عندما نتحدث عن المتاحف، فإننا لا نقف عند حدود جدرانها التي تحتضن القطع الأثرية، بل نتجاوز ذلك إلى تجربة متكاملة تستحضر عبق الماضي بجماليات الحاضر، وهذا ما يقدمه المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية في حلته الجديدة، حيث يتفوق في إبداعه الفني وأسلوب العرض المتحفي الذي حوله إلى تحفة معمارية وثقافية.
روح المكان وعبق التاريخ
يقع المتحف اليوناني الروماني في قلب مدينة الإسكندرية، تلك المدينة التي مزجت بين الحضارات لتكون جسرًا بين الشرق والغرب. تأسس عام 1892 ليحكي قصة التفاعل الحضاري بين الثقافة المصرية القديمة والحضارتين اليونانية والرومانية. ومع إعادة افتتاحه بعد تطويره، بات المتحف يمثل نموذجًا متميزًا للمزج بين التاريخ والفن الحديث.
جمال العرض المتحفي: رؤية فنية فريدة
أهم ما يميز المتحف هو أسلوب العرض المتحفي الرائع الذي صممه الفنان العبقري الدكتور محمود مبروك، المصمم العالمي الذي أضفى على المتحف روحًا عصرية دون أن يفقد هويته التاريخية.
تصميم يُحيي المقتنيات
يتسم العرض المتحفي في المتحف اليوناني الروماني بتصميم يبرز جمال كل قطعة أثرية ويضعها في سياقها التاريخي. ابتكر الدكتور محمود مبروك استخدامًا مبتكرًا للإضاءة، حيث تم توزيعها بعناية لإبراز التفاصيل الدقيقة لكل قطعة. تُظهر الإضاءة النقوش على التماثيل بطريقة تضفي عليها حياة وتجعلها تبدو وكأنها تروي قصصها.
رحلة زمنية متكاملة
تم تصميم القاعات لتأخذ الزائر في رحلة عبر الزمن، بدءًا من الحقبة اليونانية، مرورًا بالرومانية، وصولًا إلى التداخل الثقافي الذي جعل من الإسكندرية ملتقى للحضارات. يتميز العرض بالتسلسل السلس الذي يساعد الزائر على استيعاب التاريخ بطريقة ممتعة وغير مربكة.
دمج التقنية بالفن
لم يكن الجمال وحده هو الهدف؛ فقد تم دمج التكنولوجيا الحديثة في العرض بطريقة تُعزز من تجربة الزائر. شاشات تفاعلية تشرح كل قطعة أثرية، وتستخدم تقنيات الواقع المعزز لتقديم رؤية ثلاثية الأبعاد لبعض المقتنيات التي قد تكون تعرضت للتلف بمرور الزمن.
جماليات العرض في التفاصيل
الإضاءة
الإضاءة ليست مجرد أداة وظيفية هنا؛ بل هي عنصر جمالي أساسي. تعتمد على التباين بين الضوء والظل لإبراز النقوش والتماثيل، مما يمنح المقتنيات عمقًا بصريًا. القاعات مظللة بشكل مريح، وتستخدم أضواءً موجهة تبرز جمال التفاصيل.
التوزيع المكاني
اعتمد التصميم على خلق مساحات واسعة بين القطع الأثرية، مما يمنح الزائر شعورًا بالراحة ويتيح له التفاعل مع كل قطعة بشكل فردي. كما أن توزيع القاعات يعتمد على موضوعات محددة، مثل قاعة للآلهة، وأخرى للتماثيل الرومانية، وثالثة للأواني اليومية، ما يجعل الزيارة رحلة ذات طابع قصصي.
الألوان والخلفيات
تضيف الخلفيات المستخدمة في العرض بعدًا جماليًا للمقتنيات. تم اختيار ألوان دافئة مثل البيج والبني الداكن، لتتماشى مع ألوان القطع الأثرية الحجرية والبرونزية. أما القطع الزجاجية والفخارية فقد تم وضعها أمام خلفيات داكنة لإبراز ألوانها.
أبرز قاعات العرض
1. الملوك والأباطرة والآلهة والأساطير
تعرض أعمال مثل التماثيل والنقوش والمناظر للملوك والأباطرة وتلآلهة اليونانية والرومانية مثل زيوس، وأفروديت، وديونيسوس. الإضاءة هنا تخلق هالة حول التماثيل، مما يعكس الطابع الأسطوري لها.
2. الحياة اليومية
تعرض مفردات الحياة اليومية مثل الأدوات المنزلية، والأواني الفخارية، وغيرها في طرق عرض جميلة بديعة. تُبرز طريقة العرض التفاصيل الدقيقة لتلك القطع التي تعكس الحياة اليومية للإنسان القديم.
3. قاعة العملات
تعرض مجموعة مذهلة من العملات المعدنية التي توثق التحولات الاقتصادية في تلك الحقبة. تم تصميم العرض باستخدام زجاج شفاف ومضاء يجعل الزائر يرى كلا الجانبين للعملة بوضوح.
4. قاعة معبد التماسح
تعد من أجمل قاعات العرض في المتحف؛ إذ أنها تحاكي ذلك المعبد في مكانه الأصلي بطريقة عرض مدهشة.
تجربة الزائر
الجمال في المتحف ليس فقط في المعروضات، بل في التجربة الكاملة التي يعيشها الزائر. يبدأ الزائر رحلته برؤية فيديو قصير يشرح تاريخ المتحف ومراحله التطويرية، ثم يدخل إلى القاعات التي تأخذه في رحلة عبر الزمن.
أثناء الجولة، توفر الأدلة التفاعلية المرفقة مع كل قاعة شرحًا دقيقًا، بالإضافة إلى شاشات تعرض فيديوهات توضيحية. وحتى الأطفال يمكنهم الاستمتاع بتجربة مميزة من خلال قاعات مخصصة للتفاعل والتعلم عبر الألعاب التعليمية.
الرسالة الفنية للمتحف
يقدم المتحف اليوناني الروماني أكثر من مجرد عرض للتاريخ؛ إنه يقدم رسالة فنية تؤكد أن التراث الإنساني يمكن عرضه بطريقة جمالية تجعل الناس يشعرون بقيمته. يحوّل العرض المتحفي هنا المقتنيات إلى لوحات فنية تتحدث عن عظمة الحضارات القديمة.
الدكتور محمود مبروك: أيقونة التصميم المتحفي
العبقرية التي أبدعها الدكتور محمود مبروك لا تقتصر على الإسكندرية، بل هو مصمم عالمي وضع بصمته في العديد من المتاحف داخل مصر وخارجها. تتميز رؤيته في التصميم بالابتكار والجمع بين العناصر الفنية والعملية، ليصبح المتحف أكثر من مكان للعرض، بل مساحة تفاعلية تثري الوعي الثقافي والتاريخي.
تحفة من الإبداع الإنساني
يمثل المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية تحفة من الإبداع الإنساني؛ فهو ليس مجرد مكان يحتضن التاريخ، بل تجربة فنية متكاملة تجذب الزائرين من جميع أنحاء العالم. والفضل في هذا يعود إلى العرض المتحفي الرائع الذي يجسد جمال الماضي باستخدام تقنيات الحاضر.
هذا المتحف هو دعوة مفتوحة لكل من يرغب في استكشاف التاريخ بجماله وروعته، حيث تتجلى العبقرية في كل زاوية من زواياه، لتبقى الإسكندرية مدينة للفن والجمال عبر العصور.