سيعودُ الجميعُ من حيث أَتَوا؛ لا على معنى الارتداد لنقطة الصفر، وتَخَطِّى بِركَة الدمِ التى راكَمَتْها الشهورُ الطويلة الماضية، إنما لجهة الوُقوف على الأطلال بصلابةٍ مُدَّعاة، وبالتناقُضات القديمة نفسِها، وانعدام فُرَص التوصُّل إلى حلولٍ وتسوياتٍ حقيقية. لا الاتِّفاق على الجبهة اللبنانية سيُعيدُ تحريرَ الأفكار والتوازُنات بما يُرسِّخُ حالةً من السلام البارد، ولا الهُدنةُ فى قطاع غزَّة؛ لو تيسَّر إبرامُها بشروطٍ عادلة أصلاً، قادرةٌ على تجفيف آثار الطوفان بشكلٍ كاملٍ، أو رَدع الفصائل وترويض جنون الاحتلال.
وأقصى ما يُمكن التطلُّع إليه الآن، أنْ تَطولَ مُهلةُ الصمت الاضطرارىِّ، أو تتعثَّر إرادةُ التأجيج قليلاً؛ لكنَّها لن تنطفئ أو تنتفى تمامًا. فالطرفانِ يَقِفان فى حُفرةٍ سحيقة، ويكبشان من نارٍ واحدة، وما يجمعُهما فى العُمق أكبرُ مِمَّا يُفرِّقهما على سطح الأحداث.. وعليه؛ فالتنافُرُ واقعٌ لا محالةَ بين الأقطاب المُتشابهة: عَدُوَّانِ من الطِينة نفسِها، وكلٌّ منهما لا يُنبِتُ إلَّا الحنظل، ولا يَرَى من الآخر سوى الشوك.
الرغبةُ فى المُكاسَرة والإفناء شعارٌ مرفوعٌ على الناحيتين، وما يُقوِّضُه أنَّ كليهما عَصِىٌّ على الإزاحة، وعاجزٌ عن تذويب الخصم. لكنهما إزاء التصلُّب الاستعصاء، يُفكِّران بطريقةٍ مُتطابِقة، ويَعتَمدان الأدوات ذاتِها فى إعلان القوَّة، وفى إعادة تعريف النصر والهزيمة بالهوى والنوازِع الشخصيَّة.
ولا تَخلو المُقاربةُ المُلوَّنة من ازدواجيَّةٍ فى النظر، وتناقُضاتٍ فى المَواقِف والرُّؤى؛ بحيث يصيرُ المَقبول فى زاويةٍ مَرفوضًا فى غيرها، والأخلاقىُّ هُنا وَضيعًا هُناك، ويتداخلُ الذاتىُّ بالموضوعىِّ لدرجةٍ تُشوِّهُ المفاهيمَ، وتُضلِّلُ الحُلفاءَ قبل الأعداء، ناهيك عن الشراكة فى رقصةٍ واحدة على جُثث الأبرياء ومَصالح المُحايدين. فكأنه سباقٌ فى الجَدَل والعاطفة والتزييف، يتسانَدُ على فائضِ الغطرسة حينًا، وعلى انعدام الضابط الوازِن فى أغلب الأحيان. ولا فارقَ بين اللصِّ إذ يسرقُ ضَحيَّته، والمَسروق إذ يُعوِّضُ فواقدَه من جيوب الآخرين.
وليس القَصدُ إطلاقًا أن نضع نتنياهو وعصابتَه مع حسن نصر الله ويحيى السنوار على ميزانٍ واحد، ولا أن يُنظَرَ لإسرائيل ومحور المُمانَعة من الزاوية ذاتِها. فالحقُّ والباطلُ جَلِيَّان ولا شَكَّ فيهما، والقضايا العادلةُ تتعرَّفُ بنفسِها، ولا يَعوزُها إسنادُ صديقٍ أو بطش عدوّ؛ إنما الفكرةُ أنَّ كثيرًا من الشعارات المُتضادّة قد تُورِثُ نتائجَ مُتطابقةً، دون تغيُّرٍ أو انحراف، والطريقُ إلى الجحيم كثيرًا ما تَحُفّه النوايا الحَسنة.
ولا معنى بالكُلِّيّة لمُنافسة الغريم فى لُعبَتِه المُفضَّلة، ولا مُلاقاته على رُزمة الأهداف التى يتوخَّاها، أكان بالمُنافسة غير المُتكافئة فى الميدان، أم باعتماد نسخةٍ مقلوبةٍ من دعاياته الحارقة؛ كأنها انعكاسُ الصورةِ فى مرآةٍ مُستوية. والحال؛ أنَّ العجزَ عن منطق السلاح، يُوجِبُ البحثَ عن مداخل مُغايرةٍ فى السياسة، وكلاهُما من مادةٍ واحدةٍ بالأساس، على ما يقولُ مُنَظِّرو الاستراتيجية الكبارُ. إذ ليس مَعقولاً من أىِّ وجهٍ أن تُبادِرَ على الجبهة وتقهقرَ فى غُرَف التفاوُض، ولا أنْ تفتقِدَ القُدرةَ على صعيدٍ، ثمَّ تتوهَّم أنها طَوع إرادتك فى الآخر، وتتشدَّد فى إبدائها دون أثرٍ أو بَيِّنة.
تُؤْثَرُ عن وزير الخارجية الإيرانىِّ الراحل، حسين أمير عبد اللهيان، قَولَتُه الشهيرةُ إنَّ ما يجمعُهم بإسرائيل الرفض الكامل والمُطلق لحلِّ الدولتين. وإن جاز مَنطقيًّا الردُّ على التطرُّف الصهيونىِّ بتَطَرُّفٍ شِيعىٍّ مُضادّ؛ فالواقع أنَّ السباقَ على الخيارات الصِّفرية لا يصبُّ إلَّا فى صالح القوَّة الكَاسِرة، وينتصرُ دَومًا للطرف القادرِ على تغليب إرادته، وعلى فَرضِها بالقوَّة العارية.
بينما فيما وراء الظاهر النضالىِّ، تَكمُن عقليَّةٌ أُصوليَّةٌ لا تختلفُ عن غريمتِها؛ إذ المجاهرةُ من مَوقعِ الضَّعْف بالرغبة فى إلغاء العدوِّ، تبدو فى حقيقتِها أقربَ ما يكونُ لإسنادِه وتدعيم سَرديَّتِه، فضلاً على أنها تُضمِرُ أغراضًا غير مُنزَّهَة تجاه الآخرين، وتَنُمُّ عن صيغةٍ قبائليَّة تَراءى للجميع أنَّ المنطقةَ قد تجاوَزَتْها؛ فإذا هى حاكمةٌ ومُتسَلِّطةٌ على العقول والأرواح.
قدَّمتْ الصهيونيَّةُ أسوأَ اقتراحاتِها، وعَرَضَتْ المنطقةَ بكاملِها على أجندةٍ سوداء. صحيحٌ أنَّه امتحانٌ من عُمر الدولة المُلفّقَة؛ لكنَّ خصومَها لم يُطوِّروا دِفاعًا حصيفًا طوالَ العقود الماضية، ولا وَطَّدوا مناعتَهم بما يَنبعُ من بيئةِ الصراع ويشتبكُ مع تحدِّياتها، بوعىٍ وديناميكيَّةٍ واعتدال؛ فظلَّتْ الاستجاباتُ فى حَيِّز الشعبويَّة والانفعال، من التلَطِّى وراءَ رواسب العثمانيَّة فى زمن النكبة، إلى القوميَّة العربية بعدها، ثمّ تديين القضيَّة عُبورًا إلى التطييف، بحيث لم يَعُد الدينُ نفسُه قادرًا على حَمْل التضارُبات المُختَصِمة فى أحشائها.
والظاهرُ من اقتفاء الزمن؛ أنَّ فلسطين ما أفاقَتْ من وَهدةٍ إلَّا لتسقُطَ عن جبلٍ شاهق، وما تجاوزَتْ حربًا إلَّا لتدخُلَ غيرَها، وكثيرًا ما كان الانتقالُ من سيِّئٍ إلى أسوأ؛ وبهذا فإنَّ الحقبةَ الحالية قد لا تكونُ أردأَ ما سيُلاقيه الفلسطينيون حتى إنجاز غايتهم التحرُّرية؛ لكنه على الأقلِّ أَشَدّ رداءةً من كلِّ سوابقه. ينسحبُ ذلك على رُؤى الفصائل الرجعيّة ورُعاتها، بقَدرِ ما يتَّصل بالزمنِ الإسرائيلىِّ المُغرِق فى اليمينيَّة القوميَّة والتوراتية، كما لو أنهما يسيران على قضيبين متوازِيَيْن.
كان الاشتباكُ قديمًا على قاعدةِ الاختصام بين السارقِ والمسروق، فانتصبَ سُكَّان الأرض وتداعى لهم الأقربون عِرقًا ومُعتَقَدًا؛ أمَّا ما آلَتْ إليه الحالُ اليومَ فيتَّخذُ صورةً إشكاليّةً مُركَّبة. ما تزالُ الدولةُ العِبريَّة تحت صِفَة اللصِّ؛ إنما غريمُها لم يَعُدْ ينطلقُ من أرضيَّةِ صاحب الحقِّ، بل يُقدِّمُ تنويعةً على حكاية «روبن هود»، الشقىِّ الذى يسرقُ من الأغنياء ليُعطِى الفقراء، بينما لا يكفى نُبلُ المَقصَد لتبديل الحقائق، ولا لإلباس الأفعال المشبوهة رداءً شريفًا.
العِلَّةُ ليست أنَّ الشيعيّةَ المُسلَّحة تقترفُ ما يُشبِه سُلوكَ الصهيونيَّة فى المنطقة، وأَفنَتْ أنظمةً وتسلَّطَت على دُوَلٍ وعواصم كانت آمنةً، وفقَ أجندةٍ سياسية مذهبيّة خبّأتها تحت شعارات مُواجهة قُوى الاستكبار، وإطلاق مسيرة الزحف إلى القدس.
وما يقعُ على عاتقِها، تقتسمُه الأذرُعُ وميليشيَّاتُ الساحات الرديفة؛ وإنْ بنِسَبٍ ضئيلةٍ ومُتفاوتة. إذ لا يُمكِنُ النظرُ لانقلاب حماس على السلطة الوطنية قبل عَقدين خارج فكرة اللصوصية والاستلاب، كما هى الحالُ بالنسبة لحزب الله؛ بابتلاعِه للدولة اللبنانية تحت زَعم الحماية.
عاش نتنياهو طويلاً فى ضلال الأُسطورة، ونصَّبَ نفسَه مَلِكًا توراتيًّا يُصارع الزمنَ فى مسارٍ عكسىٍّ؛ لاستعادة الأمجاد التى تُمكِّنُه من عرشِ داود؛ لكنه صارَ أقربَ شَبهًا بنُسخةٍ عصرية من شمشون. بطل الميثولوجيا اليهوديّة الذى كان مَوضِعَ فخرٍ؛ ثمَّ أردَاه القلبُ وسوء التقدير، ليموت أعمى تحت أنقاض المعبد، وبين أعدائه الغزِّيين. وأقصى ما يستطيعُه «روبن هود» أن يُخطئ الجناةَ الحقيقيين؛ فيسرقَ من الأبرياء ولا يمنح الضحايا، وآخر ما فى الجعبة الشمشونيَّة أن يُهْدَمَ البناءُ على رؤوس الجميع.
ولا مخرجَ من حالة الصِّدام الوجودىِّ؛ إلَّا بانكسار طرفٍ أو اعتدال الآخر. وإذ يُراهِنُ زعيمُ الليكود على ترسيم المنطقة جيوسياسيًّا بمعونةٍ أمريكية، فإنَّ الشيعيَّةَ المُسلَّحة ليست جاهزةً للخروج صِفْر اليَدَيْن، وتنتظرُ أن تتَّضح ملامحُ الإدارة الأمريكية الجديدة، وما إذا كان «ترامب» سيُغادِرُ جبهةَ الحرب كما يَعِد، أمْ سيتورَّطُ فى أجندةِ حليفِه المخبول.
وحتى مع الاحتمال الأسوأ؛ فإنها لا تَعدَمُ فُرَصَ المُناورة والالتفاف، ولديها أدواتٌ دِفاعيَّة يُمكِنُ تفعيلها، بما يُهدِّدُ المنطقةَ باحتدامٍ تَصغُر أمامَه كلُّ الجولات السابقة. وتظلُّ دِرعُها الفولاذيَّةُ باقيةً ما بَقِيَت الأُصوليَّةُ، والأخيرةُ تتعيَّشُ بالدرجة الأكبر على مُمارسات الصهيونيَّة الفجَّة، فى علاقةٍ دائريَّةٍ عنوانها التخادُم والإعالة الطُفيليَّة المُتبادَلَة.
ليُصَرِّحَ كلُّ فريقٍ بما يُريد؛ إنما الحقيقةُ أنَّ كلًّا منهما يُشكِّلُ هالةَ حُضورِه من لهيب الفريق المُضادّ. وُلِدَت «حماس» من الغطرسة الإسرائيليَّة، ثم صار وُجودُها مُبرِّرًا لمزيدٍ منها. والجمهوريَّةُ الإسلاميَّةُ فتَّشَت عن أوراقٍ للانتقال بين طاولات اللعب؛ فلَمْ تَجِد أثمنَ ولا أعلى تأثيرًا من جرحِ العُروبة المفتوح، فقفزَتْ على لبنان ومنه إلى فلسطين؛ ووسَّعت لتلِّ أبيب هامشًا لسَبك سرديَّة الحرب الوجوديَّة وصراع الهُويَّات والحضارات.
وكُلَّما التصَقَ ظَهرُ أحدِهما بالجدار؛ استعارَ جُملةً من خطاب الآخر، أو هو التشابُه البنيوىُّ العميق، الذى يجعلُهما دائمًا أقربَ إلى ظِلَّيْن لصورةٍ واحدة؛ على ما فى ذلك من تناقُضٍ وازدواجيَّة، وتدعيم العدوِّ فى أحوج الفترات إلى تقويضِه، والقطيعة مع كلِّ سلوكيَّاته فى الخطاب والمُمارَسة.
وأمراضُ البيئتين تتجلَّى فيما بينهما، وفى علاقتِهما بالآخرين؛ إنما لا يدفعُ كُلفَتَها سوى القضايا المُعلَّقة، إذ لا تتحرَّرُ من قيودِها القديمة، ولا تتحرُّك إلى الأمام. والراهنُ أنَّ «طوفان السنوار» أنزل بغَزّة ما لم تختبرُه طوالَ عُمر الصراع، وابتكرَ لها نكبةً تتخطّى أسوأ الفُصول فى النكبة الأُولى، فضلاً على أنَّه فتحَ أبوابَ الجحيم على الحُلفاء؛ كما لو أنه ورَّط الحزبَ فى لبنان، وعَبَّد الطريقَ إلى طهران نفسِها. وإذ يُفتِّش المُمانِعون اليومَ عن حلولٍ؛ فأقصى ما يتمنَّونه أنْ يعودوا لِمَا قبل السابع من أكتوبر، وأنْ يقبلَ العدوُّ تنازُلاتِهم المُتاحةَ، ولا يتشدَّد فى طَلَب المزيد.
تقبلُ «حماس» حاليًا بأقلِّ مِمَّا كان معها قبل الطوفان، وتقفزُ على ما تأتَّى عنه من ركامٍ وأشلاء، وتضييعٍ للقطاع حاضرًا ولعقودٍ مُقبِلَة. تتفاوَض مع العدوِّ كما لم تفعَلْ مع الشقيق، وتُنازِعُ مُنظَّمةَ التحرير فى شَرعيَّتِها وصِفَتِها التمثيليَّة عن الفلسطينيين. والحزبُ يعودُ عن طريق التصلُّب القديمة؛ راضخًا لتفعيل القرار الأُمَمىِّ رقم 1701 بعد عَقدين من التمرُّد عليه، والمنطقُ أنه لن يُخلِى الجنوبَ إلى شمالىِّ الليطانى، إلَّا ليُعيِدَ توظيفَ سلاحه باتِّجاه الداخل، وصَرْفِ تكاليف الهزيمة فى السياسة، مثلما فعل مع دعايات النصر فى العام 2006.
وعِمامةُ المحور على الدَّرْب نفسِه؛ تُصَعِّدُ فى العَلَن وتُجالِسُ الشيطانَ الأكبرَ فى الخفاء، وغايةُ مُناها تُبرِمَ اتِّفاقًا لا يبترُ أذرُعَها بالكامل، ولا يُصوِّبُ على برنامجها النووىِّ. فالقانون مُرحَّبٌ به على الهوى والمزاج، وبما يُناسِبُ المصلحةَ الذاتيَّة لا العمومية، ويُفيدُ عاصمة المشروع ولو أضرَّ أقاليمَه المُلحَقة. وهكذا لا ترحيبَ بالصفقات والتسويات إنْ مَنَعَتْ الموتَ عن اللبنانيِّين والغزِّيين، كما لا تصيرُ شرًّا مُستطيرًا إن أُبرِمَتْ بإرادة المُرشِد وحرسِه الثورىِّ.
وإسرائيلُ على عادتها؛ تُبرِمُ الاتفاقات لتنقُضَها، وتُمرِّر أهدافَها بإتقانها حِينًا، وبخِفَّة الخصوم ورداءة أدائهم فى أغلب الأحيان. وإذ تُقطِّعُ الوقتَ على الجبهة اللبنانية، تُواصِلُ تفعيلَ أجندة القَضْم والهيمنة جنوبًا، وتُظهِرُ غيرَ ما تُضمِر، وتفعلُ خلافَ ما تقول، وفى النهاية تبدو قابلةً للوِفاق مع الشيعيَّة المُسلَّحة بأكثر مِمَّا هو مع حماس والبيئة الفلسطينية؛ إذ تُرسِلُ الرسائلَ لطهران وتتلقَّاها منها، بينما لا تُفرِّقُ فى حربها بين غزّة ورام الله.
ولَولا اليقين من صدامِ الغايات، وعُمق العداوة من مُنطلقاتٍ نفعيَّة ونصوصيّة صاخبة؛ لكان التصوُّر الأقرب للمنطقِ أنهما فى لُعبةٍ مرسومةٍ بقَصدٍ، ومُوزّعة أدوارُها بحساباتٍ دقيقة ومُتَّفق عليها. لا سيّما أن ما يَقبَلُ أحدُهما بالتفريط فيه لصالح الغريم، يرفُضُه على الإطلاق لو كان لفائدةِ الصديق، أو يخدمُ القضيَّةَ الجامعة، أو الحقّ فى معناه المُطلَق.. وهكذا تتجنَّدُ العائلةُ الصهيونيَّةُ بكاملها لإسناد نتنياهو إزاء مُذكِّرة التوقيف من الجنائية الدولية، بينما يرفضون فى أغلبِهم أن يظلَّ على رأس السلطة، ويطلبونه أمامَ القضاء فى اتهاماتِ رِشَىً وفساد؛ فضلاً عن المُساءلة المُعلّقة عن أخطاء «الطوفان» وارتداداته.
رئيسُ الحكومة مُطارَدٌ من عدالتين؛ والجمهور نفسُه يُطوّقه لصالحِ واحدة، ويُخلِّى سبيلَه إزاء الثانية. ولا مُبرِّرَ للتناقُض هُنا إلَّا القَبَليَّة، ومنطق الطائفة المُغلَقة الذى يَتَسيَّدُ المشهد، ولا قيمةَ فيه لحقٍّ أو قانون؛ إلا بقَدر ما يُجسِّدُ مصالحَ الفئة المَقصودة، ويعزِلُ نزاعاتها البينيَّة عن العالم، وعن مسارات الصراع مع بقيّة الإقطاعيَّات المُنافِسَة.
وعلى المقياسِ ذاتِه؛ تقبَلُ إيران بالتوافُق مع إسرائيل وترفُضُه مع العرب، ويسمحُ الحزبُ بإخلاء مواقعه لصالح الاحتلال، ويستنكفه مع الجيش، ولا ينزلُ عن مُكتَسَبٍ واحدٍ لبقيّة الطوائف الوطنيَّة، تحت عباءة لبنان الكبير وميثاقيَّة العَيش المُشترَك، كما أنَّ «حماس» تُرحِّبُ بمرحلةٍ من السيادة على الخرائب، أو أنْ يتولّاها الصهاينةُ أنفسُهم، ولا تُترَكُ للسلطة الوطنية، أو لأىِّ بديلٍ من خارج الأجندة الإخوانية المُتَشيِّعة.
والتفكيرُ بنازعٍ عشائرىٍّ مُغلَقٍ، وعلى صورةٍ أقرب لمرويّة «الفئة الناجية»، وتقسيم البشر إلى فُسطاطِ حَقٍّ يُقابلُ فسطاطَ باطل؛ إنما يقودُ فى آخر الطريق إلى استبعاد الصهيونيَّة بوَصفِها عدوًّا مُؤجَّلاً، وتوقيع القسمة على النفس قبل الآخر، من مُنطَلَق تقديم العدوِّ القريب على البعيد، وأولويّة حسم المُنافسة تحت راية القضية، وهذا ما يُورِثُ مستوىً أعقدَ من التناقُض، ناهيك عن تلفيق الوقائع، ومحاولة التوفيق بين المُتضادَّات.
والقصدُ؛ أنَّ الخصومة على هذا المعنى تنعقدُ فى صيغةٍ ثُلاثيَّة مُتشابِكَة؛ صحيحٌ أنَّ إسرائيل تبدو قاسمَها المُشترَك علنًا، وطوال الوقت؛ إلَّا أنها فى حقيقة الأمر تتَّخذ صورةً مُغايِرَةً، يتمَوضَعُ فيها خطابُ الاعتدال عند زاوية المُثلَّث الضيّقة؛ فكأنَّ بنادقَ المُمانَعة والاحتلال تتشاركُ التصويبَ على أُصول المنطقة ومُرتكزاتِها الوازنة: الأوَّلون لمُنافسةٍ على احتكار الجغرافيا والانفراد بتمثيل قضاياها، والآخرون ليقينِهم من سهولةِ الاصطدام بالأصوليّة الإسلاميَّة، ومن أنهم يزدهرون مع الخطابات الحارقة، ويعجزون عن التهرُّب الدائم من حصار السياسة والقانون.
غايةُ الشيعيَّة المُسلَّحة عند أعلى مستوياتها، أنْ تتجنَّبَ الحربَ المُباشِرَة ما استطاعَتْ لهذا سبيلاً؛ لكنها تسعى فى الآن ذاتِه لاستبقاء ميليشيَّاتها الرديفة، وتأبيد هيمنتِها على العواصم المُتداعية فى المنطقة. و«حماس» تلغى الشركاء بينما تَطلُب منهم الاعترافَ بسيادتها على المشهد، والحزبُ يضعُ نفسَه فوقَ الدولة ثمَّ يتخفّى وراءها فى المُلِمَّات، والحال أنَّه لا سبيلَ للجَمع بين المُتناقضات؛ فإمَّا أن تكونَ الكياناتُ دُولاً أو ميليشيَّات، وإمَّا أن يدفعَ المُغامرون فواتيرَ نزواتِهم أو أن يحترقوا بها أو يُجبَروا على التوقُّف عنها، وهذا ما يقعُ على عاتق تلّ أبيب أيضًا، بينما تزعُمُ أنها تطلبُ الأمنَ لشعبها، فيما تستميتُ بالحماوة ذاتِها فى إلغاء الآخر، تَعَاميًا عن أثقال الجغرافيا وحقائق الديموغرافيا.
والخلاصةُ؛ أنَّ حديث «عبد اللهيان» عن التلاقى على إفساد «حلّ الدولتين»؛ إنما يمتدُّ من العنوان إلى مَتن المسألة، ويختلطُ بالصراع فى كلِّ جوانبه، وبما يحكمُه من صَخَب الأجندات ومعارك الروايات. باختصارٍ؛ كان الرجلُ يُعبِّر عن ذهنيّة عامّة، لا عن موقفٍ خاصٍ فى قضيَّةٍ بعَينها.
وإذا كانت الحربُ إلى زوالٍ فى كل الأحوال؛ فالضامنُ لعَدَم تكرارها على صُورتِها القديمة، أو لأنْ يكونَ التكرارُ دافعًا للأمام مُستقبلاً؛ أنْ يتخلَّى المُتصارِعون عن أفكارهم البالية، وحلولِهم الإشكاليّة الحارقة، وعن اللعب بالأدوات نفسِها سعيًا لحَسِم سرديَّة تتأبَّى على الأُصوليَّات أصلاً، وما عادت تقبلُ أُطروحات الاستئثار للذات وإلغاء الآخر.
أُخِذَ «شمشون» بالحيلة فرَدَّ بالقوَّة، بينما يُشِهرُ «روبن هود» بُندقيَّته مُتخلِّيًا عن نقطة تميُّزه فى المراوغة وخِفّة اليد؛ فكأنهما يتعثّران فى معرفة نفسَيهِما، ويُخطئان فى تعريف الآخر، ويمتشقان الأسلحة الخاطئة، أو يضعان أسلحتَهم الصائبة فى غير مكانها وأوانها المُناسِبَين.. إنه صراعٌ بين أفيالٍ غبيّة وعمياء؛ بينما ينسِحِقُ العُشب الغضُّ تحت الأقدام.
تحتاجُ الصهيونيَّةُ والشيعيَّةُ المسلَّحة معًا، وبالدرجة نفسِها، إلى التداوى من أمراضهما الذاتيَّة، وإلى إنفاق بعض ما ضيّعتاه فى جبهة الحرب، على مُراجعة الخُطط والتكتيكات وتقويمها، وضبط الاستراتيجيات بما يتناسَبُ مع الواقعِ ويحترمُ حقائقه الدامغة، والاقتناع بأنَّ الازدواجيَّةَ لن تقودَ إلَّا لمزيدٍ من الاحتراق نفسيًّا وماديًّا، وأنَّ التناقُضَ قد يُعطِى فى جانب؛ لكنّه يخصِمُ من غيره، والأهمُّ أنّه لا فائزَ يلوحُ فى الأُفقِ بينما يتَّسعُ الملعبُ ويتوارى الحُكَّام بقواعدِهم المُلزِمة، ويُسدِّدُ المُتنافسون دائمًا على مرمىً واحد.