"العامية المصرية" لهجة غير رسمية غنية بالمفردات، تقتصر على لغة الكلام دون الكتابة، ومن ثمّ فهى بعيدة عن تسجيل الآثار العلمية والفنية، رغم وجودها القوى داخل الهيئات الأكاديمية كلغة تدريس، وهى ـ من حيث نشأتها ـ لا تختلف عن نشأة العاميات الأخرى فى اعتمادها على تأثير اللغات الأقدم، واختلاطها بالأجانب، وتأثير الهجرات من وإلى المجتمع، والتخصص المهنى، وفقدان مجازية عدد من الاستعارات وبالتالى الحاجة إلى التجديد، فضلا عن الحاجات الشعورية والعرضية وغيرها من الأسباب التى توافرت بقوة للمجتمع المصرى بالشكل الذى كان من المفترض أن ينتح عامية بعيدة تماما عن الفصحى، لكن وجود القرآن الكريم وخطب الجمع ودروس المساجد وشيوع المدارس مثّل محطات حية لتأثير الأخيرة بالشكل الذى مكنها تمكينا ساعد عليه أيضا تدين المصريين وتمسكهم بالتقاليد والثوابت القيمية والفكرية، مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه الممانعة الدينية والفكرية والثقافية باتت تتهاوى الآن بسبب التطور التقنى الذى ربط الناس بلغته، فعمت الألفاظ الأعجمية، وعادت الهوة بين العربية والعامية تتسع بشكل متسارع يمثل خطرا حقيقيا على هوية المجتمع المصرى.
هذا الخطر لا يراه البعض ممن يحلو لهم تسمية هذه العامية بـ"اللغة المصرية الحديثة"، رافعين لواء الدعوة لاعتمادها لغة رسمية للكتابة والكلام، على اعتبار أنها تملك قواعدها المستقلة، وتتوافر فيها مقومات التعبيرين: المجازى والحقيقى، ومن ثمّ القدرة على الاستقلال بالأمة المصرية عن اللغة الأم (الفصحى).
ومن نافلة القول أن هذه الدعوة كانت وستظل "محل استهجان عام"، ومطلقوها يحيطون أنفسهم بالشك والريبة، خاصة وأن التأسيس الأول لها كان عبر الإدارة الاستعمارية لمصر عام 1888م، على يد فيلهلم سبيتا ويليام ويلكوكس، حتى ادعى الأخير أن فشل العقل المصرى فى الابتكار سببه قواعد اللغة الفصحى، وصحيح أن مهمة هؤلاء صعبة لكنهم لا ييأسون، هم فقط انتقلوا ـ مرحليا ـ من العمل على تصعيد العامية، إلى العمل على إضعاف الفصحى فأطلقوا على أنفسهم مسمى "المدارس الحديثة" ووصفوا العربية بأنها "نخبوية، وغير الصالحة للحداثة، وأنها السبب في تردى التعليم"، ونشروا "المدارس الأجنبية" التى تخلق جيلا "ممسوخ الهوية" إن لم يكتب العامية فلن يكتب الفصحى. في واحدة من أخطر مظاهر اختراق "الأمن القومى المصرى".
وبالعودة إلى العامية المصرية نجد أنه بالرغم من كونها لغة ذكية وقادرة على الإبانة والتعبير، وتحتوى الفن والثقافة المحلية، وتخلوا من القواعد "الرياضية الدقيقة" التى تحتويها لغة الكتابة مثل المثنى والإعراب وغيرهما، إلا أنها غير قادرة على اكتساب الاحترام كلغة كتابة، لافتقارها إلى المظهر الرسمى الذى يحتاج ـ فضلا عن الفخامة والرصانة في التعبير ـ "الدقة" المعتمدة على التنوع المعجمى والأسلوبى، كما أن المكان المسيطر للغة الفصحى من الصعب زحزحته، فالآثار العلمية والتراث الفكرى للشعب المصرى محفوظ بهذه اللغة، واستبعادها أو إضعافها يقطع الصلة بين الحداثة والتراث ويجعل الأصالة والمعاصرة ضدان، كل هذا في كفة وكون هذه اللغة "دينية" في كفة أخرى، ما يعطيها "قدسية خاصة" فالقرآن الكريم منزل بها والصلاة لا تصح دونها، ومن ثمّ فحضورها دائم بهما وبالمحاضرات الدينية والخطب الأسبوعية.
وعلى الجانب المقابل يدرك أنصار الفصحى خبث الهدف المرصود من مهاجمتها، فيحاولون إشاعتها فى المجتمع كرد فعل مضاد، فلا ينوبهم إلا السخرية، ذلك أن هذه اللغة ـ الرسمية ـ بقواعدها "الرياضية الدقيقة" لن تكون متاحة لبائع الخضار ومشتريه، ومن ثمّ فلا يمكن استخدامها على هذا النطاق، والحل يتمثل فى وجود اللغتين إلى جوار بعضمها، فالازدواجية اللغوية لا تنافر فيها، وهى موجودة في أغلب لغات العالم، لغة للحياة اليومية بتعاملاتها القصيرة، وأخرى للمكاتبات الرسمية والمعاملات الممتدة.
هنا تلعب العامية المصرية الحديثة دورا مهما كونها وسيط بين ثقافتين (الثقافة المحلية والثقافة العربية) لتتبلور ثقافة "هجين"، "عربية متمصرة" و"مصرية مستعربة"، قُدر لها ـ بما تملكه من رصيد حضارى ـ أن تكون عاملا مشتركا تقبل جميع الثقافات المحلية في العالم العربى القسمة عليه، فحققت سيطرة إقليمية من خلال الأعمال الفنية والثقافية والتموضع المركزى: الجغرافى والفكرى، فوجدنا بعض كلماتها وقواعدها وحتى أمثالها (وكثير منها يرتد إلى المصرية القديمة)، في لهجات إقليمية كلفظ "كدة" الذى شاع في الخليج، وكمثل هذا المثل المصرى المهندس ببعض التعديلات الصوتية والبنيوية الإماراتية: "الباب اللى أييك منه ريح سده واستريح"، وشيوع زمن المضارع المستمر بدخول حرف الجر عليه: بياكل، بيتكلم، وهذه القاعدة الأخيرة ترتد للمصرية القديمة، المسماة - على الشيوع - الهيروغليفية.
ومن هنا فإن العامية المصرية لعبت دورا في التقريب الوجدانى والفكرى بين العرب وبعضهم من جهة وبينهم وبين المصريين من جهة أخرى، فهم (العرب) كما يملكون لغة رسمية مشتركة يملكون أيضا لهجة عامية مشتركة، حيث يضطر الخليجى الذى يسافر إلى المغرب لاستخدام العامية المصرية ـ كلغة وسيطة ـ للتفاهم مع سائق التاكسى.
وبلغ من شعبية العامية المصرية أن قامت حملة من رموز عربية "غير مصرية" للاعتراض على قرار دبلجة أفلام "والت ديزنى" إلى العربية الفصحى عام 2016، بعنوان: "ديزنى لازم ترجع مصرى"، سرعان ما أصبحت هاشتاجا ثم "ترند" متصدرا قائمة أعلى الهاشتاجات استخداماً في تغريدات تويتر في العديد من الدول، كما أصبح الهاشتاج ترند عالمياً فى تويتر رقم ٧ في الترتيب. وكان حديث جميع منصات النشر لعدة شهور، حتى اضطرت ديزنى فى عام ٢٠٢٢، إلى تلبية الطلب، وأعادت دبلجة الأعمال المدبلجة بالفصحى إلى اللهجة المصرية مرة أخرى.
وهنا قد يثور السؤال: هل العامية المصرية هى أقرب اللهجات للفصحى؟.. هذا السؤال عليه خلاف كبير بين العرب، فكل قطر يزعم أن لهجته هى الأقرب، وقد يكون صحيحا أن هناك بلدانا أقرب للفصحى من مصر، لكن هذا القرب يعاود الابتعاد بـ"لكنة" صعبة تعيد هندسة المفردات العربية الفصيحة فتبتعد بها صرفيا وصوتيا عن وضعها الأساسى، أما فى العامية المصرية فالكلمات العربية فيها ـ على كثرتها أو قلتها ـ تنطق كما هى صوتيا وصرفيا، ما يجعلها أوثق اتصالا بالفصحى حتى وإن لم تكن أكثر استعارة منها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة