مجدى أحمد على

عن الرقابة «1»

الإثنين، 30 ديسمبر 2024 05:04 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لم تسمع مصر فى العصر الحديث عن مصطلح «الرقابة» بهذه القوة إلا بعد ظهور السينما، وربما بعد ذلك بعشرات السنين، كان المسرح متألقا فى مصر الثلاثينيات والأربعينيات دون أن نسمع عن مسرحية واحدة منعها الرقيب،  صحيح أن «الإعلام» وقتها كان محدودا، وربما أخفى عن الناس أخبار المنع والمصادرة، وصحيح أيضا أن أغلب المسرحيات التى كانت تعرض كانت من نوع الفودفيل الساخرة، أو ترجمات لمسرحيات عالمية شهيرة، ولكن الثابت أيضا أن «الدولة» كانت تتعامل مع المسرح باعتباره نوعا من «الفرجة» لا فرق بينها وبين الكباريه أو الملهى أو السيرك، وسادت أفكار شديدة الاحتقار لكل من مارس مهنة «التشخيص» رغم الإقبال عليهم، وكانت الأفلام الأولى والكتابات الصحفية تشير إلى أن «شهادة» المشخصاتى أو العامل فى مجال الفن لا يُؤخذ بها فى المحاكم باعتباره ناقصا للأهلية كالمعتوه والمتخلف عقليا، واستمر هذا الازدواج فى النظر إلى الفن والفنانين حتى بدأت دوائر معينة فى الدولة تنتبه إلى ازدياد حجم التأثير على الجماهير - وخاصة الجماهير المؤثرة فى المدن - بشكل متزايد فبدأت الدولة تتعامل مع الظاهرة فى اتجاهين:

1 - اتجاه يلجأ إلى ممالأة الفنانين وخاصة المشاهير منهم بفضل وسائل الانتشار الحديثة «الفونوغراف / السينما / المسرح»، وصولا إلى إمكانية تكريمهم وإغداق «العطف» عليهم بالأوسمة والنياشين، وهو الأمر الذى لم يقصر كثير فى هؤلاء الفنانين فى «رد الجميل» بأغان وأناشيد وقصائد فى مدحهم، ما أعاد إلى الأذهان عصور الشعر الجاهلى وما بعده فى مدح الخلفاء والسلاطين طلبا لذهبهم وخوفا من غضبهم حيث أصبح «الولاء» للسلطان أو الأمير أو الملك مفتاح السعادة والحياة برغد ورفاهية لأن السلطان بذلك يضمن التغنى بمجده وإنجازاته وتكريس «الهجاء» لأعدائه ومناوئيه.

2 - اتجاه آخر انتبه مع انتشار الطباعة والإذاعة وغيرها من وسائل الانتشار إلى عدم الركون إلى فكرة «الاحتواء» الخفيف بالترغيب والترهيب وإنما بالحرص الدائم على مصادرة إمكانية هؤلاء «الفنانين أو الأدباء أو الشعراء» على الوصول إلى جماهيرهم بأى شكل حماية للدولة بحجة الدفاع عن القيم والتقاليد وحماية الدين والأخلاق والآداب العامة.

وفى ظل هذا الفهم تشكلت أولى خطوات الرقابة ولم يكن مستغربا أن تكون فى البداية لجنة تابعة لوزارة الداخلية تتناول العمل «أى عمل» من عين «أمينة»، وتقرر - نيابة عن الدولة والمجتمع - ما يصلح للعرض على الناس وما لا يصلح طبقا للظروف الاجتماعية والسياسية السائدة.

ولم تكن المعارك الأدبية الشهيرة فى الأربعينيات إلا بداية احتكار لهذا الحق لمؤسسات بعينها ترى فى نفسها المدافع عن الدين أو العقيدة أو القيم والتقاليد فتمت مصادرة كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» رغم قرار النيابة الجرىء - فى ذلك الوقت - بتبرئة الكاتب الفذ من تهمة الإساءة للدين، وانتهى الأمر إلى إجبار طه حسين على حذف بعض أفكاره وتغيير عنوان الكتاب إلى «فى الأدب الجاهلى» تفاديا لرياح هوجاء من النقد وصلت لتهديد حياة الكاتب نفسه.

أما كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فلم يكن الهجوم عليه واعتباره خارج الدين إلا لكونه أنكر فكرة وجود «الخلافة» كأصل من أصول الدين، وهو الأمر الذى كان يروج له «المنتفعون» من صعود الملك وقتها واستمراره كخليفة إسلامى لا كملك فى ظل نظام شبه ديمقراطى يحكم طبقا لقواعد الحكم الحديثة.

ارتبطت الرقابة إذن - منذ البداية - بالرغبة فى الهيمنة على أفكار الناس وليس المبدعين فقط، ومن فكرة أن هناك من هم أهم أجدر وأكثر معرفة بقيم المجتمع وآدابه وتقاليده وأصول دينه وما ينفعه أو يضره، وأن هؤلاء الناس هم فقط القادرون على حماية المجتمع من نزق «المجانين» الذين «يبتدعون» أشياء قد «تؤثر» على سلامة المجتمع وأمنه واستقراره، «استقراره»! التكرار مقصود.
وإلى مقال آخر.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة