إذا كان العالمُ يتطلَّعُ لأجواء الانتخابات الأمريكية بعَينٍ؛ فإنَّ الشرقَ الأوسط يُراقِبُها بكلِّ العيون والآذان، وبأعلى مستويات اليقظة والانتباه. لطالما كانت العثرةُ فى واشنطن سقوطًا فى عديدٍ من الأرجاء؛ لكنها صارت اليومَ أهمَّ وأخطرَ من كلِّ المحطَّات السابقة؛ إذ لا تتأسَّسُ عليها سياساتٌ جديدةٌ ستبدأُ استكشافَ الفُرَص واللعب فى إعدادات المنطقة، بقدرِ ما تتَّصلُ بالدخول على خَطِّها فى واحدةٍ من أشدِّ فتراتها رخاوةً وتحسُّسًا، بينما أغلقَتْ حربُها المُطوَّقَة جُغرافيًّا حتى الآن عامًا صاخبًا، وتستقبلُ مرحلةً أكثر صخبًا وإنذارًا بالانفلات وتَوَسُّع حزام النار.
وما يزيدُ الأمرَ أهميَّةً، أنَّ الحلولَ الذاتية نفَدَتْ من أيادى الطرفين المُتحاربَين، وكلاهما يُهندِسُ تكتيكاته الوقتيَّة بما يُناسِبُ سياقَ الإحلال فى البيت الأبيض، ويبنى استراتيجيَّاته على مُخرجات السباق والأجندة التى ستترشَّحُ عنه. وبعيدًا من التحفُّز المُتبادَل بين الصهيونية المُتوحِّشة والشيعيَّة المُسلَّحة؛ فإنهما عاجزان عن الحَسْم أو ترسيم حدود الصراع، ويقولان إنهما لا يرغبان فى المُواجهة الشاملة، بينما يسيران إليها بالقصدِ أو التورُّط، ويُعلِّقُ كلٌّ منهما آمالَه على نسخةٍ بعَينِها من الإدارة، طمعًا فى الصِّدام الآمن أو فى تأهيل الأجواء للنزول عن الشجرة. والمفارقةُ أنهما يُعوِّلان على الولايات المُتَّحدة؛ بينما تمرُّ من أضيق القنوات فى تاريخِها السياسىِّ، ولا تجدُ مَنْ تُعوّل عليه، وقد يقودُها ذلك للانحراف عن ثوابتِها القديمة، وتوظيف القضايا الساخنة بأسوأ الصُّوَر المُقترَحة بالنسبة لأصحابها، ولمصالح القُطبيَّة الانفراديَّة التى تتلقَّى الضربات من كلِّ الاتجاهات، وأقساها على الإطلاق من الداخل.
ما كان فى خيال «السنوار» وهو يُطلِقُ طوفانَه قبل ثلاثة عشر شهرًا، أنَّ أمواجَه ستتلاطَمُ حتى موعد الانتخابات، وستكونُ جردةُ الحساب فيها لصالح أسوأ الخيارات بالنسبة للقضية الفلسطينية، أى المُفاضَلة بين إدارةٍ جاهَرَتْ بالصهيونية وأُخرى تُمارسها فى أفدح صُوَرِها. ولعلَّ الرجلَ كان يتوهَّمُ أنَّ فُسحةَ السنة كافيةٌ لإنجاز المهمَّة، ثمَّ الضغط على أعصاب «بايدن» لتصفية الجولة وإغلاقها طمعًا فى الولاية الثانية، بمعنى أن يفوز بالرسالة، ويُثَمِّر فاتورةً زهيدةً من الدم لرصيد الدعاية والسياسة، فيخرج من الجولة بأثرِ المُبادَأة، ورمزيّة المقاومة الفاعلة، وبإبرامِ تعاقُداتٍ تُؤكِّدُ انفرادَ «حماس» بالقضية، وصلاحيتَها لأنْ تنوبَ مُستقبلاً عن السلطة الوطنية.
المُفاجأةُ جاءت من ناحية نتنياهو، وقد خاضَ فى الطوفان بمنطقٍ يكادُ يُطابق ما اعتمدَه القائدُ الحماسىُّ، وخُلاصتُه كَسرُ الأُطر المُعتادة للصراع، وتحريك المُعادلات بأشدِّ الطُّرق خشونةً، والانقلاب الكامل على الصورة النمطية لدى الغريم. الحركةُ أثبتت أنها ليست مُرتدِعةً كما يتوهَّمُ الاحتلال، وأنَّ المنافعَ المادية والسياسية لم تُحقِّق لها الإغراء المُشبِع، والكفيل بالترويض والتطويع. أمَّا رئيسُ الحكومة المتطرفة قوميًّا وتوراتيًّا؛ فأكَّدَ أنه لم يَعُد الشخصَ الذى أبرمَ صفقة شاليط، وبإمكانه أن يُدير حربًا خارج التوقُّعات، وبقَطيعةٍ تامَّة مع الاستراتيجية العسكرية الراسخة للدولة، أكان فى الزمان والمكان، أم فى تعدُّد الجبهات واحتمال التكاليف المادية والبشرية الباهظة. والصدمةُ التى تحقَّقت على أيدى القسَّاميِّين فى غلاف غزَّة، بدت لاحقًا كأنها لعبةٌ طفوليَّة، بالقياس إلى الصدمات التى فجَّرتها إسرائيلُ فى القطاع، ومنه إلى عددٍ من ساحات المُمانَعة.
كان الهجومُ كاسحًا وغيرَ اعتيادىٍّ بالكُلّية، ما أثار الهلعَ فى واشنطن لدرجةِ أن يُسجِّل الرئيسُ سابقةً تاريخية، بزيارةِ جبهة القتال وحضور مجلس الحرب لدى دولةٍ أُخرى، ومن بعدِها تقاطَر فريقُه اللصيق فى جولاتٍ لم تنقطع، بلغت إحدى عشرةَ زيارةً للمنطقة من وزير خارجيته أنتونى بلينكن، وأعداد مُقارِبة من القادة العسكريين ومدير الاستخبارات المركزية ومستشار الأمن القومى والمبعوث الرئاسى للبنان. وبعيدًا من ضخامة الحدث وارتداداتِه؛ فإنَّ أحداثًا أكبر ومعاركَ أشدَّ ضراوةً مرَّت على الولايات المتحدة، ولم تُربك رأس السلطة فيها، ولا تركت أثرًا ظاهرا على بيئتِها السياسية.
يُمكن القول إنه منذ وصول «بايدن» إلى تلِّ أبيب قبل سنةٍ وبضعة أيَّام، صار المشهدُ الإقليمىُّ مُكوِّنًا أساسيًّا بين أوراق الانتخابات الأمريكية؛ لا سيَّما أنه لم يفعلها مع الجبهة الأوسع والأكثر إزعاجًا بين روسيا وأوكرانيا، وأنَّ الدولةَ العِبريَّة كانت دائمًا مَنصَّةً للمُزايدة والاستقطاب بين الحزبين، وقد نجحت حكومتُها اليمينيَّةُ فى تسويق سَرديَّة الخطر الوجودىِّ، وترسيخها بالتدرُّج على جبهة لبنان، وصولاً إلى استدعاء إيران بالأصالة، وإنهاء عقدين على الأقل من التخفِّى ومُراوغات حروب الظلِّ. وما ضاعفَ من مَردود الهَبَّة الليكودية، أنَّ المُرشَّح الجمهورىَّ الطامع فى تسجيل عودةٍ استثنائية بعد الموت، تقافز على موجَتِها، وأجادَ استثمارها، وصار قادرًا؛ ولو بدرجةٍ نسبيَّة، على إنجاز الرقصة المُستحيلة بين تيَّارين مُتناقِضَين تمامًا.
كان لافتًا أنْ يظهرَ «ترامب» فى ولاية ميشيجان، بين حشدٍ من الأمريكيين المُسلمين وذوى الأُصول العربية، وأن يُعلِنَ عددٌ كبيرٌ منهم، وبينهم رجالُ دينٍ مُحافظون، دعمَهم للرجل الذى نقلَ سِفارتَه إلى القدس، واعترف بضَمِّ الجولان، وأغلقَ مكتبَ مُنظَّمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن، ويتحدَّثُ عَلنًا عن مساحة إسرائيل الضيِّقة، ودعمِه لتوسِيعها. وبالدرجةِ ذاتها؛ لا يغيبُ عن رادار التيَّارات المسيحانيَّة وجماعات الضغط اليهوديَّة، ويكفيه أنَّ الائتلافَ الصهيونىَّ الحاكمَ ينشطُ بكلِّ الصُّور ضمن حملته، إنْ من خلال الاجتماعات غير الخَفيَّة فى تلّ أبيب، أو حركة أيباك وغيرها فى واشنطن، وامتناع نتنياهو عن تقديم الهدايا للديمقراطيين، بالتهدئة أو بكَبْح التصعيد.
يقولُ الجمهورىُّ اللاذعُ إنه لو كان فى الحُكم ما اندلعَتْ الحربُ أصلاً، وإنه قادرٌ على وَقفِها، ولا يشرحُ الآليَّةَ أو يُقدِّمُ تصوُّراتٍ مُقنعةً؛ لكنها طبيعةُ مناخاتِ الاستقطاب التى لا تتوقَّفُ طويلاً أمام التفاصيل، ولا تعنيها الأسئلةُ المنطقيّةُ العاقلة. وفى المُقابل؛ أحرقَ «بايدن» كلَّ أوراقه مع الطرفين: ساند العدوانَ حتى خَسِر العرب، ومارس ضُغوطًا غير جادة ولا مُثمِرَة على المُعتدِى؛ حتى بدا كأنه فى خصومةٍ معه، فتآكلَتْ صورتُه الصهيونية رغم كلِّ ما قدَّمَه لتثبيتها. والسقطةُ نفسُها ارتكبتها نائبتُه فى الرئاسة والترشُّح؛ إذ حاولت كامالا هاريس أنْ تُمسِكَ العصا من المُنتَصَف؛ فلا أرضَتْ القاتلَ ولا أوقَفَت نزيفَ القتيل، فضلاً على تعلية الحواجز مع الشباب والتقدُّميِّين من حزبِها. والخُلاصة أنَّ المُواجهةَ التى أشعلها يحيى، وسَعَّرها بنيامين، ونفخ «جو» فى نارها، يُمكن القول بعقلٍ باردٍ إنها صَبَّت فى رصيد دونالد.
الأمة الأمريكية انغلاقيّة فى وجهها العريض. الدولة مُنفتحة على العالم، وتُدير شؤونه انفراديا فى آخر أربعة عقود على الأقل، وصدَّرت له العولمة على معناها الامبريالى فى تسييد نموذجها الثقافى؛ لكن الغالب على جمهورها أقرب إلى الطبيعة الجُزرية المطوقة بالماء. فلا يعرفون عن الخارج إلا ما يُساق لهم عبر إعلام مُلوَّن بتوجهاته السياسية، ومصالحه الاقتصادية، ولا يضعون فى اعتبارهم أمام صناديق الاقتراع إلا قضايا الداخل، ومنافعهم المُباشرة ممن يُنتدبون لإدارة شؤونهم. وهكذا يُقيّمون المُرشحين ويُفاضلون بينهم من مُنطلقات ذاتية ضيقة للغاية، والسباق الراهن تتقدَّمه حزمة عناوين بارزة: الاقتصاد، والهجرة، والإجهاض. والسبق فى الأوليين لترامب، وفى الأخيرة لهاريس؛ لكن القوقعة التقليدية انفلقت على وقع الهياج الشرقى، وصار الاهتمام بالسياسة الخارجية أعلى من السابق، وإن أضفنا هذا المُتغيّر إلى عوامل التقييم؛ فربما لا يكون فى صالح الإدارة الديمقراطية القائمة.
أنهى «ترامب» الوجودَ الأمريكىَّ فى أفغانستان بالاتفاق مع حركة طالبان؛ لكنَّ بايدن دفعَ فاتورةَ إنفاذِه عَمليًّا، وسُجِّلت عليه مآخذُ عديدةٌ بشأن فوضى الانسحاب، والخسائر المادية والبشرية المُوجِعَة، والتخلِّى عن مئات آلاف المُتعاونين الذين تُرِكُوا فريسةً للحركة المُتشدِّدة. ومن يَومِها، يبدو الرئيسُ العجوز كأنه يتكبَّدُ أعباء الإدارات السابقة كلِّها، ديمقراطيّة وجمهوريّة، وتقتصُّ منه «الكارما» بعدما وَظَّف جائحةَ كورونا ضدّ غريمه؛ فتفجَّرت كلُّ الملفات والبيئات المُلتهِبة لعقودٍ طويلة بين يديه. وبقدرِ ما تصلحُ المُصادفة للتفسير أحيانًا؛ فلا يُمكن القفز على وجاهة أنه كان سببًا مُباشرًا؛ بما أبداه من رخاوةٍ وضَعف.
اندلعَتْ حربُ أوراسيا فى وجوده، وبدا بطيئًا ومُرتبكًا فى تعاطيه معها، ثمَّ كان الانفجار العظيم فى فلسطين، واتِّساع مَداه بعَرض المنطقة وطُولها وصولاً إلى طهران. وبعدما كان يُبشِّر فى برنامجِه لسباق 2020 بالعودة إلى الاتفاق النووىِّ، وأبرمَ صفقةً مع الجمهورية الإسلامية، أعادت لها مليارات الدولارات واستردَّت عِدَّة مَسجونين لديها، وجدَ نفسَه مَطلوبًا لميدان القتال على مِيقات نتنياهو وأشراطه؛ فلا أجادَ الحفاظ على تسويات أوباما التلفيقيّة الباهتة، ولا أظهرَ بأس «ترامب» كما فى تمزيق الاتِّفاق وتصفية سليمانى واستراتيجيّة الضغط الأقصى. ومن طبائعِ الأُمور، أن ينتقلَ مِيراثُه كاملاً إلى كامالا هاريس، بحسناتِه إنْ وُجِدَت، وبسوءاته التى تفوقُ الحَصر.
لم يكُن صعودُ قُطِب العقارات إلى واجهة المشهد السياسى عفويًّا، أو لثغرةٍ فى جدار التاريخ. لطالما كانت الولايات المُتَّحدة فاتحةَ كلِّ شىءٍ، ومنها تجىءُ المباهجُ والمُنغِّصات على حدٍّ سواء. والنظرُ اليومَ إلى الموجة اليمينيَّة المُتعالية فى أوروبا، يمنحُ انتخابات 2016 معنىً مُغايرًا لِمَا كانت عليه، ويُقدِّمُ تفسيرًا للمشهد الراهن أعمقَ من فكرة الطموح والانفلات فى شخص المُرشَّح الجمهورىِّ. إنه انعكاسُ الفَوَران العَولَمىِّ بعدما عاد بتأثيراتٍ مُزعجةٍ لمُنشئيه، فقادَهم لأقسى رِدَّةٍ وطنيَّة نحو المُحافظة والحِمائيَّة. وعلى هذا المعنى؛ فالخطرُ ليس فى ترامب ولا السباق الحالى، بل فى المستقبل واستحقاقاته المَخبوءة وراء تسيُّد القوميّات، وارتفاع تقديس الذات وإنكار الآخر بالكُلّية، وهو ما يتجاوزُ زمنَ التسلُّط السياسى وإدارة العالم بقبضةٍ عارية؛ لأنه وإن كان يتخلَّى عن المُواجهات الخَشِنَة لصالح صيغةٍ من الحروب الناعمة، يبدو كأنه ينتقلُ من الاشتباك مع الخصوم من مَوقع المعرفة والتقدير، إلى إنكارهم أو الشَّطْب عليهم؛ ولو مَعنويًّا.
وما فات، يتلاقَى مع النسخة الفجَّة من الاستيطان الإحلالىِّ لدى إسرائيل، والصادمُ أنَّ الجبهةَ الليبراليَّة صارت تتزحزحُ فى الاتجاه نفسِه، حتى أنَّ المُرشَّحة الديمقراطيَّة تكاد أن تتطابقَ مع غريمِها فى كثيرٍ من مسائل الاقتصاد والأيديولوجيا، وربما يمنعُها اللونُ من أن تكون عنصريَّةً إلغائيَّةً؛ لكنَّ مُقدِّماتها فى المُمارسة العَمليَّة تَشى بتآكُل الفوارق بين اليمين واليسار، وبانطباعِ بَصمةٍ من التحفُّظ والنفاق الشعبوىِّ على وُجوه التقدُّميِّين وخطاباتهم، قد لا تبدو واضحةً اليوم بقوَّةٍ؛ لكنَّ الوقتَ لن يطولَ قبل أن يكونَ الجميعُ تنويعةً على لحنٍ جمهورىٍّ واضح، أكان بأثرِ الصَّخب النخبوىِّ والسعى لمُعادلتِه، أم بأطماع الاتِّصال والتجاوب مع الشارع المُتحرِّك جهةَ اليمين.
الفلسفةُ اليساريَّة فى الولايات المتحدة أقربُ للثقافة من الاقتصاد؛ لكنها ظلَّت طوالَ الوقت فوقَ حدِّ الرأسمالية الصارخة. وبينما تنقلبُ كامالا على نفسها فى كثيرٍ من العناوين، وعجزَتْ فى مُناظرتِها مع ترامب عن تبرير الاحتفاظ بالرسوم الجمركية التى فرضَها ولم يَلغِها بايدن وإدارته؛ فإنها تُقدِّم صورةً انتحاليّة يبدو المنافسُ فيها أكثرَ أصالةً ووضوحًا. وهو ما يتكرَّرُ فى التعاطى مع بقيَّة الجروح المفتوحة، من الهجرة والرعاية الاجتماعية إلى الصراعات وقوائم الأعداء والحُلفاء.
يرقصُ السياسىُّ الأبيضُ رقصتَه المعروفةَ دون خجلٍ أو مُواءمة، والسيدة المُلوَّنة تتعثَّرُ فى خُطواتِها بين المُتناقضات، باستثناء موقفِها الواضح من قضيَّة الإجهاض. وعليه؛ فإنهما لا يختلفان مُطلقًا بشأن إسرائيل؛ إلَّا فى اللغة ونبرة الصوت، كما لو أنه اختلافُ الطُهاة فى إعداد طبقٍ واحد. وإن كان التماثُل هُناك لا يجعلُ هويَّة الفائز مُزعجةً لداعمى الدولة العبرية، فيُحيِّدُ بالتبعيّة تأثيرات الحرب الشرق أوسطيَّة على الانتخابات؛ فإنَّ نظرةَ المُتحارِبين هُنا لا تغفلُ عن الفُروق الدقيقة، وتعرفُ أنَّ الجبهةَ مُعلَّقةٌ فى فراغٍ مفتوح، ومُعرَّضةٌ للتأثُّر بأىِّ انحرافٍ بسيطٍ فى القول أو الفعل.
يُريدُ الصهاينةُ إعادةَ الكَرّة مع الترامبية، وقد منحَتْهم الكثيرَ وتُبشِّر بالأكثر، بينما يُمنِّى الملالى وحُرَّاسُ الشيعيَّة المُسلَّحة أنفسَهم بتمديد العُهدة الأوباميَّة لفصلٍ جديد، على أن تُنتِجَ الولايةُ الرابعة ما تعذّر على الثالثة، وتُجدِّدَ نجاحات التجربة الأُولى بين 2008 و2016. والشائعُ أنَّ الديمقراطيين أميلُ للتسويات الهادئة، بينما الجمهوريّون مُغرَمون بالحروب والصداماتِ الكاسحة؛ إنما الواقع قد لا يُطابِقُ هذا التصوُّر السياحىِّ المأخوذ من السَّطح، والذاكرة الحيَّة ربما تنسفُه تمامًا. لقد ازدهرت إسرائيلُ مع رؤساء بهويَّاتٍ زرقاء، وحقَّقت إيرانُ أكبرَ نجاحاتها الصراعيّة أمام الأفيال، والعكس بالعكس. اعترفَ صاحبُ القنبلة الذرية هارى ترومان بالدولة العِبريَّة بعد دقائق من إعلانها، بينما تصدَّى لها الجنرالُ الجمهورى أيزنهاور فى العدوان الثلاثى على مصر. وتمتّعت ثورةُ الخُمينى بدعمٍ أحمرَ خلال السنوات الأخيرة قبل اندلاعها، وكان صِدامُها الأكبر مع أهدأ الديمقراطيين، جيمى كارتر، فى حادثةِ رهائن السفارة، وفيها أُبرِمَتْ الصفقةُ من وراء ستارٍ مع مُنافسِه ريجان.
باختصارٍ؛ لن يخسرَ نتنياهو من الانتخابات أيًّا كانت نتيجتها، ولن يربحَ المُمانِعون أيضًا. بالكاد سيختلفُ إيقاعُ الحرب، وتتسارعُ أو تتباطأ وتيرةُ الوصول للأهداف الصهيونية المقصودة. وربما تقفُ تلك الحقيقة وراء ارتباك الشيعيَّة المُسلَّحة فى مُقارباتها بين الميدان والسياسة؛ إذ تتجنَّبُ الانخراطَ فى حربٍ واسعة، وتتحسَّبُ أن يكونَ التحفُّظ طريقًا للإرجاء لا الإلغاء، مع ما يترتَّب عليه من تكاليف أكبر حالَ انقلاب الأوضاع فى البيت الأبيض. هكذا استجابَتْ لتحذيرات بايدن بشأن التصعيد؛ لكنها تُهدِّد بالردِّ على ردِّ إسرائيل، وتتواترُ التقارير عن أنها ربما تُنفِّذُ وعيدَها بالتزامُن مع الاقتراع. صحيحٌ أنها ستكون فى الأمان بشأن التأثير على الانتخابات، ولن تُغيِّر من حظوظ كمالا؛ لكنها عَمليًّا ستستنفرُ الجميعَ وتستفزُّهم: الرئيس فى مرحلة «البطة العرجاء» إذ يعجزُ عن اتِّخاذ قراراتٍ مصيرية، ولا يعجز عن الحرب، وليس لديه ما يخشاه أو يبكى عليه، والمُرشَّح الخاسر الذى سيُعلِّقُ إخفاقَه على هامة طهران، ويُمارسُ المُكايدة والابتزاز للصِّدام معها، وأخيرًا الفائز الذى سيعتبرُ نفسَه مُستهدَفًا بالتصعيد، ومقصودًا أنْ تبدأ ولايتُه فى مَجمَرة النار.
إنها واحدةٌ من أكثر الانتخابات الأمريكيَّة استقطابًا؛ أو لعلَّها الأكثر على الإطلاق. الأجواءُ غائمةٌ فى الولايات الأُرجوانيَّة، وبعضها كانت أحاديَّةَ اللون حتى زمنٍ قريب. يتقدَّم ترامب فى بعضِها ويتأخَّر فى الأُخرى، ونسبةُ التفوُّق له أو لكامالا لا تتجاوزُ هامشَ الخطأ الإحصائىِّ. الفائزُ سيتحصَّلُ بالكاد على 270 صوتًا أو أكثر قليلاً من المُجمَّع الانتخابىِّ، ما يعنى أنه سيذهبُ للبيت الأبيض بنصفِ قبولٍ، وسيعودُ نصفُ الأمريكيِّين تقريبًا إلى بيوتهم مَهزومين وناقمين أكثر مِمَّا ذهبوا. الانقسامُ عميقٌ وضاربٌ فى الجذور، ويتجلَّى بوضوحٍ فى خريطة التصويت المُبكِّر، إذ بدَتْ مُوزَّعةً بالدرجة الأكبر على النساء والمُلوَّنين والرجال البِّيض، فيما يُشبِه الفرز الانتقائىَّ المُتوائِم مع الحَملَتين، وهو إنَّ كان يُعبِّر عن فاعليَّة فى الحشد، فإنَّه بالدرجة نفسِها ينمُّ عن سيادةٍ للنزعات العُنصريّة والفئويّة، واشتباك مع الحالة الديمقراطية على صِفَةٍ قتاليّة تُشبه الحرب، ما يُهدِّد بتكرار تجربة الانقلاب على النتائج، أو بانعكاس الحالة الصراعية على السياق الاجتماعىِّ فيما بعد الانتخابات.
فى سباق 2020 صوَّت نحو 158 مليونا، ونصفُهم أدلوا بأصواتهم مُبكِّرًا فى الجولة الحالية، بالبريد أو مُباشرةً، وهو مُعدَّل قياسىٌّ فى الأحوال العادية، بالنظر لِمَا يفوقُ 40 مليونًا بقليل فى 2012 و2016، وباستثناء النسخة السابقة التى سجَّلت 101 مليون بأثر إغلاق كورونا وأجواء التباعُد. وبعيدًا من أيّة مُلاحظات على النظام الانتخابى، وأنه يحصرُ المسألةَ فى عِدّة ولايات، ثمَّ منها إلى عشرات المندوبين الأفراد، فالحسمُ يدور راهنًا على ويسكونسن وبنسلفانيا وميشيجان شمالاً، وجورجيا ونيفادا وأريزونا وكارولينا الشمالية إلى الجنوب والغرب، وبعضها كانت محسوبةً على الجدار الأحمر أو الأزرق وتحوَّلت قبل سنوات، بينما خرجت أوهايو وفلوريدا من قائمة التأرجُح المُعتادة ودخلت نيفادا.
وإذا كانت الحظوظُ شِبهَ مُتساويةٍ، والاحتمالان على الدرجة ذاتها من الجدارة؛ فالأرجح حتى اللحظة أن يفوز ترامب بالأصالة، أو فى نُسخةٍ مُعدَّلة نسبيًّا عبر مُنافسته. الظاهرُ أنَّ قطارَ اليمين انطلقَ بكاملِ سُرعته ولن يعود، والسياسةُ الأمريكيَّة ستصطبغُ بحالةٍ ترامبيَّة عاجلاً عبر صاحبها، أو آجلاً من خلال شريكِه على التذكرة جيمس ديفيد فانس أو أى بديلٍ شبيه، وفى أبعد الاحتمالات من خلال الإزاحة البطيئة بين الديمقراطيِّين، وقد صار الحزبُ خليطًا يغيب عنه التجانس فى كثيرٍ من الموضوعات. ربما لعبت حربُ غزّة دورًا فى الإرباك، أو أنها تتأثر به ولم تتسبَّب فيه؛ إلَّا أنه مثلما يُقالُ إنَّ ما قبل «طوفان الأقصى» ليس كما بعده؛ يصدُقُ القول نفسُه على ترامب، وعلى السباق الأخير تحديدًا. إنها حقبةٌ ذات نكهةٍ إفنائيّة، وكما تتهدَّد مخاطرُها تنظيمات الأصولية الإسلامية؛ فليس من صالح الصهيونية أنْ تفتقدَ الحليفَ العاقلَ؛ لصالح المُسانِد المُطلَقِ على طُول الخطّ ودون مُراجعة أو تقويم. كلُّ ما فات مُجرَّدُ مُقدِّمةٍ وتمارين؛ أمَّا الصِّدامات الكُبرى فإنها تتشكَّل فى رحم الغيب، وآتيةٌ على صورةٍ أفدح من كل عرفناه وعرفه الأعداء سابقًا، وربما فى أوانٍ غير بعيد.