على مَنْ تقسو قلوبهم على الحيوان ويستهينون بآلامه، وبيّن أن الأنسان على عظم قدره وتكريمه على كثير من الخلق، فإنه يدخل النار في إساءة يرتكبها مع الحيوان، فقد دخلت امرأة النار في هِرّة، حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أطلقتها، وفي المقابل، دخلت امرأة بغيّ الجنة في كلب سقته، فشكر الله تعالى لها، فغفر لها.
فالرفق بالحيوان أعلى مراتب الرحمة، وكما قال (صلى الله عليه وسلم): (إن الله رفيق يُحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العُنف، وما لا يُعطي على ما سواه".
فلماذا إذن نتناسى كل هذه الأدلة والمواعظ، ونسير في طريق لا يعرف للرحمة سبيل؟ لماذا نُخرج طاقتنا السلبية في حيوان ضعيف لا يملك الاستغاثة، في حين أننا نملك ترويضه ورعايته بأقل التكاليف، وأخيرًا نتباهى ونتفاخر بالكلب الذي صعد أعلى قمة هرم خفرع، رغم أنه مُجرد كلب بلدي، فلو تفكّرنا سنُدرك أن هذه الكائنات تشعر، ولها قدرات خاصة خصّها بها المولى عز وجل، بدليل أن هذا الكلب كان سببًا في حديث العالم بأكمله عنه، وهذا لفت الأنظار إلى بلدنا الحبيب، وكل هذا يُنعش السياحة من جديد، فالجميع يُريد التصوير مع هذا الكلب، لماذا إذن نتنمّر على الكلاب ونُحاول تعذيبها والتخلص منها.
دعونا نبدأ مع أنفسنا بداية جديدة مليئة بالرحمة والإحساس بالضعيف، خاصة لو كان كائنًا لا يملك من أمره شيئًا، فمَنْ وهبه الحق في الحياة، هو وحده مَنْ يملك سلبه إياها، فقرار الموت والحياة ليس قرارًا بشريًا، وإنما هو قرار إلهي، فالأحرى بنا أن نأويهم في مكان مُجهّز لرعايتهم بُغية الحُصول على رحمة المولى عز وجل، فقد يكونوا سببًا في دخولنا الجنة، أو على الأقل في نزول الرحمة بنا في الدنيا، وأتمنى أن يكون قانون الرحمة خير رادع لكل مَنْ تُسوّل له نفسه إيذاء حيوان أو طير أو أي كائن حي، فهذا هو الرقي والتحضر والإنسانية التي تُنادي بها جميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والمبادئ الإنسانية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة