أكتبُ مع انطلاق الاقتراع العام فى الانتخابات الأمريكية؛ لكن فى موعد صدور الصحيفة صباحَ اليوم، يُفتَرَضُ أنْ تكونَ المُؤشِّراتُ قد اتَّضَحت بشأن الرئيس الجديد، ومع احتمالات الجدل والمُناكفة بشأن النتائج، فإنَّ ما يخُصّنا فى المنطقة العربية على المدى القريب لا يتَّصل بهُوية الفائز، إلَّا من زاوية ما يُضفيه من ضغوطٍ أو تعديلات على أجندة بايدن.
والرجلُ دخلَ فِعليًّا مرحلةَ «البطَّة العرجاء» قبل أوانها بكثير، وقد يتراءى له أن يُعوِّضَ بعضَ ما فاتَه فى الشهور الماضية، خلال الأسابيع الأخيرة قبل رحيله عن البيت الأبيض.
والحال؛ أنَّه فى خصومةٍ مُزدوَجة مع الطرفين، الأصدقاء قبل الأعداء، وتشُدّه قُوَّتان مُتعارضتان تمامًا، بين التزامه الحزبىِّ والأيديولوجى، ورغبتِه فى الدفاع عن إرثِه السياسىِّ الطويل، مع احتماليّة السعى لغَسْل ما عَلَق بسُمعتِه، أو الثأر مِمَّن حشرَه فى رُكنٍ ضيِّق، ويَسَّر لعائلته الديمقراطية أن تُطلق الرصاصَ عليه، فى واحدةٍ من أسوأ صُوَر الإهانة والتنكُّر لحاكمٍ على رأس السلطة، صحيحٌ أنه يمقت دونالد ترامب كما لم يشعُر تجاهَ شخصٍ آخر؛ لكنَّ فمَه لا يخلو من مرارةِ الخذلان وقساوة النيران الصديقة أيضًا.
قدَّمَ العجوزُ المُخضرمُ تجربةً تُعَدُّ بين الأسوأ على الإطلاق فى كلِّ الإدارات الأمريكية. لم ينجَحْ فى إقناع الداخل طوالَ أربع سنوات، ولا حافظَ على الفاعليَّة المادية والمعنوية للامبراطورية فى الخارج. وقد اضطُرَّ لتفعيل الانسحاب من أفغانستان على وَصفَةِ سَلَفِه الجمهورىِّ؛ لكنه دفعَ مُنفردًا فاتورةَ الفوضى والارتباك أمام طالبان. وبأثر الرخاوة تشجَّعَتْ موسكو فغَزَت أوكرانيا، وبمُتوالية سقوط أحجار الدومينو نفسِها أطلقَتْ حماسُ «طوفانَ الأقصى»، ورَدَّت إسرائيلُ بعدوانٍ غاشم على قطاع غزَّة، وَسَّعَتْه لاحقًا إلى الضفَّة الغربية ثمَّ سوريا ولبنان، وطلبَتْ إيرانَ للنزال بالأصالة، مُنهِيَةً عقودًا من «حروب الظلِّ» بين الطرفين.
وبينما كان الاقتصادُ يتحسَّنُ جُزئيًّا؛ فإنه ظلَّ أقلَّ مِمَّا كان عليه قبل كورونا، وفى مناخٍ كهذا تكتسِبُ ورقةُ الهجرة قيمةً مُضاعَفَة، ويسهُل توظيفُها لتظهير الإخفاق وعجز السياسات، والعُمرُ إنْ كان يلعبُ دورًا فى كلِّ ذلك؛ فإنَّ المُتغيّرات الدولية التى لا يَدَ له فيها لعبَتْ الدورَ الأكبر، وبمنطق المسؤولية العُموميَّة أُلقِيَت النتيجةُ على كاهله؛ بغَضِّ النظر عن المُسبِّبات والتراكمات.
كان الذهابُ إلى الذروة خطَّةَ الرجل للتقاعُد، فبعد قضاء قُرابةِ نصف القرن فى السياسة، أراد أن يختمَ رحلتَه الطويلةَ على مقعد جورج واشنطن وأبراهام لينكولن، ومن طبائع الأمور وتقدير الذات؛ أنه ينظرُ لفوزِه فى 2020 باعتباره تكريسًا للقيمة والرمزية، وأقربَ للمهمَّة الإنقاذيَّة فى مُواجهة المَدِّ الشعبوىِّ الكاسح وقتها مع ترامب. هكذا كان يتصوَّرُ أنه قادرٌ على هزيمته للمرَّة الثانية، وأنَّ العائلةَ مُلزَمةٌ بتفويضه والاصطفاف خلفه إلى النهاية.
وإن كان قد صُدِمَ من استفاقة الغريم القديم مُجدَّدًا، وانزلاقِ المجال العام باتِّجاه حالةٍ يمينيَّة لاذعة؛ فإنَّ صدمَتَه الأكبرَ كانت من داخل البيت بإنكار ما قدَّمَه لخدمة التيَّار والدولة، ثمَّ التعريض به عَلَنًا من رموز الصفِّ الأوَّل، وُصولاً إلى إجباره على الانسحاب المُذلِّ بنكهةِ الطَّرْد والإطاحة، والخصومةُ هُنا تقعُ على المُنافس بالأساس؛ لكنَّ النفسَ الأمَّارةَ بالسُّوء قد لا تستبعِدُ شُركاءَ الراية الزرقاء. باختصارٍ؛ لديه ثأرٌ تجاهَ «الأفيال» فى نسختهم الترامبيَّة الصاخبة، وقد سحقته من دون رحمةٍ أو مُنافسة عادلة، ولديه ما هو أكبر منه مع «الحمير» الذين أهانوا مسيرته، وتركوا له سابقةً فى ملفِّ خدمتِه العامَّة، تُغطِّى على كلِّ ما أنجزه، أو تخيَّلَ إنجازَه فى السابق.
من جُملة المُفارقات، أن يتحوَّلَ الرئيسُ الأضعفُ فى تاريخ الولايات المُتَّحدة، إلى الرجلِ الأخطر فى العالم وعليه خلال الفترة المُقبلة. ولا يعودُ الأمرُ إلى قُوّةٍ فى ذاتِه، أو لإبدائه ميولاً انقلابيَّةً على المسار الطبيعى لانتقال السلطة؛ بل لأنَّ السياقَ الدولىَّ مُحَمَّلٌ بالتناقُضات وعوامل الخطر. لقد ساعدت هشاشتُه وانعدامُ لياقته على تضخيم الملفَّات بين يديه، ويشعرُ أنه سَدَّد فواتيرَ لم يكُن مسؤولاً عنها، وقد يسعى للقصاص من الظروف التى أوصلَتْه لتلك الحالة، وليس بالضرورة أن يُحقِّقَ مُرادَه بالتهييج وإثارة الحروب؛ بل ربما بمزيدٍ من الخِفَّة وعدم المُبالاة.
نظريًّا؛ فرَّطَ «بايدن» فى الفاعليَّة عندما كانت فى مُتناولِ يَدِه، وسيكونُ عَصيًّا عليه أن يستعيدَها بعدما صار فى الفاصل الضيِّق ومنزوع الأدوات تقريبًا. لكنَّ الأوضاعَ عَمليًّا تختلفُ لدرجة بعيدة؛ إذ يظلُّ فى مَقدورِه أن يتغذَّى على المُثيرات الخارجية، وأن يستجيبَ انفعالِيًّا لها بحَسْب الظروف والمُقتضَيات، بحيث لا يبدو أنه يتَّخذُ قراراتٍ أصيلةً أو وجوديَّةً بشأن القضايا الحسَّاسة؛ لكنه يتفاعلُ مع الدراما المُتحرِّكة من حولِه، ويُدافِعُ عن أُصول الدولة ومصالحها، ويتركُ التفاعُلات تمضى دون تدخُّلٍ من جانبه؛ ثم يتلطَّى وراء الضرورةِ والتزامات «ردّ الفعل».
اختبرَ الرئيسُ الآفلُ حالَ «البطة العرجاء» خلال انتخابات التجديد النصفىِّ للكونجرس قبل سنتين. والكابيتول نفسُه يدخلُها بالتزامُن مع سباق «ترامب/ كامالا»؛ حتى موعد انعقادِه فى مطلع يناير المُقبل، بمعنى أنها وضعيّة مُتكرِّرة ولم تمنع انتظام يوميَّات الإدارة تحت كلِّ الظروف، وفى أزمنة السِّلم والحرب. وإذا كانت صلاحياتُه تتقلَّصُ إلى الحدِّ الأدنى، ولا يعودُ بمُستطاعه اتِّخاذ قراراتٍ جوهريَّةٍ، أو توقيع قوانين ومَراسيم، وتنصرفُ الجهودُ كلُّها إلى تصريف الأعمال، وانعقاد الفريق الانتقالىِّ من الجانبين لإنجاز مهام التسليم والتسَلُّم؛ فإنَّ كلَّ هذا يظلُّ مُعَلَّقًا على الأحوال العادية، وعلى الاستدامة فوق الخطر ودون الأحداث الطارئة.. بمعنى أنَّ أىَّ انحرافٍ من الخارج، يكفى للتبرير وتفعيل الإمكانات، ولن يُحسَبَ وقتَها على صِفَة الاختراق أو اللعب فى التوازُنات السياسيَّة القائمة؛ بل على صِفَة الالتزام والإنقاذ.
ستختلفُ مُقاربةُ بايدن للفترة الانتقالية بحسب نتائج السباق، وهو قادرٌ على إثارة الغبار فى أُفْقَى الرئيسين المُحتمَلَين بالدرجةِ نفسِها. صحيحٌ أنَّ «هاريس» جزءٌ عُضوىٌّ من الإدارة القائمة، وتستطيعُ الاشتباكَ المُعجَّل مع مفاصل البيت الأبيض، وترويض خيارات «أبيها الروحى» وسَلَفِها المُغادِر؛ إلَّا أنه يظلُّ الرئيسَ وصاحبَ القرار النهائىِّ، وبإمكانِه أنْ يُحيِّدَها فيما تبقَّى لها من زمن النيابة، وأن يُزعِجَها فيما يستبِقُ استحقاقَها للرياسة. وافتراضُ التنازع هُنا لا ينطلقُ من عداوةٍ بينهما، ولا من أنه يكرهُ السيِّدةَ التى اكتشفَها وصَعَّدَها فى دواليب السُّلطة العُليا، ولعلَّه يعتبرُها امتدادًا لمشروعِه، وكلاهما ينوبُ بالأساس عن التجربةَ الأُوباميّة المُتسلِّطة على الديمقراطيين منذ عقدين تقريبًا؛ لكنه على الأرجح سيكونُ الصراعَ بين الأنانيَّة والغَيريَّة، أو بين الإخلاص للفكرة ومحبَّة الذات، تحت ثِقَل النزوع إلى التوقيع بالحضور فى ميقات الغياب، وألَّا يكون باهتًا فى رحيله، مثلما كان فى الوفادة والمقام.
يُعرَفُ عن الديمقراطىِّ العجوز أنه من القالب التقليدىِّ للساسة، ليبرالىّ بنكهةٍ مُحافظة، ولا تُؤثَرُ عنه أيَّةُ ميولٍ استعراضيَّة، أو غرام بالانقلابات والتحوُّلات الصاخبة. وهذا مِمَّا يُرجِّحُ أنْ يلتزمَ الأُطُرَ الراسخةَ لإدارة المراحل الفاصلة بين الإدارات، وأن يَطوِىَ صدرَه على وجيعتِه من العدوِّ والصديق، ولا يذهب باتِّجاه الثأر أو الدفاع عن كرامته فى الأمتار الأخيرة قبل مُغادرة المكتب البيضاوىِّ؛ إنما يظلُّ الاحتمالُ قائمًا بأن يُوَسوِسَ له شيطانُ الذات الجريحة، أو أنْ يتلاعبَ به الآخرون من الخارج، فيستنفروا فيه ما يُحاولُ كِتمانَه، ويُحفِّزوه على أن يأتى الأفعالَ التى تجنَّبَها سَلَفًا، وأن يُعبِّرَ عن أفكارِه الصافية بعدما تحرَّر من الضغوط وحسابات السياسة.
وإذا حَيَّدنا الشِّقَّ الأوَّلَ؛ باعتباره من طبائع الأمور، ولا يحملُ أيَّة دراما مُغايرة أو مُثيرة للقلق. فإنَّ التصوَّرَ الثانى يتوزَّع على عددٍ من الاحتمالات، أن يُبادِرَ إلى اتِّخاذ مواقف أكثر جدّية وخشونة، أو ينفعلَ بما يُطرَحُ عليه من الآخرين، أو يتلاعبَ فى إعدادات القضايا الساخنة؛ بما يُسوِّغُ له توجيهَ قرارات الخصوم والشركاء فى وجهةٍ بعَينِها. وليس شرطًا أن ينطلِقَ فى ذلك من تصفيةِ الحسابات العالقة فى البيئة الأمريكية؛ إذ لا يُمكِنُ التغافُل عن أنَّ له حسابًا آخر مع المُحيط الواسِع مِمَّن ناصبوه العداءَ طوال السنوات الماضية، أو استغلّوه وأهدروا كرامتَه فى المُمارسة العَمليّة. إنه مُحمَّلٌ بالإحَنِ والمرارات تجاه الجميع، ولا فارقَ ربما بين نظرتِه إلى فلاديمير بوتين، أو مشاعره السلبية نحو نتنياهو وملالى إيران.
مثلما كان «طوفان السنوار» مُقامرةً لا يحتملُها الوقت، بالنظر إلى أنها جاءت قبل سنةٍ من سباق البيت الأبيض، فكانت أضيقَ من الهامش المطلوب لترويض الإدارة الأمريكية على حسابات حماس، وأوسعَ كثيرًا من طاقة الحركة وقُدرتها على مُواجهة الصهاينة وامتصاص جنونهم؛ فإنَّ فاصلَ الأسابيع العشرة بين معرفة الرئيس الجديد، واستلامه الرايةَ من الرئيس الراحل، قد لا تكونُ كافيةً لأن يُصوِّبَ «بايدن» أخطاءه طوال السنوات الأربع الماضية، لكنها أكثرُ بكثيرٍ مِمَّا يحتاجه للثأر إنْ أرادَه، أو لتحميل الإدارة المُقبِلَة بأعباء وتحدِّياتٍ تُربِكُ شهورَها الافتتاحية، أو تقودُها لمزيدٍ من الأزمات المُعقّدة؛ ليشطُبَ على إخفاقه بتأهيلِ البيئة لإخفاقٍ أكبر، وحتى تَصُبَّ أيّةُ مُقارنةٍ لاحقةٍ فى صالحه، من مُنطَلَقِ أنَّ الحوادثَ تُغطِّى على بعضِها، ولن يبقى فى الذاكرة أنه تسبَّبَ فى إشعال الشرق الأوسط مثلاً؛ لو وَقَفَ خليفتُه فى الميدان يسكُبُ الزيتَ وينفخُ فى النار.
إذا فازت كامالا فسيكونُ مَعنيًّا بألَّا يُوَرِّثها أعباء تفوقُ احتمالَها، أو تقدحُ فيه بعد الرحيل، من زاويةِ أنها اختيارُه القديم وامتدادُ إدارته؛ ولو أنكرا معًا. ما يَهمّه وقتَها أن تبقَى الأوضاعُ فى مسارها المعهود، ربما يجتهدُ بدرجةٍ أكبر لإبرامِ هُدنةٍ إنسانيَّةٍ ووَقف الحرب فى غزَّة ولبنان، وقد يسعى لتحييد مخاطر التصعيد بين تل أبيب وطهران؛ لكنه لن ينظُرَ على الأرجح إلى أوراسيا، بمعنى أن تظلَّ المُواجهةُ الروسيَّةُ الأُوكرانيّة عند إيقاعِها الراهن. نتنياهو سيعرِفُ بالضرورة أنه لا فِكاكَ من أجندة أوباما، مع ما فيها من رهانٍ على تأطير الصراعات بدلاً من تصفيِتها، وغرامٍ مكتومٍ بالأُصوليَّات الدينية الشرقية.
وفى النهاية لا معنى للمُراوغة؛ لأنه لن يُلاقِى البديلَ المأمولَ فى يناير. والعجوزُ الأبيض بصهيونيَّتِه الظاهرة قد يكونُ أرحمَ وأنفع من السيِّدة المُلوَّنة بتَقَدُّميَّتِها المُتحمِّسة. سيُراوِغُ زعيمُ الليكود بالتأكيد، وستُحسَبُ ألاعيبُه على رصيد الهشاشة والانكشاف الأمريكِيَّيْن، وهذا ما قد يُحفِّزُ الجمهوريَّةَ الإسلاميَّةَ على قَرع الطبول ومحاولة بناء توازُنات الرَّدع الساقطة. فى هذا السيناريو، تبرزُ النسخةُ «البايدنيّة» الطيبة؛ لكنها تحملُ من المخاطر ما لا يقلُّ عن أيَّة نسخةٍ شرّيرة يُمكن أنْ يضعَها بين مُقترحاته لإدارة المرحلة.
الأثرُ الجانبىُّ ينبعُ من نظرةِ الحكومة اليمينية فى إسرائيل. ومثلما تتشجَّعُ الأُصوليَّةُ الإسلامية ببقاء الديمقراطيين؛ فإنَّ التوراتيِّين والقوميِّين اليهود سيُحاولون الأخذَ بزِمام المُبادرة، طمعًا فى فَرضِ واقعٍ يَحولُ دون تبريد الأجواء الإقليمية، ويُرتِّبُ التزاماتٍ خَشِنةً على الأمريكيِّين رغمَ أُنوفهم، ما يعنى أنَّ «بايدن الوديع» سيكونُ سَببًا فى تعلية سُقوف الصهيونيَّة والشيعيَّة المُسلَّحة، وكلاهما يَطمئنُّ إلى ضَعفِ الرُّجل فى الراهن، وإلى خِفَّة وبُؤس وَريثَتِه فى المُقبل، ما يعنى أنَّ المُنحنى قد يظلُّ صاعدًا بينهما، والنقطة التى يُغادر عندها لن تكون أعلى مراحل الصراع ولا أشَدَّه تأجُّجًا، ومن ثَمَّ فلن يُلامَ وحدَه فى المُستقبل على ما حاق بالشرق الأوسط؛ ولو أفضى إلى صدامٍ شامل، وتمدَّدَت آثارُه إلى المساس بالأُصول الأمريكية، وتغيير التركيبة الجيوسياسية القائمة، تمديدًا لحقبةٍ طويلة ومُعقَّدة من معارك الهُويَّات الساخنة.
أمَّا لو فاز ترامب؛ فسيقعُ فى ذهن بايدن مُباشرةً أنه «كبشُ الفداء» الذى ستُحمِّلُه السرديَّةُ الديمقراطية كُلفةَ الهزيمة. لقد كان سيِّئًا فى الإدارة، وأسوأ فى المُكابرة وعدم الانصياع لدعوات الخروج من السباق مُبكِّرًا، وقد أفشلَ الحزبَ عِدَّة مرات: الأُولى بفَشَلِه الشخصىِّ، ثمَّ بتضييق هامش الوقت حتى صارت «هاريس» خيارًا اضطراريًّا، وأخيرًا بعَجزه المُفرِط عن إسنادها، وما وراء ذلك من تخطئة اختياره لها نائبةً من الأساس. هكذا سيقعُ العجوزُ تحت حزمةٍ مُركَّبة من الضغوط، وسيُحاول أنْ يُثبت لحُلفائه أنه كان عاقلاً لا ضعيفًا، ولخصومه أنه قادرٌ على إتيان ما يأتونَه لكنّه تَوَقّاه بدافع المسؤولية، وقبل كلِّ هذا أن يثأرَ لكرامته، ويُفجِّر قُنبِلَتَه فى وجوه الجميع، تعويضًا عن الاستهداف والخذلان على حدٍّ سواء.
من هُنا؛ قد يُحاولُ إبرامَ الصفقة الضائعة من فلسطين إلى لبنان، لعِلمِه أنَّ «ترامب» سيلعبُ على وَترِ الحَسْم بالقوَّة أو بالضغط السياسى الأقصى، وهو لديه أفضليَّةٌ مع كلِّ الأطراف، أكان بسابق عطاياه الضخمة لإسرائيل، أم بسوابق تنكيله بإيران بالّلِين والشِّدَّة. ورهانُ «بايدن» سيدورُ على حرمان غريمِه من فرصة التسوية السهلة، أو من هامش التصعيد الذى يُظَهِّرُ ضعفَه ورخاوتَه عَمَّا هُما عليه. ستكونُ الجمهوريَّةُ الإسلاميَّةُ مُرتَدِعَة فى التصوُّر النظرىِّ عن الذهاب للمُواجهة؛ لعِلمِها بشخصية الرئيس الجديد، وتجربتِها لخياراته الجارحة، بينما سيتحفَّزُ نتنياهو بدرجةٍ أكبر؛ ليضربَ الأرضَ بقدمَيه، ويحُطّ مُجدَّدًا من كرامة الرئيس الراحل.
هكذا قد تتبدَّلُ الحساباتُ مع تطايُر الشَّرَر، وقد يُغيِّرُ «جو» عقيدتَه السابقة لينفُخَ فى النار مع النافخين. سيبدو أوَّلاً مُتَّسِقًا مع ميولِه العقائدية جِهَة الصهيونية، وسيُثبِتُ قُدرتَه على الحَسْم، وأنه كان يتجنَّبه عن اقتدارٍ لا بدافع الخوف، وسيسلِبُ الورقةَ نفسَها من غريمِه اللدود، الذى إنْ أوقَفَ القتالَ سيبدو مُعترِفًا بصواب المُقاربة العاقلة طوال السنة الماضية، وإن استمرَّ فيه فيُمكِنُ حالَ الفوز الجَزمُ بأنّه يستكملُ أجندَة سَلفه، ويسهُل إنكارُ العلاقة وإعلانُ القطيعة التامّة فى حال الهزيمة، ووقتَها سيرُدّ له بعضَ هداياه السابقة، عندما وَرَّطَه فى أفغانستان، وفَخَّخ له البيئةَ المُلتهِبَة أصلاً فى آسيا والمنطقة العربية.
الصورةُ من بعيدٍ أقربُ إلى تجميد السياسة الأمريكية لأكثر من شهرين، بينما تظلُّ التفاعُلات المُحيطةُ على حالها أو تتسارعُ. هذا ما كان يحدثُ سابقًا، ولا يُمكن توقُّعه أو ضمانه اليومَ. الحربُ دائرةٌ، ولن تُغيِّر الانتخاباتُ من حقيقة أنَّ الإدارةَ الحاليةَ طرفٌ أصيلٌ فيها، ونوايا المُتحَارِبين كانت مُعلَّقةً على النتائج، وستنكشفُ وتُضاعَفُ وتائِرُها بمُجرَّد الوقوع على فَهمٍ واضحٍ للمرحلة المُقبلة. وإذا كانت الأطرافُ كُلُّها تراهِنُ على واشنطن؛ فإنَّ غيابَ قُدرتِها الفاعلة فى هذا الفاصل غير القصير، يرفعُ من فُرَص الراحل فى تشويه المسارات أمامَ القادم؛ قصدًا أو بطريقةٍ عفويَّةٍ خالصة.
سيكونُ «بايدن» مُغرِيًا للطَّرَفين بالضعف؛ بما يُشجِّع على محاولة تقويض كامالا أو استباق ترامب. وإلى ذلك؛ فإنه مُحمَّلٌ بالغضب المكتوم من الرفاق والفُرقاء، ذلك الغضب الذى قد يُورِّط فى الخِفَّة وإساءة التقدير. إنها الأسابيعُ الأخطرُ على الإطلاق بالنسبة للولايات المتحدة، وللبيئات الساخنة أيضًا، وما راهنَ عليه الصهاينةُ مع رئيسٍ جمهورىٍّ فاقع اللون والخطاب، سيَسعون لتفعيلِه فى الفاصل الضئيل قبل الولاية الديمقراطية الباهتة، وما رتَّبه المُمانِعون للجولة الأوباميَّة الثالثة، قد يُغامرون بمحاولة تعويضِه قبل قدومِ الشعبوىِّ الشرس. 10 أسابيع من الضباب والريبة والتساوى بين كلِّ الاحتمالات، وثمَّة ذئابٌ يتصارعون على امتداد العالم، و«بطّة عرجاء» فى البيت الأبيض؛ لا تستقيمُ خطواتُها فِعلاً؛ لكنها مُرتعِبَةٌ على ماضيها، وليس لديها ما تخسره، والأخطر أنها مُطوَّقةٌ بمخالب البارانويا ومُسلَّحَةٌ بأنياب الفُرصَة الأخيرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة