منذ أن انتهى شكل الاستعمار التقليدي وبدأ عصر تقسيم العالم والحرب الباردة في الستينيات وحتى الآن تتتابع على العالم مجموعة من القوى التي تحاول كل منها فرض السيطرة عليه وهو الأمر الذي تطور من محاولات الحكومات والدول إلى هيمنة الشركات الكبرى التي بدأت عابرة للجنسيات ثم صارت فوق هذه الجنسيات ذاتها لتبدأ مرحلة جديدة من الهيمنة الرأسمالية التي استغلت كل القوى الممكنة لتحقيق هذه السيطرة والوصول إلى مرحلة التنميط التي تحاول أن تضمن قولبة كل الأفراد في نمط واحد يمثل المواطن العالمي وبالأحرى المستهلك المثالي لمنتجاتها.
وخلال مراحل هذه الرحلة التي امتدت لأكثر من ستين عاما بدت على السطح في مراحل متعاقبة مجموعة من التعبيرات التي يمكنها أن تحدد الخطوط العريضة لهذه اللعبة والتي بدأت بمصطلح الحرب الباردة، والتي تلاها في عقد السبعينيات شعار ملء الفراغ السياسي بالدين في الشرق الأوسط، وهو ما ضمن تفريغ المجتمعات الشرقية من أي فعل سياسي داخلي حقيقي لصالح أنشطة منتحلة تقوم بها جماعات الدين السياسية، تلا ذلك في التسعينيات مصطلح القوى الناعمة الذي صاغه جوزيف ناي ويعني به تلك القوى التي يواجه بها المجتمع المجتمعات الأخرى في وقت السلم ومنها الثقافة والفنون والتعليم وغيرها، وهي القوى التي يمكن ضمان السيطرة على أي مجتمع إذا تمت السيطرة عليها أو استلابها، وهو ما توازى مع سقوط الاتحاد السوفيتي وبدء ما سمي وقتها بالنظام العالمي الجديد، الذي تلاه في ما بعد ضربات 11 سبتمبر وسقوط بغداد ما أسمته كوندليزا رايس بالفوضى الخالقة التي سعت عن طريقها لإنشاء ما أسمته بالشرق الأوسط الجديد، ضمن رؤية واسعة للعالم وإمكانية السيطرة عليه وهو ما تجلى فيما بعد الربيع العربي بما تم تسميته فيما بعد حروب الجيل الرابع.
إن هذا الخط الواضح عن طريق الربط بين هذه الجمل المحورية في السياسة العالمية التي صاغت الرأسمالية الغربية يمكنه أن يرسم لنا طريقا واضحا تم انتهاجه من أجل الوصول إلى الهدف الأهم لديها وهو التخلص من كل ما يمكن عده سمات قومية أو محلية من أجل خلق مستهلك عالمي مثالي يضمن لتلك الشركات الكبرى السيطرة الكاملة على مستقبل العالم.
وإذا كان هذا يبدو واضحا على هذا النحو المبسط – وربما يحتاج الأمر إلى كتاب أو عدة كتب لرصده ومناقشته إذا كان في العمر بقية – فإن التجمعات السياسية والاقتصادية الإقليمية تبدو هي خط الدفاع الأول والأهم التي يجب التمترس خلفها، غير أنه في تلك اللحظات تبدو الثقافة والتمسك بالهويات المحلية واجبا لا يمكن التخلي عنه في ظل الغزوات التي نجحت تلك الشركات في الفوز بها عبر وسائط الاتصال الحديثة بما تبثه من قيم مضادة لكل ما يضمن سلامة تلك المجتمعات.