يواصل الروائى والشاعر الكبير الأستاذ أحمد الشهاوى فى ديوانه الجديد "أتحدث باسمك ككمان"، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية العريقة فى القاهرة، رحلة شعريّة تميّزت بقدرة فريدة على تحويل المشاعر العاطفية إلى تجارب حيوية تتناغم مع الموسيقى، وتتنفس روح الحب بأسلوب يمتزج فيه الجمال بالشجن، والوجد بالخيال. لا يحمل هذا الكتاب في طياته فقط قصائد عن الحب، بل هو أيضًا صورة حية لشاعر يعيش في فضاء مليء بالآلام والتوق إلى الأمل.
يبدأ الشاعر أحمد الشهاوي ديوانه بأبيات حافلة بالصور الشعرية الحانية التي تنبض بالعاطفة والحب في قوله:
"هي أقرب من أي سماء لي / هي بلد يحمل كل الأسماء"
تُسجّل القصيدة أولى مفرداتها لتصبح الحبيبة هي كل شيء، هي السماء التي لا تحتمل سواها، وهي الوطن، وهي الأمان.
تجسّد القصيدة كيف يمكن أن يتحول الحب إلى كائن حي نابض داخل الروح، يتنقل بين الصور والهويات لتشكّل قصيدة من لحم ودم. فالحبيبة في هذا الديوان ليست فقط محبوبه، بل هي مصدر الحياة والإلهام.
الشهاوي يجعلها "كل الأسماء" و"الأهل" و"الشمس"، ليعكس تنوع الأدوار التي تؤديها في حياة الشاعر، كل تلك الأدوار التي قد تتداخل أحيانًا وتصبح إحدى ثوابت الوجود في العالم الشعري.
لكن ديوان "أتحدث باسمك ككمان" لا يتوقف عند حدود الإعجاب أو الهوس العاطفي، بل يقتحم أعماق الكينونة البشرية ويفتح ثنايا الروح بحثًا عن إجابات، يقدّم الشاعر لنا صورة مبتكرة عن الحب، ككمانٍ يتحدّى الأوتار ليصبح موسيقى قادرة على تحريك القلب والروح.
"أتحدث باسمك ككمان" ليس مجرد إخبارٍ عن حب، بل هو فعل توثيق وتعبيرٍ رقيق عن كيف يمكن للمشاعر أن تتحول إلى فنٍّ حيّ يشبع الشاعر ويشبعنا معه.
إن أكثر ما يلفت الانتباه في الديوان هو اختيار الشاعر للإهداء. لم يعد الإهداء موجهًا كما اعتاد في أعماله السابقة إلى أمه الراحلة نوال عيسى، بل خصص إهداءه الأول لحبيبته التي سرقت قلبه. يقول الشاعر في أحد الإهداءات:
"أترك كل مراكب بحري / كي أملأ قلبك بي"
في هذا التغيير الرمزي لوجهة الإهداء، يتجلّى التحوّل الشعري الذي يعيشه الشاعر؛ حيث انتقلت الحبيبة من مكان هامشي في حياته إلى مكان رئيس، في عملية شعرية تمنحها مكانة خاصة في تكوينه الوجداني. لكن المثير في هذا التغيير ليس فقط أن الشاعر قد خصص كتابه لحبيبته، بل لأننا نجد في هذه الأبيات "إهداءين" مزدوجين؛ إذ يبقى الإهداء الثاني موجهًا إلى أمه كما جرت العادة، ما يعكس وفاء الشاعر لجذوره. بيد أن التزاوج بين الحبيبة والأم في الإهداء، وتحديدًا داخل نفس النص الشعري، يعكس عمق التداخل بين الحب الأنثوي بكل أشكاله، من حبيبة إلى أم، وكيف أن الحب في حياة الشاعر يُمكن أن يشكّل تحوّلاً جذريًا في سياق الكتابة الشعرية نفسها.
في الكثير من قصائد الديوان، نلمس في أحرفه حديثًا عن الأمومة، لكنها ليست الأمومة التقليدية كما نعرفها. بل إن الشاعر يبدو وكأنه يشير إلى تحول داخلي عميق مرّ به بعد أن شهد تفاعلًا حميميًا مع الحبيبة، حيث يصبح الشاعر قادرًا على خلق "أمومة" خاصة به، تكتمل بمشاركة جسدية مع الحبيبة، بعد أن عايش "سعادة غير مكتملة" بسبب فقدانه للوجود الأمومي في حياة أمه. على الرغم من أن الشهاوي يعتبر أن أمه "ناقصة" في وجوده الشخصي، فإن الشاعرة الحبيبة تأتي لتعوض هذا الفقد. يبدو هنا وكأن الشاعر يتحدث عن كل شيء تمنيًّا له بأن "تكتمل" حياته، بدءًا من الحبيبة وصولًا إلى التجربة الأمومية نفسها.
أحد جوانب التميز في ديوان "أتحدث باسمك ككمان" هو استخدام الشاعر لغة شعرية تجمع بين البساطة والعمق في آنٍ واحد. إذا تأملنا في قصائده، سنلاحظ أن الشهاوي يميل إلى اللغة التي تنساب بسلاسة، مبتعدًا عن التعقيد الزائد والمباشرة. إن اختياره لمفردات مألوفة مثل "السراج" و"الدمع" و"النجوم" يجعل النصوص أكثر قربًا للقلب وأكثر ارتباطًا بالمعاناة الإنسانية. من خلال هذه البساطة، يحاول الشاعر أن يحلّق بأشعاره إلى آفاق أوسع، حيث يصبح القارئ قادرًا على العيش مع القصيدة كأصوات موسيقية مألوفة.
في هذا الديوان كما في غيره، يمكننا أن نرى كيف أن الشهاوي يعكس حالة غنائية شاعرية متكاملة حيث يصبح الصوت الشعري مفتوحًا على الحياة بكل تقلباتها، مبدعًا صورًا شعرية مكثفة وساحرة. بعيدًا عن البحث عن ضوء النقد أو التباهي بالشكل، نجد أن الشاعر يظل وفياً لمشروعه الإبداعي، ليبقى هو الشاعر المتحدث عن نفسه وعن الآخر في آنٍ واحد.
لا يقدم ديوان "أتحدث باسمك ككمان" فقط مشاعر حب، بل يقدم تصورًا فلسفيًا عميقًا للحياة وللتجربة الإنسانية. هو كتاب عن الإبداع والحياة والخيال كما هو كتاب عن الألم والتوق للمثالية. الشاعر لا يُخفي معاناته في ظل العلاقات الإنسانية، لكنه يخلق من خلالها عالمًا مليئًا بالأمل والشغف. وكلما قرأنا أكثر في هذا الديوان، كلما وجدنا أنفسنا أكثر ارتباطًا بالقصائد، ومقتنعين بأن الشعر بالنسبة لأحمد الشهاوي هو أكثر من مجرد كتابة؛ إنه محاولة مستمرة لفهم الذات والعالم المحيط بها.