كانت التهدئةُ فى لبنان على مرمى حجر، أو هكذا أوحَتْ مواقفُ الطرفين فى بيروت وتل أبيب. ومن ذروة التفاؤل إلى قاع الواقع الثقيل، تبدَّلَ الموقفُ خلال ساعات؛ وبات مقطوعًا بأنه لا هُدنة فى القريب العاجل، ولم يعُد القرارُ 1701 بصيغتِه الحالية صالحًا للتطبيق، أو قادرًا على تطويق جبهة النار، كما لا إمكانيَّةَ لتمرير المُقترحات الإسرائيلية عليه، أكان بإعادة تحرير النص القديم، أم بإرساء ترتيباتٍ عَمليًّة من خارج إطاريه القانونى والإجرائى. لا المكاسب التكتيكيَّة رَوَّضت الاحتلال بشأن أهدافه العالية على الجبهة الشمالية، ولا خسائر «حزب الله» دفعَتْه للنزول عن الشجرة، رغم ما أبداه من مُرونةٍ فى القَبول ضِمنيًّا بالانفصال عن غزَّة، أو السماح لرئيس البرلمان نبيه برّى بأن ينوب عنه فى التفاوض.
وقد تأكَّد عَمليًّا أنَّ نتنياهو لن يُضيِّع فى أمتار السباق الأخيرة، ما تشدَّد فيه طوالَ السنة الماضية؛ بمعنى أنه لا ينظرُ لأذرُع المُمانَعة بمعَزلٍ عن الرأس، كما لا يُحدِّدُ موقفَه منهم جميعًا خارجَ حسابات الانتخابات الأمريكية، وهو إن كان ينتظرُ دونالد ترامب على باب المكتب البيضاوىِّ؛ فإنه يتجهَّزُ بالسيناريوهات الكفيلة بترويض نسخةٍ ثانية مُحتَمَلَة من إدارة بايدن؛ أى أنه يتطلَّعُ بنظرةٍ ثُلاثيَّة إلى نتائج السباق: بين هُويَّة الفائز، ويوم التنصيب، وفاصل الأسابيع العشرة ضِمن مرحلة «البطَّة العرجاء» للرئيس الديمقراطى العجوز.
العَقبةُ فى لبنان أنَّ السياقَ تجاوز كلَّ المحطَّات القديمة، ولم يعُد الرجوعُ إلى الترتيبات التالية لحرب العام 2006 مُقنعًا للجانبين. كلُّ طرفٍ يرى فى ذلك نصرًا للآخر، ويعتبرُه افتتاحيَّةً لإعادة التَّمَوضُع على قاعدةٍ غير مُستقرّة. وإذا كان الحزبُ اعتبرَ نفسَه فائزًا قبل عقدين، وبناءً عليه لم يَقبَلْ بالصِّيغة الأُمَميَّة لإخلاء الجنوب من أيَّة مظاهر مُسلَّحة؛ فإنه اليومَ أكثرُ تشدُّدًا من السابق، بالنظر إلى الأضرار التى طالته جرَّاء حرب «المُساندة والإشغال» لصالح حماس، وثِقَل أن يُقرّ بالهزيمة على معنويات جنوده وأولويَّات راعيه، فضلاً عن الخشية من انسحاب انتكاساته الحربيَّة على مَوقعِه من المُعادلة السياسيَّة فى الداخل.
أمَّا الحكومةُ الإسرائيليَّة فإنها أصابَتْ اليومَ ما استحالَ عليها أمس، ولا تُريد تفويتَ الفُرصة السانحة لإعادة بناء التوازُنات بالصورة التى ترضيها، سواء بالنسبة لتطويق غريمها المُزعج على بُعد خطواتٍ من الجليل، أو استدراك ما فاتها فى التمدُّد الإيرانىِّ الطويل حتى مُستوى التَّمَاس المُباشر بين القوَّتين. والعُنف على شِدَّته لم يُغيِّر شيئًا فى التركيبة القائمة، وصار معلومًا أنَّ الحَسْم وراء الخطِّ الأزرق يبدأُ بالأساس من طهران، والأخيرةُ غير راغبةٍ فى الجولة الفاصلة؛ لكنها تنزلقُ إليها ببُطءٍ، ما يعنى أنَّ الزمنَ قد يكونُ كفيلاً بتقريب ما أبعده التحفُّظ. والفواعل البينيَّة إن كانت عاجزةً حتى اللحظة عن ضَرب المَوعد الختامىِّ؛ فربما تُحدِّدُه الرياحُ الآتيةُ من واشنطن. إنه الترقُّب الذى لا يُبشِّر بشىءٍ فى ذاته؛ لكنه يتركُ الأُمورَ مُعلَّقةً، والمسارات فيها مفتوحةً على كلِّ الاحتمالات.
لم يكُن مفهومًا أن يُبادر «برى»، ورئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتى، بالحديث عن الاقتراب من إبرام اتِّفاقٍ خلال أيَّامٍ أو ساعات، بحسب تعبيرهما، غير مُستنِدَيْن على شىءٍ إلَّا تطمينات المبعوث الأمريكى آموس هوكشتين، بينما كان الرجلُ باقيًا فى واشنطن، بعدما تأجَّلت زيارتُه المُجَدْوَلة سَلَفًا إلى تلِّ أبيب. وإذا افترضنا حُسنَ النِّيّة من جانبهما، أو التفكير بالتمنِّيات والآمال وعلى طريقة «بَشِّروا ولا تُنفِّروا»؛ فإنَّ الخبرةَ السياسية الطويلة للرئيسين لا تُسوِّغُ الانزلاقَ السهل إلى مُربَّع الأوهام، ولا القفزَ على حقيقة المُراوغة الثُّلاثية التى تُمارَسُ فى الملفّ، ولا فارقَ فيها تقريبًا بين واشنطن والحزب والصهاينة، لا فى التناقُض بين الخطابات المُعلَنَة والنوايا المُضمَرة، ولا فى تمرير رسائل دعائيَّة مُتضادّة تمامًا مع الأجندات الخَفيَّة.
والجَلىُّ بعد موجةِ التصعيد الكاسحة منذ الثلث الأخير فى سبتمبر، أنَّ الأطرافَ الثلاثة تتلاعبُ بالمشهد اللبنانىِّ؛ لحساباتٍ بعيدة تمامًا عن أولويَّات الدولة ومصالح شعبها، وكلُّهم لا يُريدون الحربَ الشاملة على ما يُصَرَّح به عَلنًا من جانبهم، لكنهم يسيرون وفقَ كلِّ السُّبل الكفيلة بالوصول إليها، أو فى أحسن التصوُّرات يرفضون إسكاتَ البنادق الآن، لأهدافٍ تتصادَمُ فى الوسائل وتتلاقى فى الغايات، وهو أن تكون الورقةُ اللبنانيَّةُ فاتحةَ الملفِّ الإقليمىِّ على طاولة الإدارة الأمريكية الجديدة، وربما بين العناصر المُحفِّزة لإنتاجها أصلاً، وقد تبيَّن من المُمارسة العَمليَّة أنَّ غزَّة مثلما كانت أوَّلَ الحرب؛ فستصيرُ آخرَها. وكلُّ ما يخصُّ يومَها التالى يتأسَّسُ على اعتباراتٍ «فوق فلسطينية»، ويُجتَهَدُ باستماتةٍ لأنْ يُرسَمَ خارجَ حدود القطاع، وبما يتجاوزُ نكبةَ أهلِه ومَواجِعَهم الوجوديَّة.
ليس عابرًا أن يقعَ اختيارُ بايدن على «هوكشتين» ليكونَ مُفوَّضًا بالتفاهُمات اللبنانية الإسرائيلية، بجانب أدواره الرئيسية كمبعوثٍ لشؤون الطاقة. الرئيسُ يتفاخرُ دومًا بأنه الصهيونىُّ الذى لا يحتاجُ هُويّةً يهوديَّةً ليكون مُخلِصًا لدولة اليهود، ورَجلُه الذى نجحَ سابقًا فى ترسيم الحدود البحرية بإقرارِ «حزب الله» ومن خلفِه إيران، ليس مُجرَّدَ صهيونىٍّ بالاعتقاد والجنسية؛ بل خدمَ فى جيش الاحتلال خلال النصف الأوَّل من التسعينيَّات. وعليه؛ فإنه حينما يأتى من جِهَة واشنطن، لا يكون مُمثِّلاً حَصريًّا للإدارة الأمريكية كما يتستَّرُ بصِفَته القانونية، بل ينتسِبُ لتلِّ أبيب بأكثر مِمَّا ينتمى للولايات المُتّحدة. وخلال الشهور الأخيرة، بدا أقربَ لمندوبِ المبيعات الذى يُسوِّق رؤيةَ نتنياهو، قبل أن يتحدَّث ذئب الليكود نفسُه عنها. لقد حذَّر الساسةَ فى بيروت من تحويل بلادهم إلى غزَّة ثانية، ومن الإنذار المُبكِّر قبل شهور، وكانت الأوضاع الميدانية مُستقرَّة نسبيًّا، إلى المُطالبة الطازجة بإعلانهم وقف إطلاق النار من طرفٍ واحدٍ؛ كأنَّ البيتَ الأبيض يُشرِفُ على الميدان بروحِ القائد الشريك، وليس رجلَ الإطفاء أو الساعى الأمين للسلام.
وعلى الجانب الآخر، لا يُمكن عَمليًّا الحديث عن أجندةٍ وطنيَّة صافية لدى حزب الله. والأمرُ لا يتَّصلُ بالشواهد الماديّة فحسب، مع ما يُمكن أنْ يُساقَ فيها من نزاعاتٍ أيديولوجية وجدلٍ فى الفَهم والتفسير. إنَّ مأثورَ الأمين العام الراحل حسن نصر الله يقطعُ بانتمائه العضوىِّ للجمهورية الإسلامية، وولائه للوَلىِّ الفقيه، وسَعيه الحثيث لخدمة مشروع تصدير الثورة، أمَّا الشاهدُ القاطعُ بما لا يَحتملُ تأويلاً أو مُناكفات؛ فأنْ يستقرَّ مجلسُ شُوراه على نعيم قاسم بديلاً فى سلسلة القيادة، ويُعلَنُ القرارُ إلَّا بعد وُصولِه لأحضان الحرس الثورىِّ فى طهران. صحيحٌ أنَّ وراء المسألة اعتباراتٍ أمنيَّةً، ورغبةً فى تحصين القيادة الجديدة بعدما صارت على رأس لائحة الاغتيالات؛ إلَّا أنه يتعذَّر القَفزُ على الرمزيَّة المَخبوءة فى التفاصيل، وهى أنَّ الشيعيَّة المُسلَّحة لم تَعُد حريصةً على تصدير الفاصل الباهت بين المركز والأطراف، بل تخطَّت محظورَها السابق بشأن تجميع البيض كلِّه فى سَلّةٍ واحدة، ولا تجدُ غضاضةً اليومَ فى المُجاهرة بتأميم الحزب رسميًّا، وأن تستولى على عِمامتِه الأكبر قَولاً وفِعلاً، بينما يقفُ مُستشارُوها العسكريّون على رأس غُرفة العمليات فى الضاحية.
المشهدُ أقربُ إلى «وليمة الضِّباع»، والفريسةُ واحدةٌ؛ أكان فى فلسطين أم لبنان. لكنَّ المشكلة كلَّها فى جاهليَّة الطرائدِ بنَوايا المُفترِسَات، أو احتمائها من ضَبعٍ بآخر. إنها مَعركةٌ على النفوذ بين أُصوليَّتين قاتلتين، وبالضرورة فإنَّ كلَّ ما يعترضُ طريقَهما، أو يختصمُ الأجندات المُلوَّنة على الجانبين، يقعُ فى نطاقِ الأهداف المرصودة، أو على الأقلِّ يُصَنَّفُ تحت لافتة العداء؛ حال استحالَتْ المُواجهةُ المُباشرة أو تعذَّرت ترجمةُ العَداوة فى الميدان. وعلى هذا المعنى؛ فإنَّ كثيرًا من أعمال القتال يُرَادُ بها غيرَ ما يَظهرُ منها، كأنْ يتقَصَّد الاحتلالُ التصويبَ على السُّلطة الوطنية من بوّابة اختصام حماس، أو يُوظِّف الحربَ فى إنهاء ما تبقَّى من ميراث أوسلو وعنوان «حلّ الدولتين»، ويَعمُد لتقطيع ورقة اللاجئين بقذف خناجره على وكالة أونروا. أو أنْ يسعى المُمانِعون لخَلط الأوراق وتفتيح الساحات على بعضها، واختراع كلِّ ما يُمكنُ أن يُقوِّضَ خيارات دول الاعتدال، أو يَستجلِبُها عنوةً إلى جبهة الحرب، وإن لم يكُن بالقتال المُلتَحِم؛ فأقلّه بالأعباء السياسية والدعائية، وهى إن لم تكسرها تمامًا؛ فستضغط على أعصابها، وتُضيِّقُ هامشَ حركتها، ناهيك من إعاقتها عن لَجْم النار ولَعبِ أدوارٍ إطفائيَّةٍ مطلوبة على وجه الاستعجال.
بالفَهْم السابق، لا يُمكنُ الفَصلُ بين دعايات الاحتلال سابقًا بحقِّ مصر والأردن على سبيل المثال، واتِّهامهما بتمرير الأسلحة واللوجستيات للمُقاومة من خلال خطوط الحدود مع غزّة والضفة، وما يُقالُ من جانب ذيول المُمانَعة وميليشيَّاتها الإلكترونية من خطاباتٍ مُضادّة ظاهرًا، ومُتطابِقَة فى المضامين والأهداف. وبالنظر إلى دُوَل الطَّوق، فقد تقاسَمَها الفشلُ والاستتباع كما فى حالة سوريا ولبنان، ولم يتبقّ منها فى نطاق الأمن والاستقرار سوى القاهرة وعمَّان، وإن كان مفهومًا أنْ يكره الصهاينةُ ذلك بأثر الأجندة والعداء الوجودىِّ؛ فالغريب أن يُصوَّبَ على البلدين من جِهَة الأصوليّة الإسلاميَّة وميليشياتها، بالاستفزاز والتهييج حينًا، وبالشائعات والتزييف أحيانًا. ولا يُفهَمُ السلوكُ إلَّا على صورة البحث عن محرقةٍ إقليميَّة، تعذّرت فى السابق على «طوفان السنوار»، ولم تتوقَّف مُحاولات اختراعِها من وقتها بكلِّ الوسائل الخفيّة والظاهرة، أو أنَّ الدافعَ وراء الاستهداف المحموم لا يختلفُ عن فلسفة إسرائيل، والصراع هنا ليس على حقٍّ وباطل، بل على أىِّ الباطلين يعلو ويتسيَّد المنطقة. إذ لا فارقَ جوهريًّا بين عَدوٍّ يتسلَّطُ على فلسطين، وآخر أراقَ دماء ومُقدَّرات أربع عواصم عربية، ويطمع فى المزيد، ولا يختلفُ عن غريمه إلَّا فى أنه يدّعى الصداقة، ويستعيرُ رايةَ القضيَّة للتغطية على راياته الشخصية.
فى الساعات الأولى بعد الطوفان، رفعت حماس عقيرتها طَلبًا للإسناد من جانب المُمانعة، ودعت الجمهورية الإسلامية بالأصالة إلى الوفاء بالعهود وتفعيل «وحدة الساحات». بعدها استُدعى الراحل إسماعيل هنيّة إلى طهران، وتردَّد أنه تعرَّض للتوبيخ، وطُولِبَ بإسكات الخناجر الزاعقة على قُدس المُمانَعة ومعقل مرشدها. وبعيدًا من النفى؛ فإن الوقائع التالية أكَّدت ما سِيقَ من أحاديث، وسكت المُلثّم «أبو عبيدة»، ولم يُصدر محمد الضيف بيانات بنكهة فارسية، وانتقلت الحركة من صِفَة المُناشدة لإيران، إلى حال المزايدة ضد المملكة الأردنية، على ما قال خالد مشعل فى مقطع مُصوَّر سعى فيه لتأليب الشارع، ولم تتوقف المنصَّات الحماسية عن استقبال وترداد كل ما يقع فى نطاق الشائعات، ويمسّ الحزام العربى بكامله تقريبًا؛ باستثناء عاصمتين أو ثلاثٍ يتستر القادة بإحداها أو يطمعون فى أموال الباقيتين. والحال؛ أن المُكابرة فى الاعتراف بالخطأ تقود إلى الإنكار ومزيدٍ من الأخطاء، بينما يُقاد نتنياهو بالنجاحات السهلة نحو التشدُّد، وتعلية السقف، والبحث عن نهايات رومانسية سعيدة لم يكن يتخيَّلها قبل مُغامرتى الطوفان والإسناد، بينما حالُ خصومِه يُشبِه المُقامرَ على طاولة اللعب، وقد خسرَ جُلَّ ثروته، وينقادُ بوَهم التعويض فى اللحظة الأخيرة، أو بنزعةٍ انتحاريّة يُحرِّكها وسواسٌ ذاتىٌّ أو خارجىٌّ يطلبُ «الكُلَّ أو لا شىء».
صِرنا على مسافةٍ تسمحُ بالمُقاربة من دون أوهامٍ أو انفعالات. وسواء أرادَ «السنوار» تنشيطَ القضيّة أم تأبيدَ احتكارِها لحساب حماس؛ فالمُحصِّلة أنه وصلَ بها لأسوأ مِمَّا كانت عليه، وبدَّد أُصولَ الحركةِ ومركزَها المعنوىَّ فى القطاع، وربما فى البيئة الفلسطينيَّة إجمالاً، ولم يستفِدْ من نزوتِه غير المحسوبة إلَّا الاحتلال، وربما إيران بقدرٍ أقلّ.. صار هامشًا أن نتحدَّث عن القَصد والاعتباط فى العملية، وهل أُريِد لها أن تكونَ على هذا الحجم، أم تضخَّمت عشوائيًا باندفاع المقاتلين وإغراءات الانكشاف، كما لم يعُد مُمكنًا الجَزمُ بالمُفاجأة أو التفويت، خصوصًا مع عديد التسريبات عن رَفع تقارير أمنيَّة للمُستويَيْن العسكرىِّ والسياسى، بشأن التحرُّكات المُرِيبة فى القطاع. باختصار؛ كان الهجومُ نِتاجَ حالةٍ عميقة من اليأس، لا إزاءَ الاحتلال وسياساته حصرًا؛ بل تجاه الشعور بالتجاوز والخذلان من جانب الحُلفاء والأصدقاء. كان على صفقة المليارات والأسرى بين طهران وواشنطن، والخوف من صفقةٍ أمريكية تُحيِّد المُمانَعة جزئيًّا فى الزمان أو المكان. مثلما كان على التقارُب الإيرانِّى السعودىِّ، ثمَّ على حديث الاقتراب من التطبيع مع المملكة، وصعود حالة التفاهُمات الاقتصادية بديلاً عن التسوية السياسية، لا سيَّما مع طَرح مشروع المَمرِّ الهِندىِّ عبر الخليج وحيفا وُصولاً إلى الشاطئ الأُوروبىِّ.
على أى مقياس عاقل، لا يمكن افتراض أن حماس ستكسب حربها الدائرة مع الاحتلال، وقد دخلتها أصلا دون تأمين أى طريق بديل للخروج منها. وليس من صالح القطاع أن يمتد العدوان لحظة إضافية، وما يُرفض اليوم سيكون مستحيلا فى الغد، مثلما يستحيل حاليا ما كان متاحا فى السابق. والمسألة بالنسبة للحزب لا تختلف كثيرا، بعدما اختُرقت قواعد الاشتباك، وسُحب فى غفلة وبسوء التقدير إلى نطاق تصفية الحسابات، القديم منها قبل الجديد. وبينما يتعذر الحسم على أى منهما فى الميدان، وينتظران الدخان الأبيض من صناديق الانتخابات الأمريكية؛ فإن حالة الترقب والاستشراف تفرض إبقاء الميدان ساخنا، ما يعنى أنه ليس فى صالح المحتل أو الممانع الوصول لتسوية فى الوقت الراهن، حتى يكون متاحا لهما ما يبرر التصعيد أو يستحق التفاوض عليه والمقايضة به لاحقا، وبطبيعة الحال فإن ما يُراق من دم الآن فى غزة ولبنان، يضاف مباشرة لحصالة الرصيد المعلق بين تل أبيب وطهران.
يختصمُ نتنياهو والمُرشِدُ فى هُويَّة الرئيس الجديد، وبينما يسعى الأوَّلُ لاستعادة «الترامبية» فى أعلى مراحل صخبها، يتعشَّمُ الثانى فى ولايةٍ رابعة بنكهةٍ أوباميّة كالتى أنجزت اتفاق 2015. وكلّ ما يفعلانه يُؤدِّى إلى الاحتمال وعكسِه فى الوقت ذاته؛ إذ ارتدَعَتْ الحكومةُ الإسرائيلية عن التصعيد فى رَدِّها على إيران بضغوطٍ أمريكية؛ خوفًا من أثره على حظوظ كامالا هاريس، بينما عادت الجمهورية الإسلامية للحديث عن الردِّ على الردّ، بعدما كانت تعهَّدت بامتصاص أيَّةِ ضربةٍ محدودة وتمريرها. ولا معنى للمُناكفة هُنا؛ إلَّا أنهما يتّفقان فى الوُجهة وإن اختلفت محطّة الوصول، بالضبط كما قال وزير الخارجية الإيرانى الراحل حسين عبد اللهيان، إن ما يجمعهم مع تلّ أبيب هو الرفض الكامل لحلِّ الدولتين. وانطلاقًا من التوافُق على إزاحة الهامش السياسىِّ الوحيد لتسوية القضية؛ فكأنهما يختصمان فلسطينَ نفسَها، ثمَّ البيئةَ العربيةَ الداعمة لها. وتلك الخصومةُ ستُنتج بالضرورة تضييعًا لآفاق الهُدنة، وإثارةً للغُبار فى سماء المنطقة، بالمُزايدة والتضليل وتلفيق الأكاذيب والادعاءات؛ إذ يصيرُ الغرضُ أن تبقى النارُ مُتأججةً، وأن يُنفَخَ فيها بكلِّ الصُّوَر لتتمدَّد فى بقيّة الأرجاء، وطالما يتعذَّر الهبوطُ الناعم، فقد تُصوِّرُ الخيالاتُ المريضة لأصحابها أنَّ الحلّ فى الاحتراق الشامل.
إن فازتْ هاريس؛ فسيتخيَّلُ الملالى أنهم على مَوعدٍ مع الصفقة المأمولة، والأمل فيها محصورٌ فى مصالح الشيعيَّة المُسلَّحة جغرافيًّا، وآفاق المشروع النووى، والاعتراف بالجمهورية الإسلاميّة شريكًا مُباشرًا على طاولة تقسيم المنطقة أو الشراكة فى إدارتها. بينما سيعتبرُها نتنياهو إشارةً للفوز بما أراده من الإدارة القائمة، بعدما يتحرَّر بايدن من مسؤولية التأثير على الحظوظ الديمقراطية، ويُصبحُ قادرًا على التعبير عن نواياه العميقة وصهيونيته المُتجذّرة، دون حساباتٍ سياسية أو انتخابية. أمَّا بفوز ترامب، وهو الأرجح حتى اللحظة، فسَيسنّ ضباعُ تل أبيب أنيابَهم لاستقبال الحليف المُفضَّل، مع نفس الاحتمالية بأن يرفع «بايدن» السقفَ؛ حتى يُورِثَ غريمَه الفائزَ أوضاعًا شديدةَ الالتهاب والتعقيد.
حِسبةُ طهران فى الحالين سيئة؛ لذا لا يُفهَم سِرُّ التشدُّد طوالَ الشهور الماضية، بالحنجوريَّات الباهتة أو بإبعاد بتقويض خيارات حماس والحزب للتهدئة؛ إلَّا أنها تدّخرهما تحت صِفَة القاعدة المُتقدّمة، أو كبش الفداء المُؤجَّل. يعرفُ الصهاينةُ أنهم لا يستطيعون إعادةَ رَسم الشرق الأوسط كما أعلنوا؛ طالما ظلّت الحاضنةُ العربية العاقلة على صلابتها، ويُوقِنُ المُمانِعون أنهم بعيدون من النجاة إذا لم تتَّخذ الحربُ الدائرةُ طابعًا مُعَمَّمًا على الجميع؛ لذا تروجُ الشائعات، وتنشطُ الميليشيَّات الدعائية بأكثر من نشاط نظيرتها المُسلًّحة، ويُراهِنُ العَدوَّان الصاخِبان على توسِعَة الحلبة، واستدعاء الطرف الوحيد الذى يكشفُ سوءاتهما معًا. باختصارٍ؛ كان «الطوفان» حربًا على الحالة الإقليمية القائمة، بأكثر مِمَّا هى على الاحتلال، وما تزالُ ارتداداتُه جاريةً تحت العنوان نفسِه، وكلّ طرفٍ فيها يسعى للهروب على حساب الآخرين، بينما يدفعُ الغزّيون واللبنانيون فاتورة الصديق النَّزِق والعدوِّ المجنون، وتلك أسوأ نُسخةٍ من الدراما حينما تختلطُ فيها المأساة بالمَلهاة، وتُدبِّج السرديَّات المُحرَّفةُ سطورَها من شرايين الأبرياء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة