عندما يدرك الإنسان أن القيمة تُعد نبراسًا يهتدى به في أقواله وأفعاله ووجدانه، وعندما يتفهم مغزى القيمة تجاه ما يجب أن يفعله تجاه الآخرين في العديد من المواقف التي يتفاعل فيها وينفعل من خلالها، وعندما يتيقن من أن القيمة تحمل دواءً لكل داء وتشمل حلولًا لجل القضايا التي تشغل البال، وعندما يكون رأيًا منطقيًا يقوم على شاهد ودليل ينبعث من دلالات ما يؤمن به من قيم، وعندما يرتقي وجدانه ويزداد شعوره بمن حوله ويرغب في تعضيد أطر التواصل مع الآخرين بصورة تحمل الإيجابية والتشاركية والمحبة التي لا ينتظر من وراءها عائد ولا يتطلع لتحقيق غاية تعود عليه بالنفع، وعندما يتجنب كل ما قد يؤدي إلى تشتيته أو تضليله أو وقوعه في الخطأ؛ فإن هذا يشير إلى ماهية الوعي القيمي.
إننا نعاصر حالة النشاط التي يفرزها الرأي العام المصري والتي نراها في دفاعه عن نسقه القيمي بكل قوة وثبات، وهذا بالطبع يؤكد فلسفة الاستحسان لديه؛ فلا يدعم ما يعارض قيمه، ولا يؤازر من يتسبب في النيل من نسقه بأي صورة كانت، ولا يقف بجوار من يرغب في النيل من ثوابته، وفي مقابل ذلك يدعم المنابر التي تعزز النسق القيمي النبيل، بل ويقدم ما من شأنه يعمل على تعضيد أصحاب الرسالة السامية الذين يقع على عاتقهم بناء الإنسان وتشكيل بنيانه المعرفي وما يرتبط به من مهارة ووجدان.
ويُعد الوعي القيمي من المقومات الرئيسة التي تساعد الفرد على أن يصنع قرارًا صائبًا ويتخذه بقناعة متناهية؛ حيث يضع المصلحة العامة مقدمة على الخاصة، ولا يقع في براثن الصراع الذهني التي قد تسببها مخالفة القيم النبيلة والأخلاق الحميدة، ومن ثم يصبح قادرًا على أن يوجه طاقاته التفكيرية والبدنية من أجل تحقيق الغاية المنشودة.
ويسهم الوعي القيمي في تنقيح ما لدى الفرد من معارف والتي تتأتى من مصادر عديدة، وهذا يجعلنا نصف هذا النمط من الوعي بمثابة المصفاة التي تعمل على فلترة وغربلة غير المجدي وغير الصحيح، أو ما به لبس، أو ما يشوبه مغلوط، أو المشوه في أصله، وهنا ندعي بكل ثبات أن الوعي القيمي يؤدي إلى الفهم العميق سواءً لمجريات الأحداث أو ما يتعرض له الإنسان من متلون بيان، أو فكر، أو خطاب، أو مكتوب، أو مسموع، أو مقروء، أو مشاهد.
ويصعب أن ننكر أثر المستجدات على الوعي القيمي؛ لكن نثق في المسلمة التي تتحدث عن أن من يمتلك النسق القيمي يستطيع أن يتمكن من فرز الغث من الثمين، ويفرق بين الحق وما يراد به باطلًا، ولا يبالي للتدفق الذي يحمل بين طياته المزيد من الأفكار المشوهة والعادات التقاليد التي لا تتوافق مع مبادئنا وتربيتنا وثقافتنا وحضارتنا الأصيلة، ومن ثم يمارس السلوك المنضبط الذي يتوافق مع صحيح معتقده المتسق مع وعيه القيمي.
وأود الإشارة إلى أن من يمتلك الوعي القيمي يتسم بالإيجابية في أقواله وتصرفاته واتجاهاته وميوله، ومن ثم يمتلك الرغبة في التغيير للأفضل، وتتفجر في وجدانياته وعقله المزيد من الأفكار الرائدة التي تحدث تغيرًا ملموسًا إذا ما خرجت للنور وتم توظيفها بصورة إجرائية، وبناء على ذلك نستنتج أن صاحب الوعي القيمي يستطيع أن يواجه كافة التحديات والأزمات والمشكلات؛ بأن يضع لها الحلول التي نصفها بالناجزة والمبتكرة.
وثمة ارتباط بين أنماط الوعي لدى الفرد؛ فجميعها تسهم في بناء شخصية متوازنة تساعد في البناء والإعمار والنهضة؛ لكن الوعي القيمي يعد بمثابة من يقوم بالتقويم المستمر؛ حيث يجعل الفرد رقيبًا على ذاته، ويحثه دومًا على التحسين والتطوير من ممارساته وأقواله، ويصقل خبراته وتجاربه يومًا تلو الأخر؛ فلا مجال للثبات أو التوقف عن العلم والمعرفة؛ إذ يشكلان بؤرة النضوج الفكري، وينعكسان على جودة وإتقان ما نؤدي من أعمال.
وندرك أن الوعي القيمي يشكل سياجًا ضد ظاهرة الإلحاد المعاصر والتي تعد أحد أضلاع مثلث تدمير الشعوب؛ حيث نضمن سلامة الفكر من شاردة وواردة، ونصقل الوجدان بمزايا مخرجات ما تنادي به قيمنا النبيلة، ونضمن سلوكًا غير منحرف، ونوقن بتوافر آليات واستراتيجيات وطرائق وأساليب تصويب الخطأ والمشوب سواءً تمثل في القول، أو الفعل، أو المعتقد.
وهنالك العديد من القيم التي تساعد في تماسك المجتمع وتقوي من نسيجه، وتعد ثمارًا يفرزها الوعي القيمي؛ حيث صورة التكافل والإيثار التي نراها بين أطياف المجتمع، والمحبة التي نرصدها في التعاون ومؤازرة أصحاب العوز والحاجة، والمسارعة في فعل الخيرات، والتراحم حال الضعف، وغير ذلك من قيم يصعب حصرها أو سردها؛ لكن الشاهد في دلالتها التي تنعكس على خصائص الفرد وسمات المجتمع، وهذا ما يشكل البيئة الصحية التي تستوعب الجميع ولا تحث على التفرقة والشرذمة بغض النظر عن الأسباب والمسببات.
ويضفي الوعي القيمي جمالًا على أخلاق الفرد والمجتمع؛ فنرصد حالة من الاتزان في شتى مناحي الحياة والأمور، وخاصة العقدية منها؛ فمن خلال معان القيم يحث المجتمع على السلوك الحميد، ويرفض ما يخالفه، ليس هذا فحسب، بل هناك ثمرة جراء هذا النمط من الوعي تتمثل في انتهاج الوسطية سواءً ارتبطت بالسلوك، أم الفكر، أم المعتقد.
ونستلهم مما تقدم أن الوعي القيمي يقوي الجانب العقدي لدى الإنسان ومن ثم يتحلى بالقيم النبيلة والخلق الحميد، ومن خلالهما يحافظ على ثقافته ويصعب أن ينجرف مع الثقافات المستوردة، كونه تربى على الفضيلة التي تعد مكون رئيس في طبيعته؛ فيصبح وجدان صاف لا يعكره مكذوب ما تنادي به الثقافات الأخرى من مادية بحته يزول أثرها سريعًا، وهذا ما نرصده من تبدل المواقف لدى المجتمع الدولي وفق غايات المصالح، وهو ما لا يتسق مع ماهية الضمير في الأصل.
ما أجمل أن نربي أولادنا في خضم وعي قيمي يؤكد على خلق الصدق، والأمانة، والنزاهة، والشرف، والشجاعة، والشهامة، والإقدام، وحب العمل واتقانه، والولاء والانتماء للوطن، وفي سياجه يتخلى أولادنا عن الكذب، والغش، والإهمال، والتقاعس، واللامبالاة، وسائر ما يضعف العزيمة ويحبط الهمة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
_______
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة