نعرفُ جميعًا أنها حربٌ على الرواية أوّلاً، ونعلمُ الخفِىَّ منها قبل المُعلَن؛ ثمَّ لا تجدُ اشتباكًا مع المسألة على القدر نفسِه من الجدّية واستشعار الخطر. سيرةُ الصراع مع إسرائيل مُلخَّصٌ لسوء التقدير من جانبنا، لا لحُسن التفكير وكفاءة التدبير من جانب العدوِّ. وإذا تعلَّلَ البعضُ بأنَّ الاحتلالَ لا يعدَمُ سُبلَ المُراوغة والالتفاف، ويُجدِّدُ نواياه على فترةٍ من الزمن بوسائل مُغايرةٍ فى كل مرّة؛ فالرَدُّ العاقلُ أننا لم نختَبِر الخيارات الصائبةَ أصلاً، وكثيرًا ما ضيّعناها رعونةً أو تطوُّعًا، حتى بدا أنَّ بعض المذبوحين بالقضيَّة من الوريد إلى الوريد، اتَّخذتْ ثُلَّةٌ من مواقفِهم طابعَ العشوائية والارتجال، وأعمَتْهم حماوةُ العاطفة عن حصافة التعقُّل، ولعلَّهم سَرَّعوا إيقاعَ الهزيمة حينًا، وابتكروا تنويعاتٍ عليها من خارج سلسلة الأحداث الطبيعية أحيانًا.
حاضرًا، كما فى التاريخ القريب. قُدِّمَتْ الهدايا المجانيّةُ دون منطقٍ أو تبرير؛ كأنْ يُعاينَ نتنياهو مأزقَه الداخلىَّ بعد خطَّتِه لتقويض القضاء، وبدلاً من الفُرجة على الأزمة فى تناميها، وانتظار ما سَتُسفِر عنه من إرباكٍ للحكومة أو إعادةِ بناءٍ للتركيبة السياسية؛ نجدُ «السنوار» يُبادر على استعجالٍ بإطلاق طُوفانِه الهادر نحو غلاف غزَّة، مُتكفِّلاً بإيقاظ الحالة الإجماعيّة الغائبة عن الشارع العبرىِّ، وإعادة اللُحمَة لبلدٍ يعيشُ من مَنشأه فوق حَدِّ السكّين، وتتسانَدُ سَرديَّتُه على هاجس الخطر الوجودىِّ، وصيغة الأُمَّة المُمتَحَنَة دائمًا بحروب الهُويَّات. وهى إنْ كانت روايةً مُحرَّفةً، وتخلطُ الأزمان والأمكِنَة باصطناعٍ واضح؛ إلَّا أنها تستقرُّ فى الوعى الصهيونىِّ العام، ولديها قُدرةٌ دائمةٌ على تجييش العواطف وترصيص الصفوف.
عندما رُفِضَ قرارُ التقسيم ابتداءً، كانت رواسبُ الخلافة العثمانيَّة حاضرةً فى أذهان البعض، وبوادرُ القوميَّة العربيَّة تتّسعُ فى مخيال فريقٍ من طلائع النخبة الجديدة. أمَّا واقعُ العالم ما بعد الحَربَيْن الكبيرتين؛ فكان غائبًا عن النظر والتدبُّر، كما لو أننا نستعيدُ سياقَ الحروب الصليبيَّة وصَخَب سيوفِها، بعدما تسلَّحَ الغَريمُ بالمدافع وذَخَّرَها بالقوانين المَصوغة على هواه. دُعِيْنا إلى الميدان، أو دَعونا أنفسَنا، بمنطقِ الماضى ومعاركه البسيطة حجمًا وأثرًا، بينما كان التاريخُ يمضى مُسرعًا فى مسارٍ آخر. ومن يَومِها ظلَّت العِلَّةُ فى فارق التوقيت، وفى أنَّ الامتحانات تتجدَّدُ من حَولِنا، وما زلنا نقرأُ فى كتابنا القديم.
واستدعاءُ الحوادث الغابرة ليس لغايةِ اللوم أو جَلْد الذات؛ إذ الحقيقةُ الوحيدةُ أنها انقَضَت بحُلوِها ومُرِّها، وترتَّبتْ عليها ظروفٌ واستحقاقاتٌ صِرنا مُلزَمِين بالتعاطى معها، ولو لم نَكُن طرفًا مُباشرًا فى صِياغتها، أو تمرّدنا على ما ورثناه فيها عن الآباء. وإذا كان مُستَحَبًّا ألَّا تظلَّ الذاكرةُ قَيدًا على أصحابها؛ فإنَّ من صَميمِ وظائفها أنْ تُجنِّبَهم الانزلاقَ فى الخطايا ذاتِها، أو إعادة إنتاج الوقائع على صورةٍ انتحاريَّة بائسة.
وما مِن شَكٍّ فى أنَّ القضيّةَ تعقَّدت كثيرًا عَمَّا كانت عليه، وتطوَّر الصراعُ واتَّسعَتْ أبعادُه إلى ما فوق فلسطين، والإقليم بكامله؛ إنما لم تُواكبه القُوى الساعية للتحرُّر بمزيجٍ من البدائل والخيارات، يُماثِلُه فى التركيب ويُطاوله فى الفاعليّة، ولا بتعاريف مُحدَّثَة عن المفاهيم المَرجعيَّة الكُبرى، من أوَّلِ المُقاومة إلى معنى الوطن المأمول، وبينهما النصر والهزيمة والإقدام والإحجام، ومتى يُوضَعُ السلاحُ وتُشهَرُ السياسة، والعَكسُ بالعَكسِ، مع استيعاب أنها لم تَعُد مُواجهةً بين دُوَلٍ وعصابات، ولا بين عَرَبٍ ويهودٍ مُتصَهيِنِيْن.
وإذا جازَ للحليف أنْ يُنظِّمَ علاقتَه بالمسألة من مَنظوره؛ فالواقفون على الثّغور أَوْلَى بمُقاربةِ المِحنة بفِقه الضرورة والمصلحة. والغريبُ اليومَ أنَّ قانونَ العلاقة بينهما ينقلِبُ لصالح الوكيل على حساب الأصيل. والحديثُ هُنا عن محور المُمانَعة على وجه التحديد؛ إذ الرباطُ فى جَوهرِه أنَّ طرفًا تقدَّمَ من خارج الحَلَبة ليدعمَ صديقًا فى قَلب النِّزال، ما يَعقِدُ رايةَ الأصالة للفصائل، والوكالة لقيادة الشيعيَّة المُسلَّحة. والحال؛ أنَّ الوكيلَ بالفلسفة والدور، لم يَكتَفِ بالتقدُّم خطوةً فحَسْب على الأصيل؛ بل ينوبُ عنه اختيارًا وجَبرًا، ويَسلبُه حقَّ النظر والتقدير واتّخاذ القرار؛ حتى صار المالكُ أجيرًا، وصاحبُ الحقِّ أداةً فى مشروعٍ يتجاوزُه هو والقضيّة وحدودها وشواغلها الوطنية.
ما كان لحماس أنْ تُقدِمَ على المُغامرة لولا التسخين والتطمين، وربما وعود الدخول على الخطِّ إسنادًا بالأساس، وتصعيدًا من بعده باتّجاه المُواجهة الشاملة. وسواء كانت ساعةُ الصِّفر باتِّفاقٍ مُسبَق، أو وقعَ خِلافٌ فى التفاصيل ومنها المَوعِد والمدى العمليَّاتى، أو غير ذلك؛ فالجَلىِّ لكلِّ ذى بَصرٍ وبصيرة أنَّ «طوفانَ السنوار» كان خطوةً مُمانِعَةً بأكثر مِن كَونِها فلسطينيَّةً خالصةً.
وعليه؛ فإنَّ ما جاءَ بعدَها لا يُحسَبُ على التقاعُس والخذلان، بل يُلامِسُ الخيانةَ الموصوفة، ولا يتأبَّى تمامًا على تفسيره بالتوريط المقصود. كأنَّ وَلىَّ الدَّمِ لثاراتِ الشيعيَّة المُسلَّحة، أراد أنْ يُمرِّرَ أجندتَه من قناةٍ غير مُباشرة، وسعى لتحريك المياه الراكدة، بَحثًا عن تجديد التفاوض مع الشيطانِ الأكبر؛ دون أنْ تكونَ الرصاصةُ من جانبِه، ولا أن يُضطَرَّ لسداد تكاليف المُغامرة غير المحسوبة.
وحقيقةُ أنَّ القرارَ كان فَوقيًّا بدرجةٍ ما؛ ربما تُفسِّرُ غرابةَ القَفز الحَمَاسىِّ على التوازُنات المُختلَّة، وعلى عِلَل البيئة الفلسطينية، واختلال المُعادلات الجيوسياسيَّة فى عموم المنطقة. وبافتراضِ أنَّ عمليَّةَ «الطوفان» تضخَّمَتْ فى أيدى المُنفِّذين دونَ قَصدٍ مُسبَق؛ ففكرةُ اجتياز الحدود والسيطرة على مُستوطنات الغلاف، مع العودة بأىِّ عددٍ من الأسرى العسكريِّين والمدنيِّين، مِمَّا يستَدعِى بالضرورة ردودًا انفعاليَّةً هائجةً من جانب الاحتلال؛ لا سيما مع ما كان مَعروفًا عن أزمة الحُكم فى تلّ أبيب كما أسلَفنا، وبحث زعيم الليكود وعصابته فى كلِّ المَخارج المُمكِنَة.
وعاملُ الانحياز إلى الوظيفيَّة لا الاستقلال الكامل، وتغليب احتمال أنَّ قرارَ الحركة كان مَمسوكًا من قيادتِها الوصائيَّة العُليا، يبدو واضحًا فى إدارتها لِمَا بعد الهجوم، وفى شُبهة أنها مُنِعَتْ من مُقاربةِ الموقفِ وفقَ حقائق الأرض، بما يَحتمِلُ أنها أُجْبِرَت على خوضِ النزاع لآخره، وصُودِرَ منها الحقُّ فى تقييم الوقائع وتقويمها، وفى إبرام صفقةٍ ولو بقَدرٍ من التنازُلات، مع معرفة أنَّ الرياحَ لا تهُبُّ فى أَشرِعَتِها، وما ترفضُه اليومَ قد تُضطَرُّ لقَبولِه غدًا، بمزايا أقلّ وأعباء مُضاعَفَة.
ومن جهةِ لبنان، لا تختلفُ الحالُ فيما يخُصُّ امتحانَ الحزب والدولة. وجِذرُ المُشكلة أنَّ الصراعَ مع إسرائيل صُرِفَ لحساب تقوية طائفةٍ ضدَّ أخرى، وتسييد رُؤيةِ فريقٍ فوقَ الدستور والقانون وميثاقيَّة العَيش المُشتَرَك. المُقاومةُ أنجزَتْ التحريرَ قطعًا؛ لكنّها وجَّهَتْ فائضَ القوَّة بعدها إلى الداخل، وورَثَتْ الوصايةَ السوريَّة على بحرٍ من الدم، كانت أكثرُ موجاتِه فجاجةً أنْ يُنحَرَ «الحريرى» فى قلب عاصمته، وسط رجاله، وفى تشريفته الرسميّة.
وبأثرِ الهيمنة والانفراد بالقرار؛ اخترعَ السيد حسن نصر الله جولةً اعتباطيَّةً فى العام 2006، وقال لاحقًا، فيما يُشبِه الندمَ، إنه لو يعرفُ المآلَ ما أقدمَ على الفعل، ورغم الخروج من الحرب بين الهزيمة والتعادُل؛ انتَحَلَ هالةَ المُنتصرين، وحصدَ مُقابلاً أكبرَ فى إعادة تكييف البيئة السياسية على هوى الميليشيا، بالثُلث المُعَطِّل، وبإلغاء السلطات كلِّها فى بيروت لصالح السُّلطة الإلهيَّة الواحدة فى الضاحية، وبعدها لم يَعُد مُتاحًا الكلامُ عن بلدٍ أصلاً؛ أو هكذا صارت الجمهوريَّةُ الإسلاميَّةُ تنظرُ إليه، وتَعُدُّه بين أُصولِها المُتمدِّدَة فى الإقليم.
ساعاتٌ قليلةٌ بعد الطوفان، وأعلنَ الحزبُ اشتباكَه مع إسرائيل إسنادًا لغزَّة، ومُشاغلَةً عن الإجهاز الكامل عليها. ولا فارقَ بين أنْ ينطلقَ فى قرارِه من مُبادرةٍ فرديَّةٍ كاملة، أو أنْ يقترِحَ الفكرةَ ولا يُنهَى عنها من وَلِيِّه الفقيه فى طهران. فالخُلاصةُ؛ أنَّ التسرُّب إلى الميدان وافقَ رغبةً إيرانيَّة، أكان بالإملاء أم بالاستحباب.
وعليه؛ لم يَعُد من صلاحيات الأمين العام أن يُغادِرَ الجبهة إذا أراد، أو بحسب الاعتبارات الحركيَّة والوطنيّة، كما لا يتيسَّر له أن يُصَعِّدَ الأُمور بما يتجاوزُ حسابات الحرس الثورىِّ، وحدود الرسائل المُصرَّح بها، وما يَصبُّ فى صالح قيادة المحور؛ ولو كان على حساب الأطراف والساحات الرديفة. لقد مُنِعَ بغطرسةٍ ظاهرة من تفعيل كامل قدراته، واستخدام ترسانته الصاروخية الهادرة؛ كأنها أُعدِّت للترهيب لا أكثر، وكُتِب عليها أن تُدفَن مع صاحبها، كى لا تفتح بوّابة الجحيم على «صاحب الصاحب”.
يَصِحُّ التوقُّف هُنا أمامَ التأجيج المُفاجئ من جانب إسرائيل، فى موقعة «البيجر» وما بعدها، مثلما يتوجَّبُ الإنصات إلى الهَمس المُزعج فيما يتَّصلُ بإدارة الميدان من الحزب، وسوء التقدير رغم اتِّضاح الشواهد والإشارات، وعديد المواقف والمُقاربات الصاخبة والمُتضارِبَة من عاصمة المحور، بينما كانت الضرباتُ تتوالى على رأسها؛ دون تطويرٍ للرؤية بالإيجاب أو السَّلْب، ودون أن تمنع للأذرُع هامش حركةٍ يُشبِه ما خصَّت به الرأس.
وليس عَابرًا بالإطلاق أن يُقتَلَ الأمينُ العام فى أعماق الأرض، بعد أقلِّ من يَومَيْن على إعلان المُقتَرَح الأمريكىِّ الفرنسىِّ، بشأن الهُدنةِ المُؤقَّتة لثلاثة أسابيع، بالتزامُن مع بحث التفعيل الكامل للقرار 1701، وما تسرَّب عن أنَّ «نصر الله» يتَّجه لقَبوله، كما قال وزير الخارجية اللبنانى عبد الله بوحبيب؛ فيما يُشبِه التمَرُّد المزدوجَ على العدوِّ والصديق: إذ بدا وقتَها، وللمرَّة الأُولَى، أقرب إلى الخروج عن طَوع طهران، وأبعد ما يكون عن مُلاقاة تلّ أبيب فى نواياها السوداء.
ربما فهم السنوار أن الاتفاق مع الشيعية المسلحة كان على معنى التضامن الكامل، والمتكافئ، والشراكة فى المغرم قبل المغنم؛ لكنه فى واقع الحال لم يتجاوز صيغة الإذعان والاستتباع، ومن مُنطَلَق القاعدة المُتقدَّمة لتمهيد بيئة التقدَّم للقوافل الصفويّة الفارسية، أو لاستدراك العثرات لاحقا، والدفاع عن حاضرة المشروع ومركزه الحصين. وبعيدًا من الرباط العقائدى بين الضاحية وطهران؛ فالحزب نفسه تعرَّض لخديعة لا تختلف كثيرًا، وإن كانت مُخفَّفة عمَّا صدَم وعى حماس، ونزلَ جحيمًا على رأس غزّة.
التناقُض هُنا أنَّ التثبيتَ والتحفيزَ يأتيان دائمًا من القيادة، ومن وَاجبِها أن تكونَ أوَّلَ المُبادرين حينما تتيسَّرُ المبادرة، وآخرَ المُتقهقرين وقتَما يُفرَضُ عليها الارتداد. وما حدثَ أنها دَفَعَتْ الحَطَب إلى النار وتدفَّأت باحتراقه، وما كان يَشِذُّ منه أو يُبدِى مَيلاً للشذوذ، سريعًا ما تَرُدّه إلى المحرقة؛ احترامًا للطقوس المُقدَّسة والتزاماتها النهائيّة.
ما سُمِعَ بالفارسيّة كان مُحرَّمًا تمامًا على العربيّة. قال المُرشِدُ ورجالُه الكثيرَ عن «الصبر الاستراتيجىِّ»، ومَرَّروا من خلاله كلَّ صُوَر النكوص والصمت فيما كان يستَدعِى الردَّ والصَّخَب، ثمَّ طوّروه لاحقًا إلى «التراجُع التكتيكىِّ»؛ ليس على معنى أنْ تُبتَلَعَ الإهاناتُ الشخصيَّةُ فحسب، بل أنْ يُضَحَّى بالحُلفاء كُلَّما تبدَّت مَنفعةٌ فى التضحية، وأنْ يُزَجّ بهم إلى استكمال المُغامرات رغم خطأ المسار؛ على أمل أن تُصْقِل النارُ السبيكةَ الأُصوليَّة، وُصولاً إلى الصفقة المثاليَّة الضائعة.
وهكذا تمدَّدتْ الحربُ عامًا ونيّف، دون ربحٍ ظاهرٍ أو خسائر مُحتَمَلة. وما كان مَرفوضًا من حماس فى السابق، تتمنّى أنْ يُطرَح عليها مُجدَّدًا اليوم، وقد آلَ القطاعُ إلى قسمةٍ ثُلاثية فى الجغرافيا، ونكبةٍ ثقيلة على الديموغرافيا، مع تفعيلٍ واضحٍ لخطَّة الجنرالات، وقَصدٍ إسرائيلى لا يُمكن إخفاؤه لناحية السيطرة العسكرية، والوجود المادىِّ الطويل والثقيل فى كلِّ الأرجاء.
أمَّا الحزبُ؛ فقد انتقلَ من المُناوشات المحسوبة تحت سقف الاشتباك القديم، إلى صدامٍ حارقٍ تتبدَّدُ فيه مُقدّراتُه يَومًا بعد آخر، بينما يبدو طريقُ العودة مَقطوعًا عليه بإرادةٍ عُليا، وقد استُدْعِىَ أمينُه العام الجديد إلى طهران للحماية ظاهرًا؛ ولتثبيت فكرة امتلاك القرار بالأصالة فى الجَوهر. وإذ يُبدِى قدرًا من المرونة الآن بخصوص الورقة الأمريكية الأخيرة؛ فإنَّ تحميلَها بالمُلاحظات يُبرِّر للمخابيل فى تل أبيب أنْ يَنسِفوها، ولو لم تَنُمّ المآخذُ المُسجَّلة صراحةً عن رفضٍ حزبىِّ للرجوع عَقدين إلى الوراء، وتظهير مُواجهة 2006 على معناها الحقيقىِّ وقتَها، بعيدًا من دعايات النصر وما ترتَّب عليها من مُكتسباتٍ غير مُستحقّة.
قضى المبعوثُ الأمريكىُّ آموس هوكشتين يومًا وليلةً فى بيروت، وأبدى فائضًا من التفاؤل بالوصول إلى اتِّفاقٍ لم يتحقَّق طوالَ السنة الماضية. وما يُستَقبَل منه باهتمامٍ فى الراهن، كان واضحًا فى كلِّ زياراته السابقة ولم يتوقَّف أمامه الحزب. إنه يهودىُّ الديانة وصهيونىُّ المُعتَقَد، وخدمَ مُقاتِلاً فى جيش الاحتلال، وعندما كان يُمرِّرُ رسائلَ التهديد على امتداد الشهور الماضية، كان مُخلصًا بقَدرٍ فيها لرغبة واشنطن فى إبرام الصفقة، وبكلِّ المَقادير للإشارات المُكلَّف بحَملها من جانب تل أبيب.
وإذا فشَلَتْ المُقاربةُ اليومَ؛ فسيكون ذلك لأنَّ نتنياهو لا يُريدها. أمَّا لو نجحَتْ؛ فالمعنى أنها وُلِدَت وفقَ منطقِه عن «التفاوض تحت النار»، ولن تكون مزاياها للبنان شبيهةً أو مُقاربة حتى لِمَا تمنحُه لإسرائيل. باختصارٍ؛ إنها الحلُّ الاضطرارىُّ الذى تلتَجِئ إليه الميليشيا بعدما ألصقت ظهرَها بالجدار، وبِيْعَت من مُلاّك أمرها، ووضعَتْ الدولةَ بكاملِها فى خندقٍ مُسَيَّجٍ بالنار، وستكون الصفقةَ الأسوأ على الإطلاق بين كلِّ ما عُرِضَ عليها، أو كان فى المُتناوَل عند محطَّاتٍ سابقة.
صحيحُ الرواية أنها مُنازلةٌ بين غاصبٍ ومَغصُوبِين، وعليه فإنَّ لبنان لديه مُنازَعةٌ فى عِدّة نقاطٍ بريّة عالقة، بعدما رسَّمَ حدودَه البحرية مع العدوِّ قبل سنتين؛ إنما لا علاقةَ قانونيّة وسياسيَّة تجمعُه بالمِحنة الدائرة فى فلسطين، والدخول على خطِّها بقُوّة البندقيَّة الشيعية؛ إنما يصبغُ القضيَّةَ العادلةَ بلونٍ طائفىٍّ، ويُبرِّر للصهاينة أن يمنحوها طابعًا دينيًّا خالصًا، وأن يتهرَّبوا من التزاماتِ القانون والأخلاق والحقوق، تحت راياتِ الأُصوليَّة ودعايات الصراعات الوجوديّة.
تقديمُ الرواية يُوجِبُ أن تظلَّ فلسطين قضيّةً تخصُّ أهلَها، وألَّا تُغادرَ موقعَها بين الشرعيَّة القانونية والصِّفة الإنسانية. إزاحةُ لبنان أو غيرها إلى الميدان لا يَحسِمُ المُنازَعة الأصيلة، ويُورِّطُ المُساندين، ويفتحُ للعدوِّ كِوَّةً فى الجدار نحو المُراوغة والتضليل. أمَّا وَضعُ الحركات والفصائل المُلوَّنة فوق القضيَّة بلَونِها الصافى المعروف؛ فإنه أقربُ إلى الانحياز للراوى على حساب الرواية.
هذا ما يفعلُه الصهاينةُ بالحديث عن التوراة إزاء القانون والمواثيق الدولية، وبالتفتيش عن حقوقٍ تاريخية فى النصوص المُقدسة، للتغطية على جرائم ماديَّةٍ حاضرة من بلدٍ نازىٍّ، وجيشٍ مُسلَّحٍ بالكراهية وفتنةِ الإبادة والتنكيل. وخطيئةُ الخطايا كُلَّها أن يَرفعَ تيَّارٌ نفسَه فوقَ القضية، وأن ينتصرَ لأجندته على حساب بيئته. كلُّ تجاربنا السابقة رُفِعَ الشخصىُّ فيها فوق الموضوعىِّ، والرُّواة فوق الروايات؛ لكنَّ الواقع أننا فى احترابٍ على السرديّة، ولا منطقَ لأنْ نخوضَها على شروط الخصوم وبمادّتهم.
نحتاجُ لمُقاربةٍ مُغايرة مع إسرائيل؛ إنما شَرطُها الأوَّلُ أنْ نحسُمَ المسألةَ فيما بيننا، وأن نتوقَّف عن الذهاب فى مواكبَ صاخبةٍ، والرجوع مُنكسرين فى كلِّ مرّة، بينما يحصى التاجرُ والقاتل مكاسبهما، ويتركان الأرض وأهلها يلعقون جراحَهم، بين يأسٍ من العدوِّ، وأسىً من الصديق، وهما على أوضح التواصيف ضبعان يختصمان فى فريسةٍ واحدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة