فاز دونالد ترامب. وبينما يختمرُ الفوز على ساحل الأطلنطى، كان بنيامين نتنياهو يستكملُ مقاديرَ طبختِه السيِّئة على شاطئ المُتوسِّط. انقلابٌ كبير فى السياسة الأمريكية من دون شَكٍّ، وآخرُ لا يقلُّ عنه حِدّةً فى إسرائيل. الرئيسُ السابق يعودُ مُجدَّدًا إلى البيت الأبيض على غير هوى النخبة وقلب الدولة الصُّلب، ورئيسُ الحكومة العِبريَّة يُقيلُ وزيرَ دفاعه وسط أجواء الحرب، وبقدر عالٍ من التحدِّى للمُؤسَّسة العسكرية والأحزاب والشارع.
وإذا كان لا يُمكن التنبُّؤ بمُفاجآت الولاية الثانية والأخيرة فى البيت الأبيض، فمن الصعب أيضًا الجَزم بمآل الأجندة الليكودية، بكلِّ ما فيها من نوايا مُركَّبةٍ واقتراحاتٍ صاخبة. وتظلُّ الأسابيعُ الباقية من عُهدة بايدن، ومعه النائبةُ الخاسرة كمالا هاريس، مُحمَّلةً بالتناقضات وإمكانيَّة اللعب فى إعدادات المشهد، طمعًا فى خُروجٍ مُشرَّفٍ للإدارة الديمقراطية، أو بحثًا عن دُخولٍ خَشِنٍ لوَريثها الجمهورىِّ.
اعتباطًا أو بسوء نِيَّة؛ تورَّط الديمقراطيِّون فى حالةٍ «سراب أزرق».. أساءوا تقديرَ الخصم العنيد، ولم يَروا حجمَ الاستقطاب وانقسامات المجتمع عموديًّا وأُفقيًّا، وارتاحوا إلى منطق الفقاعة الذى يَعزلُ السياسة المحلية عن المُؤثِّرات الوافدة من وراء الحدود. وإذا كانت أوراقُ الاقتصاد والهجرة صَبَّت فى صالح المُنافس، ولم يُسعفهم اللعبُ على أوتار العُنصريَّة والإجهاض فى تقريب المسافات؛ فإنَّ تكاليفَ المُغامرات الخارجية لم تكُن معزولةً تمامًا عن السباق: فواتير الدم فى الانسحاب من أفغانستان، وأعباء المال فى الحرب الأوكرانية، وسَقطة الضمير والأخلاق إزاءَ النكبة الواقعة على الفلسطينيين.
المُقدِّمات السابقةُ كلُّها لَعِبَت دورًا مُتقدِّمًا على خلاف العادة فى ترسيم التنافُس، وتقدير الحظوظ، فساهمت فى إمالةِ قطاعٍ عريض إلى جانب ترامب، وبعضهم مِمَّن لا يُحبّونه أو يختلفون مع وَصفَتِه اللاذعة، وربَّما كان الاختيارُ على طريق «أهون الضَّرَرَيْن» التى تردَّدت فى خطابات بابا الفاتيكان، ويبدو أنها تسرَّبت للوعى العام فى الولايات المتحدة وخارجها. وإذا كانت المُفاضلةُ بين مَشروعَيْن يتنافسان فى السوء؛ فإنَّ طزاجةَ الارتباك الديمقراطى رجَّحت كفَّة الاحتمال الجمهورى، كما أنَّ أملَ الخروج من الأزمة لو كان صعبًا مع اليمينىِّ المُحافظ؛ فإنه مُستحيلٌ بالكُلِّيَة مع اليسار الليبرالىِّ، على الأقلِّ بمَنطق أنَّ مَنْ صَنَعَ المُشكلةَ ربما يكونُ آخرَ القادرين على حَلِّها.
كانت خطَّة نتنياهو واضحةً منذ البداية. وقفَ على قِمَّة «الطوفان» مُتطلِّعًا إلى الحاضر والمستقبل؛ فرأى إدارةً أمريكيَّةً شديدةَ الرخاوة والضعف، وصندوقَ انتخاباتٍ على مرمى حجر. ولعلَّه حَزَم حقائبَه وقرَّر من يَومِها أن يستنزفَ بايدن بكلِّ طاقته، ويُمرِّرَ الوقتَ حتى يُلاقيه ترامب على هندسةٍ مُغايرة للصراع. كلُّ رصاصةٍ يتحصَّلُ عليها كانت تشطُبُ صوتًا من جو ونائبته، وكلُّ يومٍ ضائع كان يُقرِّب «دونالد» وفريقَه خطوةً نحو المكتب البيضاوىِّ.
والمُحصِّلةُ أنَّ خطَّتَه السوداء تجاوزت أصعبَ مراحلِها مع اليسار، وتمكَّنَ من تحييد أغلب خُصومِه فى الداخل والخارج، وتمهيد الأرضيَّة المُناسبة للحَسْم مع شريكٍ يمينىٍّ يكره الحروب؛ لكنه يُحسِنُ إدارتَها وتحقيقَ أهدافها بوسائل أُخرى. وعليه؛ فقد كان الصهيونىُّ الماكرُ مُجمَّعًا انتخابيًّا بمُفرده، وراهن على المُرشَّح الجمهورىِّ وقتَما كان يُنكِرُه الأصدقاءُ قبل الأعداء، واحتفلَ بنَصرِه مُبكِّرًا، وقبل أن يلمَسَه هو أو يحتفلُ به. كان التصعيدُ مع لبنان وإيران آخرَ مراحل الحملة العِبريَّة الداعمة، وكانت إقالةُ يوآف جالانت بمثابة خطاب النصر.
من الصَّعب اختزال النتيجة النهائية فى عاملٍ واحد، ولا فى عِدّة عوامل تدور صعودًا ونزولاً مع درجة التقدير لفاعليّة السياسة وكفاءة الإدارة والقرار. عُوقِبَ الديمقراطيِّون قَطعًا على سوء الأداء؛ لكنَّ «كامالا» عُوقِبَت مرَّة إضافيَّة وبالتوازى على الجنس واللون. المَوجةُ اليمينيَّةُ فى أعلى مَناسِيبها، وتجربةُ الانتخابات قبل الماضية أكَّدت بما لا يدعُ مجالاً للاختلاف، أنَّ الأمريكيين ليسوا جاهزين بعد لرُؤية سيِّدةٍ على مقعد جورج واشنطن؛ فاستخفَّ التقدُّمِيّون بالإشارات الواضحة، وأضافوا إلى أسباب الهزيمة سببًا آخر، باستقدامِ امرأةٍ مُلوّنةٍ وبلا تاريخٍ سياسىٍّ، ولم تكُن زوجةَ رئيسٍ بارزٍ كسابقتِها مثلاً.
إنها مسألةٌ ثقافيَّةٌ فى المقام الأوَّل، ومن جُملةِ ما تُشيرُ إليه تلك النزعة القوميَّة المُحافِظة، وما تُحرزه فى تمدُّدِها العالمىِّ وداخل المعاقل التقليدية للرجل الأبيض. كان «أوباما» تجربةً استثنائيًّة فى الظروف والتفاصيل، ونجاحُه فى العبور قبل نحو عقدين، لا يعنى أنَّ السياقَ مُلائِمٌ لتمرير نُسخته النسوية. فماذا لو أضفنا إلى تلك العَقَبةِ الكأداء، كلَّ ما جناهُ ااديمقراطيون على أنفسِهم والعالم، وعلى البيئة الأمريكية أوَّلاً وقبل كلِّ شىء.
الحصادُ مُعبَّأٌ بالدلالات، وبعضُها أضخمُ من الإنكار أو التجاوز السهل. يعودُ الرئيسُ السابقُ للبيت الأبيض بعدما غادرَه بطريقةٍ دراميَّة صاخبة، وبدا أنه استنزفَ المشروعَ والرصيدَ وفُرَص البقاء على قيد المُنافسة، وهى عودةٌ نادرةٌ لم تحدُث إلَّا مرَّةً سابقةً، وقبل نحو مائة وثلاثين عامًا مع الديمقراطى جروفر كليفلاند. ويزيدُ أنها الحالةُ الأُولى التى يترشَّحُ ويفوزُ فيها شخصٌ مُدَانٌ فى اتِّهاماتٍ جنائيَّة، ومُلاحَقٌ فيدراليًّا وعلى مستوى عدّة ولايات. فضلاً على أنَّه يُجاهرُ بخصومتِه مع النظام، ومُعاداته لكثيرٍ من تفاصيله وآليَّات عملِه، ولا يخفِى رغبتَه فى تعديله أو تغيير معالمه، أكان عبر «مشروع 2025» الذى امتدحَه دون تَبَنِّيه رسميًّا، أو عبرَ أىِّ تصوُّرٍ بديل.
والشواهدُ هُنا تتخطَّى فكرةَ شعبيَّة الفائز أو تآكُل قاعدة الخاسرين، لتُلامِسَ سقفَ الإزعاج والقلق على الصيغة الأمريكية ومُستقبلِها؛ إذ تُعبِّرُ عن مقدارِ الريبة الذى يحيكُ بصدور الجمهور تجاه الدولة، وعدم رضاهم عن بنيانِها العام، أو افتقاد الثقة فى استقامة المُؤسَّسات وعدالة القانون، وما يتَّصل بهما من مخاوف التوظيف السياسىِّ لأُمورٍ تقعُ فى صُلب النزاهة والقِيَم المُجرَّدة. وهكذا لا تعودُ المسألةُ مُتَّصِلَةً بترامب أو مَحصورةً فيه؛ بل بالمجال العام وتوازُنات القوى داخل البوتقة الوطنية، واستشعار الشارع أنه مُحَيَّدٌ ومَعزولٌ عن اتِّخاذ القرار، أو الوصول إلى حالةٍ ديمقراطيَّةٍ سليمةٍ وناضجة؛ ما يعنى أنها لن تَكونَ آخرَ الانقلابات ولا أكثرَها صِدامًا، بقدر ما تُبشِّرُ بمسارٍ طويل من الجدل والمُناكفات، لن تبقى فيه تقاليدُ الآباء على حالها، وقد تستَولِدُ بالتفاعُل الخلَّاق أو الانقسامات العميقة، طريقًا ثالثةً غير ما كَرَّسَه الماضى ويَأبَاه الحاضرُ، و«الترامبيَّةُ» ربَّما لا تكون أكثرَ من خُطوتِها الافتتاحيَّة.
ليست كثيرةً على الإطلاق، حالاتُ التسليم الشعبىِّ الواسع بتَلوين جَنَاحَى السُّلطة بلونٍ واحدٍ. وما حدثَ أنَّ الجمهوريِّين اقتنصوا الرئاسة، وسيطروا على الكونجرس بمَجْلِسَيه، وأحرزوا أغلبيَّةً عدديَّة بين حُكَّام الولايات. إنه «طوفانٌ أحمر» صنعَه ترامب بفائض طاقته، أو حُمِلَ على مَوجِه الهادر إلى البيت الأبيض. وإن دَلَّ على شىءٍ؛ فإنه الغضبُ العارمُ من إطالة عُمر التجربة الأوباميَّة، والرَّفْض لحالةِ التنازُع التى عرفَها الكابيتول طوالَ السنوات الأخيرة، والأهمُّ أنه يَنُمُّ عن عُلوِّ النزعة المُحافِظَة، وسيادةِ الانشغال بالاقتصاد على ما عداه، والهروبٍ إلى الأمام من استحقاقات التورُّط فى الصراعات الدولية، وعن رغبةٍ واضحة فى إنهائها بكُلِّ السُّبل؛ ولو على الطريقة التى اختبروها سابقًا مع رئيسٍ فَوْضَوىٍّ مُتَسَلِّطٍ وغير مُتَوَقَّعٍ على الإطلاق.
بدا المجتمعُ مَهجُوسًا بفكرة الهُويَّة، وبالبحث عن تعريفٍ مُغاير للامبراطورية، لا يكونُ مُرتبطًا بالسداد الدائم للفواتير، ولا بخَوض معارك الآخرين بدلاً عنهم. ما يعنى أنَّ الدعمَ المُفرِطَ لأوكرانيا ليسَ مَحلَّ إجماعٍ، ولا طريقةَ التعاطِى مع إسرائيل؛ رغم وَضعِيَّتِها المُمَيَّزَة فى العقيدة الأمريكية. لقد قدَّم «ترامب» نفسَه للجمهور على صِفَة رجل الإطفاء، واختيارُه إنما يُؤكِّد رغبتَهم فى تفعيل الأسلحة لا تقطعُ الشرايين؛ وإنْ أرهقَتْ الجيوب؛ إذ حتى فى اقتراحاته الاقتصاديَّة أبدى قدرًا من الانعزاليَّة، وانحازَ للقتال بالدولار والضرائب والرسوم الجُمركيّة، وكُلّها يُحتَمَلُ أن ترفعَ التضخُّمَ وتزيد الأعباء؛ لكنها تشُقُّ مسارًا بديلاً عن المُحاربة الدائمة لطواحين الهواء، وعن البقاء فى مَحرقة الاستنزاف الأبدىِّ، أو الاقتراب من «فَخّ ثيوسيديدس»؛ انتظارًا للصدام الاضطرارىِّ الشامل مع الصين، أو أىِّ صاعدٍ آخر إلى النزاع على قُطبِيَّة العالم.
وعدَ المُرشَّحُ الجمهورىُّ فى حَملتِه بإيقاف حربِ أوراسيا، وقال إنه لو كان موجودًا ما اشتعلَ الشرقُ الأوسطُ من الأساس. والمُؤكَّد أنَّه سيشتغلُ أوَّلَ ما يشتغلُ على تبريد الأجواء مع روسيا، ولو على حسابِ أوكرانيا. والديمقراطيِّون عاجزون قطعًا عن إثارة الغبار هُنا، بعدما كانوا سببًا مُباشرًا فى استثارة العاصفة أصلاً. كما لن يستطيعوا من مقعد الأقليّة التشريعيَّة أن يُعَطِّلوا أيَّة أجندة حمراء للتلطيف مع بوتين.
يتوافرُ للعائدُ المُظَفَّر فى الولاية الثانية ما كان غائبًا عن الأُولى: الدولةُ بكاملِها من لَونِه وطبقته، والسلطاتُ مثلَ قطعةِ عُملةٍ يُمكِنُ التعرُّف على وَجهيها؛ إنما يستحيلُ فَصلُهما أو وَضعُهما فى مُقابلة. كما لا وجود لنانسى بيلوسى التى كانت تختصمُه وتتعمَّد إهانتَه، وحاولت عزلَه قبل أن يُنقِذَه الشيوخُ الجمهوريون، فكأنَّه قطارٌ على مُنحَدرٍ مفتوحٍ دون عوائق، ولا ضابطَ له إلَّا ما يُحدِّده ويُلزِمُ به نفسَه وإدارتَه، وحتى هامش المُناكفة من داخل حزبِه يُمكن استيعابُه بالترغيب أو الترهيب، ومن مُنطَلَق عِلمِهم جميعًا أنَّ الشارع فى صَفِّ الرئيس، وأنه يمتلئ بإحساس السموّ فى المكانة، والفضل على التيَّار، وقد صار مُكافئًا للحزب؛ إن لم يكن أكبر وأكثر تأثيرًا.
الحيِّزُ الوحيدُ المُتاح لإبراء الذمَّة، واستكشافِ الجولة الأخيرة من لعبةِ التشغيب ووَضع العراقيل، ربما يكون على الجانب الآخر من العالم، وفيما يتَّصلُ بالحرب الدائرة فى الشرق الأوسط، وأُفقِها المفتوح بين الصهيونية والشيعيَّة المُسلَّحة. تحرَّر بايدن ونائبتُه من كلِّ الضغوط والحسابات، وأقربُ محطَّةٍ انتخابيَّة فى التجديد النصفى بعد عامين، ومن ثمَّ لا تهديدَ لحظوظ الديمقراطيين لو مارسوا قدرًا من الغطرسة على نتنياهو وحكومته. والمُتَوَقَّع أن يُديرَ العجوزُ الراحلُ ماكيناته على أعلى سرعة، ويسعى لتطويق الميدان من غزَّة إلى جنوب لبنان، وصولاً لإيران نفسِها.
صحيحٌ أنه يُمكنُ أن يندفعَ إلى مسار الحربِ دون خشيةٍ من عواقبها، وعلى معنى أنه يُورِّثُ غريمَه تركةً ثقيلةً، مثلما فعلَ معه فى أفغانستان؛ إلَّا أنَّ سيكولوجية العجوز الراحل تُعزِّز احتمالات أنْ ينحو إلى التبريد لا التسخين، لأنَّ الأوَّل يُحَقِّقُ له خِتامًا أخلاقيًّا للرحلة، وشَطبًا على سوءاته السابقة، ولعلْمِه أنَّ التوراتيين فى تل أبيب يطلبون الثانى، والردُّ على نكايتهم يستوجِبُ بالضرورة حِرمانَهم مِمًّا يسعون إليه، وقطعَ الطريق على أن يستثمروا يَمينيّة ترامب، وإن حَدَثَ فليَكُن على معنى افتتاح الحروب وإشعال النيران المُطفَأة، وليس استكمال دراما الإدارة الراحلة، والتذَرُّع بلَملَمة ما تركَتْه خلفَها من فوضى وحساباتٍ عَالِقة.
من هُنا يُمكنُ أن نفهَم قرارَ نتنياهو الأخير على معنىً أعمق. لقد استبَقَ نتائج الانتخابات بإعلان إقالة يوآف جالانت، ونقلَ يسرائيل كاتس من وزارة الخارجية إلى الدفاع، مع إدخال جدعون ساعر إلى الحكومة قائدًا للدبلوماسية. صحيحٌ أنَّ التغيير ليس مُفاجئًا على الإطلاق، وكان معروضًا على الملأ بتفاصيلِه الكاملة منذ أسابيع؛ إلَّا أنَّ التوقيتَ يمنحُه دلالاتٍ إضافيَّةً، ويُفصِحُ عن نوايا مُتَّخِذ القرار بشأن الخطوة؛ إنْ على صعيد التحضُّر لمُلاقاة الفائز بالبيت الأبيض، أو التحسُّب والحذر من الرقصة الأخيرة المُحتمَلَة من جانب الخاسر.
برَّر زعيمُ الليكود موقفَه بتصاعُد الخلافات وفقدان الثِّقة، وقال وزيرُ الأمن إنه ضحيّةُ التنازُع على ثلاث قضايا: عُموميَّة التجنيد دون استثناء الحريديم، واستعادة الأسرى ولو بتنازُلاتٍ سياسية قاسية، والتحقيق فى إخفاق «الطوفان» وما تلاه؛ للتبصُّر وتحديد المسؤوليات واستلهام المواعظ والدروس. وبينما هلَّلَ التوراتيِّون شُركاءُ الائتلاف؛ ثارت ثائرةُ الطبقة السياسية بكلِّ أطيافها تقريبًا، وتتابعَتْ الانتقاداتُ من اليمين والوسط، واشتعلَ الشارعُ بالتظاهُرات الرافضة للخطوة باعتبارها مُراوغةً جديدة من جانب الحاكم الفرد. أدانها جانتس وأيزنكوت ولابيد وليبرمان ونيفتالى بينيت، وأجمَعوا على أنَّ سَحبَ الجنرال السابق من قلب الميدان المُشتعِل خطيئةٌ حربيَّةٌ واستراتيجيّة، وتغليبٌ للسياسة على الأمن القومىِّ، وللاعتبارات الشخصيَّة على الصالح العام وأولويَّات الدولة.
لا تنفصلُ الإطاحة عن أجواء الأيام الأخيرة؛ ولو كانت مُبيَّتَةً منذ بداية الحرب، وربما قبلها. لم تعُد المُماطَلةُ مُمكِنَةً بشأن الهُدنة مع غزة أو التهدئة على حدود لبنان؛ وقد فضحَتْها قضيَّةُ التسريبات، وأكَّدت أنَّ مكتبَ رئيس الوزراء يُقامر بالجنود والرهائن لإبقاء الميدان ساخنًا. وهو إذ ينحرُ القائدَ؛ فإنه يُقدِّم لمَرؤوسيه نموذجًا لأُمثولة «رأس الذئب الطائر»، ويحرِفُ الأنظارَ عن الجبهات الساخنة وارتباكاتها، ويتلطَّى وراء السحابة الحمراء فى واشنطن؛ لينجو بمُخطَّطه الكامل فى تل أبيب. وفوقَ كلِّ هذا؛ يقولُ ضِمنيًّا إنه قوىٌّ وثابت، كسياسىٍّ لا يخشى تصفية الحسابات تحت أىِّ ظرفٍ، وكاستراتيجىٍّ لا يتورَّعُ عن تغيير مُقاتليه فى قَلبِ الحرب، إذ لا خطرَ على المؤسَّسة والرؤية والأهداف التكتيكية والعَمَلانيَّة.
ثمّةُ ثأر قديم نسبيًّا مع جالانت. إنه الليكودىُّ المُناكِف من الداخل، وقد تصدَّى لمشروع الإصلاح القضائىِّ المُعَدّ بالاتفاق مع التوراتيِّين وأحزاب المستوطنين، وأُقِيلَ وقتَها قبل أن يعود بضَغطِ الشارع. نتنياهو هُنا يستدركُ على إخفاقِه القديم، ويُعبِّر عن هيمنتِه بأعلى صُوَرِها المُمكِنَة، إذ يُحقِّق فى زمن الحرب ما تعذَّر عليه فى أزمنة السِّلم. والمُفارقة أنه يزيحُ غريمًا ويستجلبُ آخر؛ إذ كان جدعون ساعر ليكوديًّا أيضًا، ونافسه على رئاسته، قبل أن ينشَقّ عنه بعد الخسارة ويُؤسِّس حزبَ «أمل جديد»، وإعادتُه اليومَ تأكيدٌ للهيمنة على بيتِه وتعزيز سُلطتِه فيه، ثمَّ على كامل الساحة اليمينية، فضلاً عن رَفدِ أغلبيّته البسيطة بستَّة مقاعد إضافيَّة، ما يُلقِى ضغوطًا على حليفيه بن جفير وسموتريتش، ويُقلِّص نسبيًّا من ابتزازِهم له وتهديداتهم المُتكرِّرة بإسقاطه. هو يُريد الابتزازَ ويُجيدُ توظيفَه؛ لكنّه يُحِبُّ أن يكونَ ورقةً فى يَدِه لا خنجرًا على رقبته.
التغييرُ الآن هدفُه إعادةُ الساعة إلى الوراء. سيطلبُ الوزيرُ الجديدُ مُهلةً قبل الخوض فى مُداولات التهدئة، وهو آتٍ من حقل الدبلوماسية وقادرٌ على المُراوغة، ويعرفُ الأمريكيِّين جيِّدًا ويُجيدُ التعامل معهم؛ إنما من زاويةٍ صهيونيَّةٍ قوميَّة شديدة التطرُّف والإخلاص لنتنياهو. كان جالانت قريبًا من إدارة بايدن، ويُحتَمَلُ أن يصير خنجرًا فى الخاصرة خلال الأسابيع العشرة المُتبقيّة له فى البيت الأبيض، وهو لا يُريدُ الاصطدام بمُفاجآتٍ داخلية تُعزِّزُ الضغوط المُتوقَّعة عليه من جانب الديمقراطيِّين؛ لا سيَّما مع نظرتهم لحكومة تل أبيب باعتبارها طرفًا أصيلاً فى خسارتهم. وإلى هذا؛ فإنه يحتاجُ للاستعداد وتمهيد الأرض قبل تنصيب ترامب، وأن يكون جاهزًا بكاملِ عتاده ورجالِه الأوفياء، بحيث يضعُ على طاولة الحليف العتيد ورقةً وطنيّة واحدةً، مُتماسِكَة دون ثغراتٍ، ولها حُجّيَّة الإجماع أيضًا.
ضربَ عصفورين بحجرٍ واحد؛ تخلَّص من خصمِه اللدود، وحَمَّلَه ضِمنيًّا مسؤوليةَ الفشل والإخفاق، وأعاد ضبطَ ساعتِه من الصفر، وبدأ التحضيرَ للمُواجهة الشاملة مع إيران بجبهةٍ مُتماسِكة، وبإسنادٍ أمريكىٍّ مضمون. وطهران من جانبِها لن تذهب إلى التصعيد على الأرجح، إذ يُحقِّق صعودُ ترامب قدرًا من الردع المعنوى الفاعل، وهذا مِمَّا يُضاعف حاجةَ اليمين الإسرائيلىِّ إلى بناء هيئةٍ سياسية عسكريّة راغبةٍ فى الاستفزاز وقادرةٍ عليه. ومع تسريب أنباء عن الاقتراب من إقالة رئيس الأركان ومدير الشاباك، ثمَّ نَفيها، فقد جرى ترويض هاليفى ورونين بار، وضمان أن يبقى نتنياهو إلى موعده الطبيعى فى 2026، دون أثرٍ لدعوات الانتخابات المُبكِّرة، أو فاعليّةٍ لمَنطق أنَّ تغيير الجنرال فى الحرب يُبرِّر تغييرَ السياسىَّ، ولا يجعلُه مُستحيلاً أو تهديدًا وجوديًّا.
باختصار، أطلقَ «السنوار» طوفانَه ليُغرِقَ حكومةَ الليكود؛ فأغرقَ نتنياهو خصومَه فى الداخل والخارج، وحتى حليفَه الأمريكىَّ الخاضع تمامًا لإملاءاته. خسرت غزّة عشرات الآلاف من الضحايا والمصابين، وتضرَّر حزبُ الله، وانتكست الشيعيَّةُ المُسلَّحة من رأسها إلى أذرعها، وطُرِدَ الديمقراطيِّون من كلِّ السُّلطات طَردًا عنيفًا، والفائزُ الوحيد تقريبًا ذئبٌ جائعٌ يجلس على رأس دولةٍ نازيّة مُتوحِّشة، ليشربَ نخبَه من دماء الأبرياء، ويشكرَ الأصدقاء والأعداء على الهدايا المجانية، والخِفَّة والعشوائية وسوء التقدير، وأوَّلاً وأخيرًا على الغباء فى المحبَّة والعداوة على حدٍّ سواء.