كانت شهرة الشيخ محمد السنباطى منشدا ومطربا تعم قرى المنصورة ودمياط، وأثناء ذلك استقبل مولوده «رياض» يوم 30 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1906، فى بلدة فارسكور بدمياط، الذى سيصبح أحد أعظم رواد الموسيقى العربية.
يذكر فيكتور سحاب فى كتابه «السبعة الكبار فى الموسيقى العربية»، أن الشيخ محمد السنباطى كان مقرئا يغنى فى الأفراح والأعياد الدينية بقرى المنصورة والبلدات المجاورة، وتفتحت أذنا «رياض» على أبيه يعزف العود، ويغنى الغناء الأصيل والتواشيح الدينية، فلما بلغ التاسعة، ضبطه والده عند جارهم النجار هاربا من المدرسة يضرب على العود، وسمعه يغنى أغنية الصهبجية «ناح الحمام والقمرى على الغصون»، فطرب له وقرر أن يصحبه معه إلى الأفراح، واشتد عوده فى الغناء وباعا فى العزف.
يشير «سحاب» إلى أن موهبة رياض تفتحت مع عهد كان خاتمة سلامة حجازى، وفاتحة سيد درويش، وكانت لمصر دنياها، وللأرياف دنياها، لكن ظهور الأسطوانة والفونوغراف سنة 1904 أمكن الصلة بينهما، فاستمع الفتى رياض إلى عبدالحى حلمى ويوسف المنيلاوى وسيد الصفطى، وأبوالعلا محمد وغيرهم، لكن أستاذه الأول كان والده الشيخ محمد فى أغنيات لمحمد عثمان وعبده الحامولى.
يكشف «رياض» أسرار هذه المرحلة التى تعد اللبنة الأولى فى تكوينه الفنى، فى حوار نادر أجراه الكاتب الصحفى لطفى رضوان، ونشرته مجلة الكواكب، عدد 73، 23 ديسمبر 1952، قائلا: «أمضيت سنة واحدة فى المدرسة المتواضعة بالمنصورة ثم هربت منها، بعد أن تعلمت مجرد فك الخط، هربت لأنى كنت أحلم بالعيش فى ظلال النغم وروائعه، وفى الجو الموسيقى الذى ولدت فيه، وكنت أقول لنفسى: اختصر يا رياض الطريق وابدأ حياتك مبكرا لئلا يفوتك القطار، ولن ينفعك العلم وقتها».
يؤكد أنه لم يندم على ما فعله، فالمدرسة التى دخلها وجعلت منه رياض السنباطى هى مدرسة الحياة، ويوضح، أن هروبه من المدرسة فى سن العاشرة، وسكوت والده كان بسبب مرض فى أعصابه، يذكر: «كنت إذا أمسكت بالورقة والقلم أحسست بدوار، وبضباب يلف عينى، وقال الطبيب لوالدى: إن وجودى فى المدرسة خطر على بصرى، وعلى حياتى كلها، وقلت لنفسى «بركة يا جامع»، واندمجت فى الوسط الذى يعيش فيه والدى، وكان مثلى الأعلى فى الموسيقى والطرب، ويتمتع بشهرة كبيرة فى فارسكور والمنصورة والبلاد المجاورة، وكانت مجالسه كلها مقصورة على الطرب والفن والأدب، وكان ضمن زائرينا الشيخ سيد درويش، والشيخ أبوالعلا محمد، وعبدالحى حلمى، وغيرهم من أساطين الغناء، وأحسست بميل شديد إلى تعلم العزف على العود، فتتلمذت على يد الشيخ شعبان، وكان عوادا ماهرا، وذائع الصيت ليقولوا عنى بعد ثلاث سنوات إننى عازف ماهر، وانضممت إلى تخت أبى».
يضيف «رياض»: «بلغت السادسة عشرة من عمرى، وحوشت ثلاثة جنيهات، فقررت الرحيل إلى القاهرة، إذ أحسست أن المنصورة لم تعد تتسع لآمالى بعد أن شهد أهلها بصلاحية ألحانى، وحزمت متاعى القليل، وركبت أول عربة بقطار الدرجة الثالثة للقاهرة، ومنه إلى فندق «المنصورة الكبرى»، وكان يملكه رجل من بلدنا اسمه سيد راشد، وبدأت وعودى فى يدى البحث عن عمل، وفكرت فى الالتحاق بمعهد الموسيقى، وما إن استمعوا إلى عزفى على العود حتى عينونى مدرسا للعود فى المعهد بستة جنيهات شهريا، ولكن هذه الجنيهات بدأت تتضاءل إزاء مطالب المدينة، وكان على أن أبحث عن مورد إضافى».
يذكر: «طرقت باب إحدى شركات الأسطوانات، ولما كانت نزعتى الأولى دينية، أجدت تلحين أغانى الحجاج ومدح الرسول، وسجلت أول أسطوانة: «امتى نعود لك يا نبى»، وغناها أحمد عبدالقادر، ولقيت شهرة واسعة، وبدأت النقود تنهال على بمعدل عشرة جنيهات للأغنية، وتعاقدت على 12 أسطوانة فى السنة تدر 120 جنيها، وعشت أتذوق فنا تتناقله الأفواه، وأتذوق الكنافة والقطايف، وأطايب الطعام والشراب بفضل ألحانى وشركة أوديون، وطلبوا إلى تلحين فيلم «وداد» لأم كلثوم، فلحنت «على بلد المحبوب ودينى»، ولم تكن أم كلثوم هى التى تغنيها فى الفيلم، بل مطرب آخر، وما أن أحسست بالنجاح الشعبى الذى لقيته حتى عبأتها على أسطوانة بصوتها، وبدأت علاقتى بها».
وعن الوقت الذى يستغرقه فى اللحن، وكيفية وضعه، يقول: «لحنت لأم كلثوم «سلوا قلبى» فى ساعتين، و«ولد الهدى» فى اثنى عشر يوما، وهذا يتوقف على موعد تشريف الوحى، وأنا أعشق غروب الشمس، وانتظره كل يوم لأبدأ فى استجداء الوحى، فأجلس فى حجرتى، وجوارى آلة التسجيل، من الغروب حتى الفجر، ألحن وأعزف، ثم أستمع إلى ما لحنته وغنيته من آلة التسجيل، حتى أشعر بالنعاس، وتثقل جفونى، فأنام وعودى إلى جوارى».
وعن قراءته للشعر وتذوقه للأدب، يقول: «أقرأ من «الشوقيات» كثيرا، وأدرس كل حرف فى الأغانى التى تقدم إلى لتلحينها، وأعيش فى جو القطعة الأدبية قبل أن أبدا تلحينها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة