تبدو القرارات التي أعلنتها الولايات المتحدة، بفرض عقوبات على عدة كيانات إسرائيلية، بمثابة حلقة جديدة من حلقات العلاقة، بين الحليفين، في ضوء العديد من المعطيات، ربما أبرزها التغيير الكبير في الخطاب الغربي، تجاه تل أبيب، تراوح بين التخلي عن صيغة "الدفاع عن النفس" نحو الإدانة والشجب، بل وتحول عدة دول أوروبية، نحو دعم الشرعية الدولية، عبر الاعتراف بدولة فلسطين، ناهيك عن التوتر الحاصل أساسا بين حكومة رئيس الوزراء المتطرف بنيامين نتنياهو وإدارة جو بايدن المنتهية ولايتها، في واشنطن، ليصبح القرار الجديد بمثابة أحد أهم صور التغيير التي تشهدها العلاقة بين الجانبين، رغم رهان تل أبيب الواضح على الإدارة الجديدة برئاسة دونالد ترامب.
ولعل الرهان الإسرائيلي على إدارة ترامب، في الولايات المتحدة، لا يقبل مجالا للشك، في ضوء اختيارات الرئيس الأمريكي الجديد، ومواقفه السابقة، التي شكلت أحد محاور سياساته في الولاية الأولى، تجاه الدولة العبرية، إلا أن ثمة تغييرات كبيرة في المواقف الدولية، ربما تساهم في إعادة توجيه بوصلة واشنطن، بينما تبقى عقوبات إدارة بايدن بمثابة خطوة جديدة من شأنها وضع مزيد من الضغوط على كاهل ترامب، والذي يسعى بلا شك نحو كتابة تاريخ جديد في منطقة الشرق الأوسط والتي تعد أحد أبرز مناطق النفوذ الأمريكي في العالم، في الوقت الذي لن يعاني فيه أية ضغوط، في ضوء كونه لن ينافس على ولاية جديدة، وبالتالي سيكون متحررا نوعا ما من محاولات استرضاء مجموعات الضغط الداعمة لإسرائيل، لاستقطاب أصواتهم في الانتخابات المقبلة، وهو ما سبق وأن ناقشته في مقال سابق.
ولكن بعيدا عن التنبؤات بمواقف الإدارة المقبلة، تبقى الخطوة التي اتخذتها إدارة بايدن، محاولة صريحة لتصحيح المسار، وإن جاءت متأخرة، بعد شهور من التقاعس الدولي، في ضوء ما تحمله من زخم سياسي، بالنظر إلى مكانة واشنطن الدولية، من جانب، وعلاقتها الحميمة بالحليف الأصغر في الشرق في الأوسط من جانب آهر خاصة وأنها تتزامن مع دعوة تبدو جديدة من نوعها، أعلنها مؤخرا بابا الفاتيكان، في فتح تحقيق حول ما إذا كانت إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في غزة أم لا، وهي الدعوة التي تحمل ثقلا دينيا، ربما ستساهم في استقطاب دولا أخرى في الغرب الأوروبي، وبالأخص تلك الدول التي تبدي قدرا من الاعتزاز بالإرث المسيحي، وهو الأمر الذي يفرض حرجا أخلاقيا في أحد أبعاده على ترامب، والذي سبق وأن سعى إلى وضع صبغة دينية على ولايته الأولى باستهلالها بجولة خارجية شملت مراكز الديانات السماوية الثلاثة (السعودية والفاتيكان وإسرائيل) في مايو 2017.
والحديث عن العقوبات والدعوة إلى تحقيق دولي فيما يتعلق بما ارتكبته قوات الاحتلال في غزة، يمثل في جوهره تفعيلا لمبدأ المحاسبة الدولية، والتي شهدت العديد من الإرهاصات خلال الأشهر الماضية، حيث كانت نقطة الانطلاق من مصر، عندما أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو أول من أطلق الدعوة إلى إجراء تحقيق دولي في الجرائم الإسرائيلية في غزة، خلال كلمته في القمة العربية الإسلامية الأولى، في نوفمبر 2023، والتي عقدت في جدة، لتتبعها خطوات أخرى، في هذا الإطار، منها اللجوء إلى القضاء الدولي، سواء محكمة العدل الدولية، والتي حملت استمرار الاحتلال مسؤولية التطورات الخطيرة في المنطقة، بينما طالبت بوقف فورى لإطلاق النار، أو المحكمة الجنائية الدولية، والتي دعت إلى توقيف مسؤولي حكومة نتنياهو بتهمة الإبادة الجماعية.
الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، حيث دارت كلمات القادة خلال القمة العربية الإسلامية الثانية التي عقدت قبل عدة أيام في الرياض، حول محاسبة الاحتلال على ما اقترفه من جرائم، بينما جاءت دعوة الفاتيكان، ثم العقوبات الأمريكية، وهو ما يعكس تدرجا في الخطوات، وتنوعا في الوسائل المعتمدة لملاحقة الحكومة اليمينية المتطرفة في تل أبيب، بين أروقة المحاكم وقصور السياسية، لتكون تلك الخطوات في مجملها بمثابة استجابة للدعوة التي أطلقتها الدولة المصرية، والتي جاءت في أيام العدوان الأولى، مما يعكس قراءة مبكرة للأحداث من جانب، ناهيك عن ثقة دولية كبيرة في الرؤية المصرية، ربما عززتها التداعيات الكبيرة التي ترتبت على التقاعس في التعامل بحزم مع الانتهاكات الإسرائيلية من جانب آخر.
وفي الواقع، تعد العقوبات الأمريكية الأخيرة، بمثابة خطوة لم تجد إدارة بايدن بداً منها، في ظل حاجتها إلى تعزيز دورها المتراجع في المنطقة، بالإضافة إلى الشعور بالحاجة الملحة لكسر نتنياهو بعدما سعى إلى التداخل في الشأن الأمريكي بعد محاولاته توجيه الرأي العام الأمريكي، خلال الانتخابات الرئاسية، عبر خطابه إلى الكونجرس، في يوليو الماضي، وسط مقاطعة ديمقراطية، ناهيك عن محاولاتها لخلق إرث متوازن بعد عام كامل من الدعم المطلق واللامحدود للدولة العبرية، وإن تخلله بعض عبارات الشجب والإدانة غير المجدية، وكذلك عدم قدرة واشنطن على مجابهة حالة دولية مستاءة تجاه انتهاكات إنسانية وضعت "دول العالم الأول" في حرج بالغ.
وهنا يمكن القول بأن وقوع إسرائيل تحت عصا العقوبات الأمريكية، هو بمثابة استجابة لحالة دولية، لم تستطع واشنطن بمفردها التصدي لها، بينما تبقى الدعوة المصرية بمثابة الأساس الذي بنيت عليه تلك الحالة، بعد العديد من الخطوات، التي تراوحت بين البعد السياسي والإنساني، وتخللها الدعوة إلى تفعيل مبدأ المحاسبة في مواجهة الانتهاكات التي ارتكبها الاحتلال في غزة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة