الضمير العالمي لا يموت ... فهو ليس والعدم سواء. هناك ضمائر حية رافضة أن يبقى القاتل خارج السجن وأن يواصل جرائمه البشعة ضد شعب أعزل بكافة صور الحصار والتجويع والابادة دون محاكمة. الرهان دائما طوال أكثر من عام من حرب الابادة الشاملة للكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وتوسعة تلك الحرب الى لبنان كان على أصحاب الضمائر الحية من مسئولي بعض الدول ومن الشعوب الحرة في الشرق والغرب حتى داخل أكبر دولة راعية وداعمة ومساندة لدولة الكيان.
لم يكن مقبولا و لا معقولا أن تستمر البلطجة العسكرية دون رادع حتى لوكان قرارا رمزيا صادرا من المحكمة الجنائية الدولية ونابعا من ضمائر أعضاءها والا بات العالم الذي نعيشه غابة لا حدود فيها ولا قوانين ولا مواثيق وتشريعات دولية يتباهى فيها القوي ويستعرض قوته وضخامته العسكرية ويستدير التاريخ بظهره ليعود الى عصر كانت القوة فيه هي لغته الوحيدة وأداته في حل النزاعات والصراعات.
ضمير العالم الحر والحي يأبى أن يعود التاريخ الى عصر القوة والبلطجة بقيادة الدولة التي من المفترض أنها تقود العالم الحر الى تطبيق القيم المثلى وهي قيم الحق والعدل والمساواة لكنها تخلت عن انسانيتها ودورها لتكون هي وقودا لاشعال الحروب ودعم لغة القوة في حروب الابادة ضد الشعوب المغلوب على أمرها وتستخدم ما لديها من نفوذ سياسي وقوة عسكرية لحماية القتلة ومجرمي الحرب.
من هذه الزاوية يمكن أن ننظر ونتعامل مع مذكرة المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق في مجلس الحرب يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقالت المحكمة في قراراها الاسبوع الماضي بان هناك أسباب منطقية للاعتقاد بأنهما ارتكبا جرائم حرب، و أن ثمة "أسباب منطقية" تدعو للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت أشرفا على هجمات على السكان المدنيين في قطاع غزة.وأوضحت أن جرائم الحرب ضد نتنياهو وغالانت تشمل، استخدام التجويع كسلاح حرب والقتل والاضطهاد و"غيرها من الأفعال غير الإنسانية". فالمجد لمن قالوا لا في وجه القاتل ومجرم الحرب والتاريخ لا ينسى أبدا.
مذكرة الاعتقال لمجرمي الحرب نتنياهو وجالانت ألقت بحجر ضخم من الرفض والتحدي للقوة الغاشمة في مياه الصمت والخذلان والعجز لباقي مؤسسات النظام الدولي الذي "شاخ فوق مقاعده" وفقد ثقة شعوب العالم الحر فيه بعد أن أصبح مجرد قاعات ومباني تصدر ضجيجا و لا تقوى على تطبيق قرارا واحدا ضد دولة أصبحت فوق القانون منذ نشأتها بحماية الدولة الاقوى في العالم اقتصاديا وعسكريا.
القاتل اذن أصبح داخل السجن ومطلوبا للعدالة سواء الآن أو بعد الأن ودول العالم – الاقليلا جدا منها- أعلنت احترامها والتزامها بقرارات المحكمة الجنائية الدولية حتى لا يفقد النظام العالمي الحالي ما تبقى من مصداقيته أمام شعوب العالم
قرار المحكمة الجنائية واقعة تاريخية فريدة في نوعها وغير مسبوقة وكشفت بالوثائق وبالحقائق والأسانيد والوقائع والصور وشهود العيان وعبر وسائل الاعلام الجرائم اللانسانية التي ارتكبها نتيناهو وجالانت منذ بداية حرب الابادة على الشعب الفلسطيني في غزة وقتل الأطفال والنساء وتدمير المساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس والجامعات ونزع القناع عن جرائم صهيونية مستمرة منذ أكثر 75 وعاما.
لن يستطيع نتنياهو وحكومته تجاهل القرار ومذكرة الاعتقال مهما صدرت عنه من تصريحات ضد المحكمة واطلاق شعارات وسرديات تاريخية لم تعد لها قيمة أو وزن لدى الشارع العالمي وفي القلب منه غالبية الشارع الأميركي ولم تعد تخيف أحد مثل " معاداة السامية"، فالقرار قد أزعجه بشدة وأقض مضاجعه على الرغم من تظاهره الزائف بالتماسك. وأظهر القرار أيضا أن الحكومة والمعارضة في الداخل الصهيوني على قلب رجل واحد ضد الحق الفلسطيني ومعا على طريق تصفية القضية الفلسطينية، فتصريحات مائير لابيد زعيم المعارضة- أو هكذا يقول عن نفسه- ضد المحكمة الجنائية الدولية لا تقل همجية وعنصرية من تصريحات نتنياهو فقد وصف " مذكرة الاعتقال با،ها مكافأة للارهاب" وان " "إسرائيل تدافع عن نفسها ضد المنظمات الإرهابية التي هاجمت وقتلت واغتصبت مواطنينا"
ولم يكن غريبا أو جديدا أن يتناغم الموقف الاسرائيلي من المحمة الجنائية مع موقف الراعي الأكبر في واشنطن فالمتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض قال إن الولايات المتحدة رفضت قرار المحكمة الجنائية الدولية.وأعرب المتحدث عن قلق واشنطن العميق "إزاء اندفاع المدعي العام لطلب مذكرات اعتقال، وأخطاء العملية المزعجة التي أدت إلى هذا القرار"، مضياً أن الولايات المتحدة تناقش الخطوات التالية مع شركائها.
وقال السيناتور الجمهوري ليندسي جراهام، الحليف المقرب للرئيس المنتخب دونالد ترامب إن "المحكمة مزحة خطيرة. لقد حان الوقت الآن لمجلس الشيوخ الأميركي للتحرك ومعاقبة هذه الهيئة غير المسؤولة".
تصر واشنطن أن تقف مع عدد قليل من الدول مثل المجر والأرجنتين واسرائيل بعيدا عن الموقف والاصطفاف الدولي وأن ترسخ الصورة الكريهه لها في الدعم اللامحدود عسكريا والمساندة السياسية الدائمة لاسرائيل داخل مجلس الأمن وخارجه وفي المعايير المختلة في التعامل مع قضايا العالم وفقا للمصلحة والانحياز الدائم لاسرائيل حتى لو اعتبر العالم ذلك شذوذا عن النظام الدولي وقوانينه.
فالولايات المتحدة الاميركية التي لاتعترف بالمحكمة الجنائية وليست عضوا بها وتهدد أعضاءها بسبب مذكرة اعتقال نتيناهو وجالانت هي ذاتها التي دعمت المحكمة وحرضتها لتوجيه اتهامات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب الحرب في أوكرانيا، ووجهت مديحا للمحكمة بسبب ذلك ووصفتها بأنها "مهمة وذات مسؤولية في هذا الشأن"، مع أن روسيا هي الأخرى لا تعترف بالمحكمة، وهذا يظهر حجم التناقضات والتعقيدات في المواقف.
وأيدت أيضا قبل ذلك بسنوات أوامر اعتقال بحق الرئيس الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي والرئيس السوداني السابق عمر البشير.
عموما قرار المحكمة الجنائية الاخير لاقى ترحيبا واسعا في دول العالم الأعضاء والموقعون على نظام روما الأساسي والملتزمون بتنفيذ قراراتها منذ تأسيسها عام 2002 وعددهم 124 دولة . ولا تملك المحكمة الجنائية الدولية سلطة تنفيذ أوامرها، لكن من الناحية الفنية، فإن أي دولة وقعت على نظام روما الأساسي، ستكون ملزمة باعتقال بنيامين نتنياهو أو يوآف جالانت ، إذا وصلا إلى أراضيها. فوزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، قال في تصريحاته يوم الخميس الماضي إن قرار المحكمة الجنائية الدولية الخاص باعتقال نتنياهو وجالانت ملزم، وأنه ينبغي على الدول والشركاء في المحكمة "احترام القرار وتنفيذه". وقالت منظمة العفو الدولية إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أصبح الآن "مطلوباً رسمياً" بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية.
والمتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر قال إن بلاده تحترم استقلال المحكمة الجنائية الدولية، وأكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف ليموين أن رد الفعل الفرنسي سيكون "متماشياً مع قوانين المحكمة الجنائية الدولية" وقال وزير الدفاع الإيطالي جيدو كروسيتو إن بلاده ستكون ملزمة باعتقال نتنياهو إذا زار إيطاليا.ورئيس الوزراء الأيرلندي سيمون هاريس أكد إن أوامر الاعتقال تشكل خطوة "بالغة الأهمية" وأن الاتهامات التي تضمنها القرار تعد من الخطورة بمكان.
وأضاف هاريس أن أيرلندا تحترم دور المحكمة الجنائية الدولية، داعياً إلى ضرورة مساعدة المحكمة في أداء عملها "على وجه السرعة".
بالتزامن، قالت وزارة الخارجية الهولندية إن زيارة الوزير كاسبر فيلدكامب إلى إسرائيل تأجلت "في ظل الظروف الحالية". وإن بلاده "تحترم استقلال المحكمة الجنائية الدولية"، مضيفاً أن أمستردام "لن تنخرط في اتصالات غير ضرورية، وستعمل على تنفيذ أوامر الاعتقال". واتفق موقف كل من سويسرا والسويد على أن بلادهما ملزمة بالتعاون مع الجنائية الدولية بموجب نظام روما، وبالتالي سيتعين عليهما اعتقال نتنياهو أو جالانت إذا دخلا البلاد، وتسليم أي منهم إلى المحكمة.
صور نتيناهو وجالانت سيتم توزيعها داخل مطارات 124 دولة مكتوب عليها " مجرم حرب ..مطلوب للمحاكمة والعدالة