تستمر الحرب في غزة، وتمتد إلى لبنان وسوريا، وتتصاعد بين الحين والآخر في اليمن، في حين يبقى العراق أحدث حلقات التهديدات الإسرائيلية، في ظل حكومة متطرفة تحكم تل أبيب تسعى إلى جر المنطقة بأسرها إلى حرب إقليمية شاملة، وهو الأمر الذي بات مهددا للاستقرار العالمي بأسره، خاصة مع تنامي الصراعات في مناطق أخرى بالعالم، بين الأزمة الأوكرانية، والتي اخترقت المحيط الجغرافي للغرب، والذي دأب على النأي بنفسه بعيدا عن دوائر الصراع المباشر، لعقود طويلة من الزمن تارة، وحتى التوتر في شبه الجزيرة الكورية، والمرشح للتفاقم بصورة كبيرة، حال العجز الدولي عن احتواءه، وهو ما يضع العالم على حافة الهاوية.
ولكن بعيدا عن الصراعات القائمة في العالم، يحظى الصراع في منطقة الشرق الأوسط بتفرده، إثر تفرعه، بين حالة رئيسية تبقى تاريخية، تتجسد فيما يطلق عليه "الصراع العربي الإسرائيلي"، والذي يدور في جوهره حول القضية المركزية في منطقة الشرق الأوسط، وهي القضية الفلسطينية، وحالات أخرى ذات نطاق أهلي، تتراوح بين صراع مباشر على السلطة، كما هو الحال في بعض دول المنطقة على غرار الوضع في السودان، وصراعات المفاهيم، وتمثل شكلا غير مباشر للصراع على السلطة، والتي تدور حول ماهية المقاومة وآلياتها، وطبيعة حلفائها، وغير ذلك من التفاصيل، ربما تدفع إلى اشتعال الحروب في الداخل، جراء توجيه السلاح نحو دولهم بدلا من توجيهه إلى الكيان الذي طالما وصفوه بالعدو، وهو ما ساهم بطبيعة الحال في إضعاف العديد القوى العربية المؤثرة، وتقويض مواقفها أمام المجتمع الدولي، مقابل شعارات تهدف في الأساس إلى الحصول على شعبية قطاع من الشارع.
وفي الواقع، تبدو إسرائيل المستفيد الأول من حالة صراع المفاهيم، والتي دارت في جوهرها حول المقاومة، في ضوء ما آلت إليه من تفتيت الكثير من القوى العربية المؤثرة، والتي تمثل في مجملها الكتلة الأكبر، ليست فقط الداعمة لفلسطين، وإنما التي تتحمل عبء الدفاع عنها في المحافل الدولية، بينما حققت قوى أخرى العديد من المزايا جراء دعم صوري للقضية، من خلال تزويد تلك الجماعات بالمال والسلاح، وهو في واقع الأمر ليس لدعم المقاومة ضد الاحتلال، وإنما لحماية مصالحها وتعزيز نفوذها، حتى وإن كان ذلك على حساب الدولة المركزية.
إلا أن العدوان الحالي على قطاع غزة والأراضي اللبنانية والسورية، كان كاشفا للعديد من الحقائق، في ضوء ما آل إليه من خسائر، ليس فقط في الأرواح والبنية الأساسية، ناهيك عما ترتب عليه من أوضاع اقتصادية صعبة، وإنما أيضا في هياكل الجماعات المقاومة، والتي ربما فشل الاحتلال في القضاء عليها تماما كما تعهد، في بداية الأزمة، وذلك باعتبارها جزءً لا يتجزأ من نسيج المجتمعات، ومكون أساسي من مكونات الدول الحاضنة لها، ولكنه أضعفها بصورة كبيرة، جراء طول أمد الحرب والتفوق العسكري والتكنولوجي الذي يحظى به الجيش الإسرائيلي، في العديد من الجوانب، سواء إداريا مع استهداف القيادات سواء في الفصائل الفلسطينية وحزب الله في لبنان، أو لوجستيا مع قصف مخازن السلاح، ناهيك عن العديد من الخسائر التي لحقت بها، بينما اكتفى حلفاء المقاومة بالمشاهدة تارة، أو القيام بعمليات محدودة للغاية تارة أخرى، وهو الأمر الذي يستدعة إعادة النظر بصورة كبيرة في آليات المقاومة وعلاقتها بدولها بالإضافة إلى طبيعة حلفائها.
ولعل الحديث عن إصلاح جماعات المقاومة، يبدأ في واقع الأمر من نقطة الاندماج مع الدولة المركزية، ثم التفاعل مع المحيط العربي، الذي يبقى الداعم الرئيسي للقضية الفلسطينية، وهو ما يساهم في إنهاء حالة التوتر الأهلي، التي تبدو مؤرقا رئيسيا للعديد من القوى التي تخلت عن دورها الإقليمي في سبيل الاحتفاظ بالحد الأدنى من الأمن والاستقرار في الداخل.
والفرصة تبدو مهيأة بعد كم الخراب والدمار الذي طال العديد من الدول جراء العدوان عليها من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، فالمقاومة باتت في حاجة إلى إعادة تأهيل، بل وأصبحت في حاجة إلى خطاب جديد، يستعين بالهوية، على حساب سياسة الولاءات والمحاور، بل قد تجد لنفسها دورا لتكون بمثابة حلقة وصل بين فريقين، يحملان نفس الهدف، في ضوء اختلاف الآليات، من أجل الوصول إلى أرضية مشتركة، خاصة بعد ما شهدته المنطقة من حزمة من المصالحات الإقليمية، ساهمت في تعزيز العلاقات بين الدول، حتى وإن تضاربت المصالح في بعض الأحيان، بحكم نظريات السياسة والمصلحة.
الوصول إلى نقطة إصلاح المقاومة يساهم في تعزيز دور الدول التي تتمركز بها تلك الحركات، بينما يساهم في تعزيز دورها باعتبارها جزءً من الدولة، وليست خصما لها، في حين يصبح من شأنها تعزيز البعد العروبي ككتلة موحدة، يمكنها التأثير على العالم بصورة أكبر، ناهيك عن تعزيز الإقليم بأسره في ظل حالة من التوحد أمام هدف واحد يسعى الجميع إلى تحقيقه، وهو الانتصار للقضية الفلسطينية، وتعزيز الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين.
وهنا يمكننا القول بأن المقاومة تبقى أحد مكونات الدول، والتي تحتاج بطبيعتها إلى إعادة النظر، أو بالأحرى إصلاح، فيما تتبناه من سياسات، خاصة مع تغير الظروف الدولية والإقليمية، من جانب، وظروف المجتمع داخل الدول الحاضنة لها من جانب آخر، ناهيك أو الأوضاع في الداخل الضيق، والمقصود هنا داخل أروقة تلك الجماعات، من جانب ثالث، وهو الأمر الذي يجب التركيز عليه في المرحلة المقبلة، خاصة بعد التدهور الكبير التي شهدته المنطقة خلال العدوان، وربما قبل ذلك جراء الانقسام الداخلي والذي وصل إلى حد الاقتتال.