تبدَّل اللاعبون على الملعب لأسبابٍ شَتّى، من «طوفان حماس» فى غزَّة قبل سنةٍ ونيّف، إلى الهجمة المُسمَّاة «رَدّ العدوان» فى شمالىِّ سوريا اليوم، وبينهما «حرب الإسناد والمُشاغَلة» من جانب حزب الله فى جنوبىِّ لبنان، وقد تسلَّم الرايةً من الفصائل الغزِّية قصدًا، وسلَّمَها بعفويَّةٍ ودون تخطيطٍ إلى ميليشيَّات الشام.
تبدو البواعثُ مختلفةً ظاهرًا؛ لكنها تتداخلُ وتشتبكُ مع بعضِها فى العمق، وبينما عملَ كلُّ فريقٍ منهم وفقَ باقة أهدافٍ تخصُّه بشكلٍ مُباشر؛ فالمُشترك الوحيد بينهم جميعًا أنهم خدَموا الأجندةَ الإسرائيليَّةَ بصورٍ مُتنوّعة؛ ولو لم يُريدوا ذلك. وأضرَّوا قضايا الإقليم بأكثر مِمَّا أفادوا أنفسَهم. وفى الأخير؛ تنتقلُ المنطقةُ بكاملِها من سيِّئٍ إلى أسوأ.
كانت غزَّة ضعيفةً قبل مغامرة السنوار؛ لكنها صارت أضعفَ كثيرًا بعدها. والأمرُ نفسُه فى لبنان، البلدِ الهَشِّ الذى زادته نزواتُ الحزب هشاشةً وانكشافًا. أمَّا دمشق فإنها على حافة البركان منذ اندلاع حربِها الأهليَّة قبل ثلاث عشرة سنة، وبعيدًا من الملاحظات السياسية والأخلاقية؛ فالحال أنَّ البيئةَ السوريَّةَ كانت مُركَّبةً تركيبًا حرجًا، ولا تحتملُ اللعبَ فى التوازنات القائمة على أيَّة صورة، بينما تشتبكُ بمِقدارٍ مع المعركة الحزبيَّة وراء الليطانى، وتنأى عنها بمقادير ظاهرةٍ ومكتومة.
هكذا وقفت على الحياد نسبيًّا؛ فيما تتخطَّفها نصفُ دزينةٍ من القُوى المُتصارعة على ترابها، بين داعمين لبقايا الجماعات الإرهابية، وحضورٍ أمريكىٍّ يُسانِدُ الأكرادَ، وظلالٍ ثقيلة للشيعيَّة المُسلَّحة بأطيافها النظامية والميليشياوية، ثمَّ حِسبة الرُّوس الدقيقة والمُعقَّدة، وتطلُّعات إسرائيل لتحييد القوس الشمالىِّ من طَوق النار، وأخيرًا رؤية النظام نفسِه لمرحلةِ ما بعد العودة إلى الجامعة العربية، وتمرُّده المُتصاعد على أعدائه وحُلفائه السابقين دفعةً واحدة.
لم يَضَعْ «الأسد» نفسَه طرفًا بأيَّة درجة فى الحرب الدائرة منذ خريف العام الماضى؛ لكنه سُحِبَ إليها بإملاءٍ إيرانىٍّ، وعبر مُمارساتٍ تتجاوزُ أُفقَه السيادىَّ المُتكَسِّر، والملىء بالثقوب والفراغات. وهو على التحديد، لديه ثأريَّةٌ قديمةٌ مع الحماسيين؛ إذ دَعَموا الثورةَ الأُصوليَّة على نظامِه، وارتموا فى أحضان المشروع الإخوانىِّ الذى سعى لتقويض سُلطته، وحوَّل المُطالبات الاجتماعية إلى حربٍ أهليَّة.
ومع انتفاع النظام السورىِّ من إسناد الحزب طوالَ السنوات الماضية، اعتبرَ أنه يعيشُ فترةَ نقاهةٍ صعبةً، تسمحُ له بالابتعاد عن مُساندة الميليشيا اللبنانية أو رَدِّ جَمِيْلِها الطويل. وهكذا كان الدعمُ اللوجستىُّ يمرُّ عبرَ حدودِه على غير هواه؛ بينما يتلقَّى الفواتير ومُطالبات الدفع من الصهاينة بالحديد والنار، وآخرها الضربة الثقيلة على تدمر.
ولم يَدُر فى خياله بالتأكيد أنه أضعفُ حلقات اللعبة، وسيُسَدِّد تكاليفَها الكاملةَ فى الحالين: أكان النصرُ من نصيب الجمهورية الإسلامية وأذيالها، أمْ أحرزَه الصهاينةُ بيَدِ البَطش العارية. وحتى فى حال تعادُلِهما، واستفاقة اللاعبين الخاملين من شرقىِّ الفرات إلى أطراف دولته الشمالية.
الفكرةُ هُنا أنَّ الخصومَ جميعًا أداروا حروبَهم فى ميادينها الأصيلة؛ لكنها تقاطَعَتْ، عفوًا أو بإرادةٍ مقصودة، مع ساحاتٍ رَديفة. وعندما ذهبوا مُضطرّين لتهدئةٍ تُغلِّفُها التناقُضات، وترتبكُ فى كلِّ لحظةٍ بتوازُناتها الهَشَّة، كان عليهم أن يبحثوا عن بيئةٍ مُحايدةٍ نِسبيًّا؛ لترجمة مفاعيل الاتفاق، أو البحث المحموم فى تظهير النصر وإنكار الهزيمة.
وبينما تكتملُ الرؤيةُ الإسرائيليَّةُ لحَرب لبنان بقَطع خطوطِ إمداد الحزب؛ فالأخيرُ ورُعاتُه فى حاجةٍ ماسَّة لإدامة الاتِّصال، تعبيرا عن الفاعليَّة واختراق الحصار، وسَعيًا إلى ترميم القُدرات التى أحرقها الاحتلال خلال شهور النزاع الطويلة. ما يعنى أن سوريا تحوَّلت من هامشٍ إلى متن، ومن ندٍّ بين حُلفاء مُتساوين، إلى نطاقٍ وحيدٍ لاستعراض القوَّة، ومواصلة «عضّ الأصابع» والسعى إلى فرض الإرادات.
وتتَّصلُ المسألةُ قَطعًا بتعقيدات المَوقف العِرقىِّ والمذهبىِّ فى الشمال السورىِّ، وحسابات خطوط التَّمَاس فى ضَوء التنافُس الفارسىِّ العُثمانىِّ، فضلاً على الرغبة الروسية فى استثمار كلِّ الأوراق المتاحة؛ حفاظًا على مَوطئ قدمِها فى مياه المُتوسِّط الدافئة، والانتفاع منها على صعيد ترتيب طاولة التفاوض المُبعَثَرة فى أوراسيا، على معنى مُناكَفة واشنطن هُنا، لمُقايضَتِها هُناك. وبهذا صارت سوريا حلبةً لجَولةٍ فاصلةٍ فى تصفية العَوالق الإقليمية والدولية، أو تأجيجها، وفى كليهما خَلطٌ للأوراق، وضَغطٌ قاسٍ على الأعصاب المُلتَهِبَة.
أُبرِمَ الاتِّفاقُ بين لبنان وإسرائيل بوساطةٍ أمريكية فرنسية، ومن مُقتضياتِه أنْ يتقبَّلَ الحزبُ هزيمتَه، ويدخُلَ طَورَ الضُّمور العسكرىِّ والسياسىِّ. وإذا كانت الورقةُ تنصُّ على التهدئة المُؤقَّتة لشَهرين، يتبعهما تفعيلٌ كاملٌ للقرار الدولىِّ رقم 1701 بمَفاعِيله الكاملة؛ فالمعنى أنَّ أطولَ أذرُعِ المُمانَعة ستتآكلُ لدرجةٍ لن تعودَ فاعلةً بعدها، كما سيتعيَّنُ على تلِّ أبيب احترام التزاماتِها، والذهاب إلى تسويةٍ موضوعيَّةٍ بشأن النقاط الحدوديَّة العالقة، وكلاهما لا يقتنعُ بالمُخرجات؛ لذا ينظران للصفقة على أنها فاصلٌ بين حَربَيْن، مثلما كانت الحربُ ذاتُها معركةً بين المعارك.
والقُدرة على إنفاذ الإرادة المُضمَرة منهما، ترتبطُ وُجوبًا بالميدان السورى، أكان من ناحية إغلاقِه فى وَجه الحزب لينقطِعَ حَبْلُه السُّرّىِّ ويموتَ جُوعًا واختناقا، أم بإدامتِه مفتوحًا على طول الخطوط اللبنانية، بما يلغى فاعليَّة الهيمنة الصهيونيَّة، وينسف القرارين: 1559 بشأن السلاح، و1680 لإغلاق الحدود، بوَصفِهما رُكنًا أصيلاً ضمن صيغة 1701. وعليه؛ فإنَّ أىَّ اشتعالٍ فى سوريا قد يُرجِّحُ كَفَّةَ طَرَفٍ على آخر، أو يدفعُهما معًا للتعجيل بالصدام المُؤجَّل.
لا أقصدُ قَطعًا أنَّ ما يجرى فى المجال السورىِّ يتَّصلُ عُضويًّا بالمُناكفات الدائرة على الجانب اللبنانىِّ، أو أنَّ إسرائيل تُنسِّقُ بشكلٍ مُباشرٍ مع ميليشيا وإرهابيِّى هيئة تحرير الشام. إنما القَصدُ أنَّ سياق الاتِّفاق أنتج أجواءً مُلائِمَةً للتصعيد؛ إنْ لاستغلال الظرف وتداعياتِه الحَربيَّة والجيوسياسيَّة، أو للتَّشغِيب على التهدئة الحَرِجَة أصلاً، ومُحاولة البحث عن توازُناتٍ جديدةٍ تستضىءُ بما أُرسِى على الجبهة الأَصِيلة، لترتيب أوضاعٍ ضامنةٍ ومراكزَ ماديَّةٍ ومَعنويَّةٍ لأطرافٍ أُخرى، بما يضعُها فى صُلب التسوية الإقليمية، أو يُمكِّنُها من قَطع الطريق على أيَّة تفاهُماتٍ مُرتقَبَة للأمريكيين مع الرُّوس هُنا وفى أوكرانيا، أو مع الشيعيَّةِ المُسلَّحة فى المشروع النووىِّ وبقيَّة الساحات المُلحَقَة.
ولا ينفصلُ الأمرُ عن احتمالات دُخول نظام دمشق فى أُفق الاعتدال العربىِّ، وحسابات القضيَّة الكُرديَّة بتقاطُعاتِها الجغرافيَّة والسياسيَّة، ومنظومة الإمداد ورَبط الجبهات ببعضِها. لا سيَّما أنَّ تراجُع طهران فى بيروت، قد يُصعِّدُ تقدُّمَها فى دمشق، أو يُحفِّزُ خلاياها الكامنة فى العراق، وكلُّها يُحتَمَلُ أن تسمحَ للأكراد بوَصْل قنواتِهم المُوزَّعة على أربعةِ بُلدانٍ، والاستفادة من الاستئساد الإسرائيلىِّ المُرشَّح للتصاعُد مع عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض.
صحيحٌ أنَّ المنطقةَ مَوضوعةٌ على برميلِ بارودٍ منذ الربيع العربى؛ لكنَّ مَنشأ الأزمة الراهنة يعودُ إلى «طوفان السنوار»، وتداعيات المُقامرة غير المحسوبة فى غزَّة. لقد أدخَلَ الحدثُ إسرائيلَ على خطِّ الصراع الجيوسياسىِّ المُمتدِّ بطُولِ الإقليم وعَرضِه، وغذَّى لديها طُموحًا لإعادة ترسيم المنطقة وفق مُرتكزاتٍ أمنيَّة وأيديولوجيَّة.
ومن هذا المُنطَلَق، فقد انصرَفَتْ أولويَّاتِها إلى الشيعيَّة المُسلَّحة بتنوُّعاتِها، مع ما فى ذلك من تناقُضاتٍ لا يُمكن إغفالُها؛ كأنْ تسعى لإفناء «حماس» جنوبًا، وتتسامح مع تمدُّد فصيلٍ سُنِّىٍّ آخر مثل هيئة تحرير الشام شمالاً، وتُصوِّب على الوساطة القطرية مُقابل الانفتاح على جهود أنقرة، وتفتح الباب لتوافقاتٍ دقيقة مع روسيا هُنا، بينما لا تُخفى دعمَها لأوكرانيا فى شرقىِّ أوروبا.
ولَولا دخول الحزب على الخطِّ فى أكتوبر قبل الماضى؛ ما كان لتلِّ أبيب أن تلتفِتَ للقَوس المَذهَبىِّ الواسع، وترفع سَقفَ عدوانِها إلى تعقيمِ مجالِها المُحيط من الفاعليَّة الشيعيَّة. لنعودَ بهذا التسلسًل مُجدَّدًا إلى الخطيئة الكُبرى، ألَا وهى تنشيط أذرُع إيران تحت لافتة «وحدة الساحات»، واستمراء الدعايات الساذجة، دون التفاتٍ لأنهم يضعون البيضَ كلَّه فى سَلَّةٍ واحدة، ويُسهِّلون للعدوِّ أن يضربَ فى ناحية، ويجنى ثمارَ الضربة من كلِّ النَّوَاحى.
حتّى زَخَّة القَصف الأخيرة قبل وَقف إطلاق النار، ظلَّ حِزبُ الله قابضًا على خطاب العاطفة بشأن إسناد غزَّة، وأنه يُنفِّذُ ضرباتِه انتصارًا للأشقاء، بأكثر من كَونِها دفاعًا عن نفسه ومصالح وُلاة أمرِه، أو نضالاً فى الساعات الفاصلة لإثبات الحياة؛ بعدما داهمَ الموتُ مَعاقِلَه الحصينةَ. وأمينُه العام نعيم قاسم، لم يتَخَلّ عن المَنطِقِ ذاتِه فى أحدث خُطَبِه المنبريَّة، وكانت قذائفُه قد تلفَّحَتْ بالصمت فِعلاً، ولم يَعُد قادرًا على إسناد البلاغة باستعراضاتِ النار؛ مثلما اعتادَ سابقًا.
والحقُّ؛ أنَّ لُغةَ الإصبع فى كَفِّ اليّد لم تُغيِّر حقائقَ الأرض؛ لكنها عزَّزت السرديَّةَ الصهيونيَّة، وسمحَتْ لنتنياهو بتَوسيع معاركه ووَصلِها ببَعضِها؛ ليُحقِّقَ «وحدة الساحات» بالحرب تمهيدًا لفَصلِها فى السياسة. بينما تكفَّلتْ الضلالات الاستراتيجيَّة والأخطاءُ التكتيكيَّة من جانب خصومه بتَغذِيَة دعاياته أوَّلاً؛ ثمَّ بفَتْحِ الباب لخُصومٍ آخرين أنْ يتقدَّمَوا على حساب المحور، وأنْ يُطوِّقُوه من زاويةٍ لم تَكُن فى الحسبان.
ما حدثَ؛ أنَّ الميليشيا اللبنانية تضرَّرتْ بعُمقٍ وتسارُعٍ شَدِيْدَين، وكان عليها النزول عن الشجرة قبل الفناء، ولاجتناب المُخاطَرة بخسارةِ الوضعيَّة المُميَّزة ضمن منظومة الحكم القائمة ما بعد «اتفاق الدوحة». لقد قفزَ حسن نصر الله قديمًا على وثيقة الطائف والوصاية السوريَّة مَعًا بدءًا من اغتيال الحريرى، ثمَّ رَسَّخَ وصايةَ إيران ووكالتَه الانفراديَّةَ عنها عقب حرب العام 2006 وفَرْضِ «الثُلث المُعطِّل».
وبهذا المُقتَضَى؛ سحبَ الدولةَ لمُواجهةٍ إذعانيَّة، ثمَّ فاوضَ عنها بإرادةٍ فرديَّةٍ كاملة، حتى مع تفويض نبيه برّى فإنه كان حاضرًا بصِفَتِه الشيعيَّة، أكثر من كَونِه رئيسَ البرلمان أو مَجمَعَ الوِفاق الوطنىِّ. ومع اضطراره للتفويت فى بيئتِه، واستشعار الضغوط المُحتَمَلَة على الحدود، عَمَدَ الحرسُ الثورىُّ لنَقلِ ميليشيَّاته من غربىِّ حَلَب، إلى القُنَيطِرة عند شمالىِّ الجولان؛ لغايةِ أنْ تُؤمِّنَ خطوطَ الإمداد للحزب، أو تتكفَّلَ بالتصعيد مُباشرةً مع إسرائيل حالَ الاضطرار؛ لكنها من حيث لا تَدرِى فتحَتْ ثغرةً ذهبيَّةً للجُولانى وعصابته، ومَكَّنَتْه من التقدُّم باتِّجاه ثانى الحواضر الشاميَّة وأكثرها أهميَّةً بعد العاصمة.
على الأرجح؛ اعتبرَتْ هيئةُ تحرير الشام أنها أمامَ فُرصةٍ مثاليَّةٍ للتمدُّد وإعادة تركيب الواقع الجيوساسى للمنطقة. إنما لا يُمكِنُ افتراضُ أنها تحرَّكَتْ من دون ضوءٍ تركىٍّ أخضر، ربما ينبعُ من حساباتٍ تخصُّ المسألةَ الكُرديَّة مع غموض موقف ترامب بشأن الإبقاء على دعم الولايات المُتَّحدة لقوات «قسد»، أو يُحرِّكُه رَفضٌ مُطلَقٌ للتغوُّل الإيرانىِّ على الحالة السورية، ورغبةٌ فى تَصحِيف التوازنات مع روسيا، وبناء جدارٍ عازلٍ بمواجهةِ التطلُّعات الإسرائيلية.
والعُنصر الأهمُّ؛ استمرار رفض «الأسد» لعَقدِ قِمَّة رئاسيَّةٍ مع الجار الشمالىِّ، واشتراطه الانسحاب أوّلاً وتغيير وقائع منطقة خَفض التصعيد، بينما ما تزالُ الخريطةُ مَرتعًا لثلاثةِ دُوَلٍ أُخرى مُنافسة، فضلاً على امتداد اليَدِ الصهيونيَّة الطُّولَى إليها كُلَّما أرادَتْ. والمُفارَقةُ أنَّ الهجمةَ جاءت بعد أيَّامٍ من الجولة الثانية والعشرين لآلية أستانا، ما يعنى أنها أخفقَتْ مُجدَّدًا فى ضَبط العلاقة ودَوزَنَة مَصالح الثلاثىِّ الروسى التركى الإيرانى، وربما لم تَعُد صالحةً لحَسمِ المسائل العالقة، لا سيَّما بعدما تكشِفُ الإدارةُ الأمريكيَّةُ الجديدةُ عن نواياها، وتُلقى أَوراقَها الخفيَّةَ على الطاولة.
يسعى الأطرافُ جميعًا إلى تخليقِ أوضاعٍ تسمحُ بتقوية مراكزِهم إزاء ترامب. كلُّهم يترقَّبون ما ستُسفِرُ عنه الأسابيع الأُولى للرئيس الجديد، وما إذا كان سيَصدُق فى إنهاء الحروب الدائرة فى أوراسيا والشرق الأوسط، أمْ سيتلاقى مع نتنياهو فى إرادة التصعيد مع إيران، واستهداف حُضورِها الإقليمىِّ وأُصولِها الاستراتيجيَّة الكُبرى فى الداخل والخارج؛ لا سيَّما مع احتمال أنْ ينسَحِبَ نَهجُه التَّهدَوىُّ على سوريا.
وفى إطار التوافُق المُرجَّح مع الخليج وكُتلة الاعتدال العربىِّ؛ فإنَّه قد يتصالَحُ على مسألة استعادة دمشق للحاضنة اللصيقة، وتخفيف القيود بشأن التطبيع مع النظام، وقانون قيصر وضُغوطه، وجهود البحث عن صيغةٍ فيدراليَّةٍ مُتوازِنَة مع الجناح الكُردىِّ.. وحال تَحقَّقَ هذا التصوُّر كاملاً، أو اكتُفِىَ بأجزاءٍ منه؛ فإنَّه يُزعِجُ طابورَ القُوَى النَّشِطَة فى الداخل السورىِّ، مثلما لا ترتاحُ له إسرائيل؛ لكنَّ الأخطرَ أنه يَبترُ وجودَ إيران، لناحيةِ أنَّ سوريا مَعبرُها الاضطرارىُّ إلى لبنان، وقناةُ الوَصْل بين قُدراتها اللوجستيّة والبشريَّة فى العراق وخطوط الاشتباك الأماميَّة مع الدولة العِبريَّة.
والمشهد الراهن يبدو بالغ التعقيد بالنسبة لمحور الممانعة. صحيح أن سوريا مهددة بالعودة إلى أجواء كئيبة امتدت منذ 2011 حتى 2019، ويمثل التطور الأخير ضغطا قاسيا على المنطقة بأكملها؛ إلا أن إيران تظل الخاسر الأكبر، سواء بتمكين المنافس العثمانى، أم بإزاحة نظام الأسد بإيقاع أسرع ناحية الحاضنة العربية، وكلاهما يضغط على تأثيرها الحالى وفرص استدامته، كما ينعكس بظلال سوداء على حزب الله وأجندته للمرحلة المقبلة. والحال؛ أنه مثلما أدار الحرب بوعيه القديم عن سابق المواجهات، ذهب للتهدئة بالروحية نفسها، على أمل أن تكون فرصة لترتيب الأوراق وإعادة بناء قوته، وهو ما لن يكون ميسورا على الإطلاق حال تحجيم امتدادته فى البيئة السورية، وإعادة ترسيم حدود انتشار الشيعية المسلحة وفاعليتها فى نطاق الشام وتقاطعاته الإقليمية. ما يعنى أنه سيتلقى مزيدا من الضربات، ولن يكون عاجزا عن الرد فحسب؛ بل سيتعين عليه أن يُعيد تموضعه بشكل دائم تحت الأسقف المنخفضة، مع ما يُحتمل أن يترشح عن هذا من ضغوط عليه فى البيئة الداخلية، وتآكل رصيده السياسى وفرص الاستقواء على بقية المكونات الوطنية.
انقضتْ أربعةُ أيَّامٍ منذ وقف إطلاق النار فى لبنان، توقَّفَ الحزب عن استعراض قوَّتِه تمامًا، ولم تتوقَّف إسرائيل. وبينما أصدر الجيشُ اللبنانىُّ بيانًا بالخروقات، وتناولها نعيم قاسم وبعض نوَّابه فى البرلمان، فإنَّ الرعايةَ الأمريكية الفرنسية ما علَّقَتْ، كما لا إفادة رسميَّة من قوات اليونيفيل الدولية.
والسرُّ ليس أنَّ الضربات اختلاقٌ حزبىٌّ للدعاية؛ إنما أنها تقعُ فى صُلب البنود التى ارتضَتْها المُمانَعة، وحفظَتْ لتلِّ أبيب صيغةً قريبةً من «حرّية الحركة» التى رُفِضَتْ سابقًا، أكان تحت غطاء «حق الدفاع المُتبادَل» المنصوص عليه، أم فى سياق الضمانات الممنوحة من واشنطن، بمُوجَبْ ورقةِ تفاهُماتٍ جانبيَّة مُلحَقَة. ما يعنى أنَّ ما يحدُث حتى اللحظة لا يراهُ الطرفُ الضامنُ خَرقًا، وأنَّ أوضاعَ الجبهة ستنتَظِمُ وفقَ المُحدِّدات الراهنة، وسيبدأ تسجيل المآخذ من أيَّة خطوةٍ مُضادَّة يُقرُّها الأمينُ العام، أو تُمْلَى عليه من طهران.
الحربُ التى اخترعَها المُمانِعون ووسَّعوها من غزَّة للبنان، صبَّتْ فى صالح الجيوب الإرهابية الكامنة عند شمالىِّ سوريا، بما يتجاوزُ كلَّ الحسابات السابقة، والتوتُّرات التى أطلقتها ميليشيا هيئة تحرير الشام تضغطُ على المُمانَعة بما لا يقلُّ عن ضغوط الصهاينة، وكلاهما يَصُبُّ مُباشرةً فى صالح إسرائيل، أوَّلاً لأنها تعرفُ أنَّ أولويَّات الحركات الأُصوليَّة فى إدلب وحلب لا تتقاطعُ معها، كما أنها أضعفُ كثيرًا فى القوة والجغرافيا من الشيعيَّة المُسلَّحة.
ما يعنى أنها ستُحقِّقُ دعائيَّةَ الحرب الوجوديَّة وحزام النار المُعادِى بتكلفةٍ أقلّ، وربما دون تكاليفٍ أصلاً، وستُوظِّفُ الفائضَ العثمانىَّ فى تحجيم الطموح الفارسىِّ، والأخيرُ إنْ صَمَتَ سيخرجُ من الصورة، وإنْ تمرَّدَ فسيُوجِّه طاقتَه للتنافُس الجيوسياسىِّ بين الأُصوليَّات الإسلامية، ووقتَها ستكون إسرائيل لاعبًا حُرًّا من دون رقابةٍ تقريبًا، وستَضربُ على المحورين بلا خشيةٍ لأيّة رُدودٍ انتقاميَّة.
يتأكَّدُ «الأسد» عَمليًّا أنه استنفدَ أغراضَه من جبهة المُمانَعة؛ فلم تَعُد إيران قادرةً على حمايته، ولا فى إمكان الحزب أن يُزعِجَه من نقطة الصفر. وآخر رهاناته القديمة سيتعلَّقُ على روسيا، وهى بدورها تستطيعُ إنقاذَه من هجمة الميليشيات السُّنيّة، ووَضعِه بين تسوياتها المُقبلة مع واشنطن فى الساحة الأوكرانية، كما أنَّ لديها ما يغرى تلَّ أبيب وترامب بشأن السيطرة على الحدود، وقَطع الإمدادات عن لبنان تفعيلاً للاتِّفاق الراهن، وإنفاذًا فى المستقبل للقرار 1701 بتفاصيله، وهو ما يتلاقى مع رغبة النظام السورى حاليًا ولو لم يُصرِّح بها. والمعنى؛ أنه مهما كانت الأسباب الداعية لتأجيج الميدان الآن، وطبيعة الرابحين والخاسرين فيه؛ فالارتداداتُ ستَطالُ أُصولَ الجمهورية الإسلامية من جنوبىِّ الليطانى لأعماق العراق.
الجولانىّ بَيدقٌ على الرقعة، لا إرادةَ لديه ليتحرَّكَ بقرارٍ فردىٍّ، واللعبةُ كلُّها سباقٌ على حجز مقعدٍ ضمن الترتيبات المُقبِلَة. خسرَ الجميعُ بمقاديرَ مُتفاوتةٍ؛ ويَسعون لتعويض حصَّةٍ من الخسائر بحسب ما تسمحُ الظروف؛ لكنَّ أجندةَ المُمانَعة تفقدُ مزيدًا من الوَهج والصفحات؛ لا لبأسِ العدوِّ القريب والبعيد، ولا لضَعفٍ بنيوىٍّ كامنٍ فيها، وإن كان حقيقةً؛ إنما لأثر سوء التقدير وخطأ الحسابات، بدءًا من السنوار، حتى اللحظات الأخيرة فى حياة «نصر الله».
سوريا لم تَكُن بعيدةً إطلاقًا من لبنان، أكان بالوِصاية سابقًا، أم بإخلائه اضطرارًا لطهران، والظاهرُ اليومَ أنها ستكونُ خنجرًا عريضًا وساخنًا، لا فى جسد «وحدة الساحات» فحسب؛ بل فى قلب الفكرة بالإجمال. لن يُزاحَ «الأسدُ» باستفاقة هيئة تحرير الشام، ولا الأكراد سيصيرون أثرًا بعد عَين، وما زالت لمسةُ «ترامب» فى عِلْم الغيب؛ لكنَّ المُؤكَّد أنَّ المنطقةَ تختبرُ ولادةً قسريَّة لترتيباتٍ جديدة، وبعض الحناجر الأُصوليَّةُ الزاعقة فيها لعقدين ماضيين، قد تفقِدُ صوتَها غدًا، وإلى الأبد.