الشعور والمعرفة هما أهم أوجه الإدراك، وهما المتحكمان الأساسيان فى نظرتك إلى الأمور وليس العكس، فإن كنت على سبيل المثال تشعر بالخوف الشديد من الأماكن الضيّقة لسبب بيولوجى أو صدمة فى الطفولة أو غيرهما، فسينعكس ذلك تباعا على نظرتك إلى مرض الرهاب بأن يمنحك القدرة على تفهُّم مخاوف البعض وإن كانت تبدو غير منطقية إلى كثيرٍ ممن لا يعانون تلك المخاوف اللاواعية، ليصير لديك منظورًا أوسع يُمَكّنك من تقبُّل مشاعر الآخرين على وجه العموم دون محاولة فهمها.
وكذلك إن علمت أن الرجل الذى قد قام بسرقة عشرات الجنيهات من جيبك، هو فى حقيقة الأمر أعمى فقير يسعى لعلاج زوجته وإطعام أبنائه، فقد تتحوّل نظرتك إليه من الغضب إلى الشفقة فى لحظات، بل وقد تتساهل مستقبلاً فى بضع جنيهات وأنت تخرج من جيبك أجرة أحدهم.
ففى حقيقة الأمر، إنّ إدراكك الحسى للواقع هو ما يحدد الزوايا التى تستطيع النظر من خلالها ثم يؤثر تباعًا على سلوكك، ولكل عقل فلسفته فى التحليل واتخاذ القرارات، وعلى الأغلب ليس هناك فلسلفة صحيحة أو خاطئة، فمثلا لا يُخطئ من يزعُم بأنّ الإنسان مُسيَّر ولا يُصيب من يُجزم بأنّه مُخَيَّر، وكذلك لا مانع من افتراض كليهما فى آن واحد. وأيضا لا يُعاب مثلا من يدّعى أنّ العلاقة مع الرّب تُبنى على أساس الخوف، وكذلك لا يكفر من يظن أنّ أصلها الحب الخالص، ولا يستحيل الجمع بين الشعورين فى نفس اللحظة كذلك. ومثلا قد تظن بأنّ السلام فى الموت ثم تشعر بالخوف منه حين تنظر إليه من زاوية أخرى تراه من خلالها أمرًا مجهولًا لم تختبره من قبل. وكذلك ربما يجمع عقلك بين الكفر والإيمان واختياراتك بين المنطق والجنون.
... والآن انظر إلى تلك الصخرة الكبيرة أعلى التل، كيف تراها؟ هل تراها قاسية؟ أيخبرك عقلك أنّها مصدر للتهديد وقد تتدحرج لتُهشّم رأسك؟ أم أنّك تراها وسيلة للحماية قد تحجز بينك وبين سهمٍ ربما فى أحد الأيام تتوارى منه خلفها؟
وذلك النهر، أترى فيه الحياة أم الموت؟ فهل الرغبة فى الشرب من مائه أول ما يتبادر إلى ذهنك أم الخوف من الغرق؟
وماذا عن هذه الأرض؟ أتبدو لك مقبرة جماعية أم مزارع خضراء؟ أم كلاهما؟
إنه ليس اختبارا لمستوى التشاؤم والتفاؤل أو مدى اتزان الرؤية لديك، ولا تساؤلا عن اللون المُهيمن فى زجاج نظارتك، ولكنه لَفت إلى قدرتك على إدراك المتضادات ورؤية الأشياء من خلال أكثر من زاوية. وإن كانت أعيننا عاجزة عن الجمع بين منظورين فى آن واحد، فعقولنا قادرة على ذلك.
يعتبر البعض ذلك تشتُّتا ويعتبره البعض اتّساعا، ويرى البعض ضرورة تحديد القناعات بينما يؤمن البعض الآخر بحتميّة البحث عن المزيد منها. فالحياة هى أقرب ما تكون إلى متجر غير محدود البضائع، يفضل فيه بعض المتسوّقين المتحفّظين السير فى ممرّ واحد، بينما يقرر آخرون التنقل بين جميع أقسامه.
ولفهم مدى قدرة الفرد على الإدراك فيجب فهم النفس البشرية، والتى طبقًا لدراسة مؤخرّة، يمكن تحليلها من خلال خمس عدسات مختلفة، وهي: المنظور البيولوجي، والنفسي، والسلوكي، والمعرفي، والإنساني.
والمنظور البيولوجى يدرس كيفية تأثير الجهاز العصبى والهرمونات والتركيبة الجينية على سلوك البشر والحالة العقلية لديهم. وهذا يعنى أنه طبقا للنهج البيولوجي، فأنت عبارة عن مجموع أجزائك، وأن جميع اختياراتك تستند إلى جسدك المادى واحتياجاته. أما النهج النفسي، فهو معروف بشكل كبير لارتباطه بسيجموند فرويد وأتباعه، وهو يرى أن سلوكنا ومشاعرنا تتأثر بدوافع داخلية غير واعية، والتى غالبا ما تمتد جذورها إلى تجارب الطفولة. وبالنسبة للنهج السلوكى فهو يركز على المحفزات الخارجية وتأثير البيئة على الحالة العقلية لدى الفرد، ويؤمن بأن مفهوم "الإرادة الحرة" وَهم، وذلك لأن جميع السلوكيات مكتسبة وتستند إلى تجاربنا السابقة. بعبارة أخرى؛ لقد تم تكيفنا للتصرف بالطريقة التى نتصرف بها، لذلك لا يكون أى شيء حقًا من اختيارنا. أما النهج المعرفى أو الإدراكي، فهو يركز على كيفية تفاعل أدمغتنا مع البيئة المحيطة بنا وكيف أن لأدمغتنا طرقًا محددة لمعالجة المحفزات الخارجية ثم الاستجابة لها.
وأخيرا النهج الإنساني، والذى يتلخص فى فكرة أننا جميعًا لدينا إرادة حرة، وأن الناس جميعهم طيبون فى الأساس ولديهم حاجة فطرية لجعل أنفسهم والعالم أفضل. ويؤكد هذا النهج على تفرد كل شخص وكل موقف، مما يشير إلى أن الدراسات الأخرى لا يمكن أن تكون دقيقة تمامًا أبدًا، حيث يوجد نطاق واسع من الأفكار والمشاعر والسلوكيات البشرية التى يمكن أن تتكيف وتتغير كما نفعل.
هذا جزء مما قد تناولته بعض الدراسات الحديثة والأبحاث والتى لا تقل أهميّة عن رؤيتك أنت، فتلك النظّارة التى ترتديها هى ما يحدد كيف تسير فى الأرض وكيف ينتهى بك المطاف فيها. لا يجب أن يعنيك كثيرا كيف يحلل العلم سلوكك وما الإجابات الصحيحة لجميع ألغاز نفسك البشرية وفك شيفرة عقلك، طالما أنّ السؤال الأهم لم يُطرح، وهو؛ "ماذا عنك أنت؟ كيف ترى نفسك وكيف تتعامل معها؟"... فهل تظن أنك مدفوع بتجاربك أم أنّك مُتحكم بشكل كامل فى أفكارك؟ أتظن أنّك آلة تتم برمجتها باستمرار لتتفاعل تلقائيًا مع الأحداث بشكل غير واعٍ؟ أم تؤمن بأن فطرتك هى ما يحركك؟..
أم جميع ما سبق؟
ليس من الضرورى أن تُجيب الآن بشكل صحيح، ولكن من الضرورى أن تستمر فى الإجابة إلى أن تُصيب يومًا ما، وإن كان ذلك اليوم هو الأخير لك.
فلعلّك تجد فى الإجابة الصحيحة نجاتك، ولو قبل الموت بلحظة واحدة.