فى السياسة لا تكفى النوايا، وكذلك فى الحرب. ما لمْ تترافَرْ الرؤيةُ المُنضبطة، ويسندها برنامجٌ تنفيذىٌّ محسوب؛ فإنَّ الأمورَ مُرشَّحةٌ للأسوأ دائمًا. دروسُنا القريبةُ ماثلةٌ فى غزَّة ولبنان، ومُؤخَّرًا على رقعةٍ واسعة من الشام؛ لكنَّ التاريخَ لا يَملُّ من التذكير بإخفاقاتٍ شبيهة.
سُحِقَ الألمانُ ماديًّا ومعنويًّا بعد الحرب العالمية الأُولى؛ فعادوا بصورةٍ أشرس فى الثانية، وتسبَّب الأمريكيِّون فى إيصال «طالبان« لحُكم أفغانستان مرَّتين، مثلما فتحوا الطريقَ لإيران نحو وراثة صدام حسين فى العراق، والوصول على دبَّابات الولايات المُتَّحدة إلى ما عَجزوا عنه ببنادقهم فى حرب الثمانى سنوات. وإسرائيلُ نفسُها سعت لإخراج مُقاتلى حركة فتح من لبنان؛ فكتبَتْ سطرَ البداية فى حكاية حزب الله، المفتوحة حتى الآن.
شىءٌ من الخطايا التراجيديَّة يُعادُ إنتاجُه فى سوريا. كان الربيعُ العربىُّ تعبيرًا صاخبًا عن استفحال التناقُضات الداخلية؛ لكنّه لم يَخلُ من استثمارٍ خارجىٍّ ظاهر. وبعد ثلاث عشرة سنةً تأكَّد الجميعُ من أنه لم يَكُن خيارًا صائبًا، قدَّمت مصرُ وتونس دليلاً من قُماشة السياسة، ودلَّل اليمنُ وليبيا بالفوضى والسلاح.
وعليه؛ فإنَّ ما يَجرى على أطراف الشام حاليًا، ربما يكونُ محاولةً للخروج من آثارِ الربيع الباقية، وليس تطلُّعًا إلى الدخول فيه مُجدَّدًا، أو افتتاح حقبةٍ ثانيةٍ منه. إنما لا يمنعُ هذا من الحُكم على الوسائل اتِّصالاً بالغايات، والقَول إنَّ الساعين لحَلحلة الأوضاع يُجرِّبون ذات الأدوات الفاشلة، ويُكثِّفون خطايا الماضى كلَّها فى جولةٍ قد لا تُفضى لِمَا هو أفضل مِمَّا كان.
الأسد لن يتزحزحَ عن مواضعه، وخصومُه الميدانيِّون لا يصلحون بديلاً، وحساباتُ الإقليم صارت أعصى على العودة إلى التوازُنات القديمة، وأضعفَ من تخليقِ مُعادلةٍ جديدة تضعُ طرفًا منهما فوقَ الآخر، أو تُحقِّقُ نصرًا حاسمًا، فى مناخٍ تَهُبُّ عليه رياحُ الهزائم من كلِّ الجهات.
الشرقُ الأوسطُ استنفدَ فُرصَ البقاء بحالتِه الرثّة، بينما لا يملكُ الفاعلون فيه أو المُنشغلون به مقدرةَ اللعب فى تركيبته، أو تفكيكه وإعادة تركيبه على وجهٍ مُغاير.. والمُناوشات التى تندلعُ بين وقتٍ وآخر، وتتنقلُ من جبهةٍ لغيرِها، ليست أكثرَ من تمارين للحفاظ على اللياقة، ومحاولاتٍ لاستعراض القوَّة، لا تخفُت فى مَحطّةٍ؛ إلَّا ليَنقِلَها الضعفُ إلى محطَّةٍ تالية.
انتصرَ «الأسدُ» جُزئيًّا، ولم تنكَسِرْ الميليشياتُ تمامًا. والرؤيةُ السياسيَّة لتصفية الأجواء لم تَعُد صالحةً للإنفاذ، لا وفقَ القرار الأُمَمىِّ رقم 2254 ولا بمُوجَب تفاهُمات سوتشى ومسار اللجنة الدستورية. هُنا قد يُنظَرُ للحرب على أنها تفعيلٌ للسياسة من مسارٍ ثانٍ؛ لكنَّ أقصى ما يتحصَّل منها لن يتجاوزَ تظهيرَ التجاذُبات المُعتادة، وتسخينَ الأجواء بين خَصمَيْن مَرفُوضَين من بعضِهما، وغير مَقبولَيْن من العالم أيضًا.
لهذا؛ يُمكِنُ الجَزمُ بأنَّ التصعيد الأخير لن يقودَ لشىءٍ على الإطلاق، ولو أعادَ ترسيمَ الحدود والتقاطُعات وفقَ حسبةٍ مُحدَّثة، فزَادَ فى جغرافيا لاعبٍ على حساب الآخر، أو فتحَ قنوات التفاوُض المسدودة بين النظام ومُناوئيه، أو بين القوى الإقليمية والدولية المُتصارعة على امتداد المنطقة، وفى الشام المنكوب بالأخصّ.
ظلَّتْ الأمورُ شِبهَ مُستقرِّةٍ خلال السنوات الأربع الأخيرة؛ ولعلَّها كانت المُشكلة. بدا أنَّ الميليشيات مُكتفيةٌ بأدوارها الوظيفيَّة فى إدلب وما حولها، كما بدا النظامُ راضيًا بالقسمةِ الحالية للكعكة، وبالخرائط الجيوسياسيَّة المُتجمِّدة، وفى سياق كهذا تتعلَّقُ الرهاناتُ دائمًا على الخارج.
من هُنا؛ لعبَتْ المُتغيّرات على الجبهة اللبنانية دورًا فى إزاحة الخمول، وأغرى التراجُعُ الإيرانىُّ والانشغالُ الروسىُّ فى أوكرانيا، أطرافًا أُخرى بالسعى لتحريك الخطوط الباردة. وكلاهما يضعُ موسمَ الإحلال وتبديل القيادة فى واشنطن نُصبَ عَينيه، ولا يصرفُ اهتمامَه عن تهديدات إسرائيل بعد «الطوفان الحمساوى» بتغيير وجه الشرق الأوسط، فيسعى بكلِّ السُّبل لحِفْظِ مَوقعِه فى الورشة الجديدة، أو تَوسِعَته بقدر ما تسمحُ به صلابتُه وهشاشةُ المُنافسين.
دُفِعَت «هيئة تحرير الشام« لتحريك المياه الراكدة؛ وليس لإسقاط السُّلطة القائمة فى دمشق. عَمليًّا تعجزُ الميليشيا عن بلوغ العاصمة، وتحملُ الحكومة ما يُشبِهُ «خطابَ الضمان» إزاء محاولات الإطاحة، وقد عبرَتْ المراحلَ الصعبةَ كلَّها فيما مضى، وامتحانُها اليومَ أخفُّ كثيرًا من السابق، ولولا الدراما المُتصاعدة فى الإقليم؛ ما كان له أىُّ أثرٍ يُذكَر. باختصارٍ؛ الخوف من الخارج وحساباته، لا من الداخل وتقلُّباته.
فُوجِئت روسيا وإيران قَطعًا؛ لكنهما لم تتجاوَبا مع الحدث بالطريقة ذاتِها. يُمكِنُ القَول إنَّ موسكو استشعرَتْ فيه فرصةً لتَليين بعض مواقف الحليف العنيد، وإبعادِه عن «محور المُمانَعة« بالقول، مثلما ابتعدَ بالفعل والممارسَة العمليّة، بينما ارتعبَتْ طهرانُ على مراكزها المعنويَّة فى التراب السورى، وهو بالنسبة لها يتجاوزُ قيمتَه الاستراتيجيَّة الذاتيّة، ويُمثِّلُ بوّابةً ذهبيَّةً لا غِنَى عنها للمشروع بكاملِه.
تناقُضات الفاعلين فى المشهد أنتجَتْ التصعيدَ الأخير؛ لكنَّ الظروفَ المُواتيةَ ما كانت لتتوافَر لولا «طوفان السنوار» فى قطاع غزَّة، وخطيئة الحزب وزعيمِه الراحل حسن نصر الله فى التعاطى معه، ثمَّ مُبالغات إسرائيل فى رُدودِها لدرجةٍ أزعجَتْ العواصم الإقليميَّة الكُبرى، وفرضَتْ على إحداها البحثَ عن هندسةٍ ديناميكيَّةٍ مُنشَّطَةٍ لسوريا، بما لا يتركُها فاصلاً رُخوًا بين الأُصوليَّتين الشيعيَّة والصهيونية؛ بل أنْ تصيرَ جدارًا صُلبًا فى وَجه الأجندَتَيْن المُتصارِعَتَين.
سقوطُ «الأسد» ليس من مصلحةِ أحدٍ على الإطلاق؛ ولا حتى خصومه من بقايا جبهة النُّصرة فى ثوبها الجديد، وحُلفائها على امتداد الطيف الإسلاموىِّ، الإخوانىِّ والقاعدىِّ والداعشىِّ. فراغُ البيئة المُتداعيةِ منه بشكلٍ مُفاجئٍ سيُسدِّدُ طعنةً إضافيَّةً قاسية لإيران بالطبع؛ لكنَّه سيُربِكُ الآخرين جميعًا بالتساوى.
الميليشياتُ ستفقِدُ ذريعةَ العدوِّ القريب، وتجدُ نفسَها إزاء استحقاقاتٍ عِرقيّة ومذهبيّة تتقاطَعُ مع الكُرد فى أربعِ بيئاتٍ، والحشد الشعبىِّ وامتدادته الإقليمية، ومع الصهاينة أيضًا. الروسُ قد يفقدون إطلالتَهم على المياه الدافئة، والأمريكيِّون ستَتَهدَّدُ أُصولهم الاستراتيجية الخَشِنَة والناعمة فى المنطقة، وإيران لن تكون مضمونةً إزاء تآكُلِ رصيدِ استثماراتِها لأربعةِ عقود.
يختصمُ الجميع فيما يُريدونه من حاضرِ الشام ومُستقبلِه؛ لكنهم يتصالحون على جوهر المسألة. الصيغةُ القائمة أقلُّ رَداءةً من أىِّ برنامجٍ مطروحٍ على الطاولة، والعملُ يُدارُ فى نطاق تحسين الشروط فحَسْب، لا لنَقضِها أو إرساء غيرها. وإذا كانت تجربةُ عقدٍ كاملٍ أثبتَتْ أنه لا سبيلَ للنجاة من خارجَ الدولة؛ فالمَصالحُ الآن تتلاقى على وُجوبِ بقائها، ثُمَّ يُختَلفُ فى التفاصيل لا أكثر.
يُريدُ الفُرسُ قاعدةً عسكريَّة مُتقدِّمة، وقناةً سالكةً إلى بقيّة حواضنهم. ويُريدُها العُثمانيِّون الجُدُد غلافَ حماية، ونطاقَ تمدُّدٍ يصلحُ للاستخدام لاحقًا. ولا غرضَ لواشنطن وتلّ أبيب فيها إلَّا أنْ تمتنعَ على أعدائهما؛ ولو لم تَرضخْ لهما بإذعانٍ كامل. وإذ يستحيلُ التوفيق بينها جميعًا؛ فالحدُّ الأدنى يتحقُّق باستبقاء النظام مع الإصلاح، وبالخلاص من رواسب الأُصوليَّة وما استتبعَتْه من فرزٍ إثنىٍّ وطائفىٍّ.
البلدُ أكبرُ من أن يبتلِعَه طرفٌ بمفرده، وأصغرُ من القسمةِ على خمسِ أطرافٍ أو أكثر. ومساعى ترتيب البيئة السياسيَّة والاجتماعية، وتوظيفها فى مُعادلات الجيوسياسة الإقليمية الواسعة، لن تتحقَّق على الإطلاق من خلال الهَدم لإعادة البناء، ولا إغلاق الجروح على ما فيها من صديد. لكنَّ المُعضِلَة أنَّ لا أحدَ من اللاعبين يعرف أحجامَ مُنافسيه بدقَّة، ولا خطورة الضرب تحت الحزام؛ أو يعرفون جميعًا ويُنكرون.
تخطَّى الزمنُ فواعلَ الحرب الأهليَّةٍ تمامًا، كما لم تَعُد المُقاربةُ الأُمميَّةُ صالِحةً للحلِّ؛ إذ يَصعُب التوفيق بين الدولة والخارجين عليها أصلاً، كما سيَنظُرُ كلُّ طرفٍ لأيَّة تسويةٍ لا تُؤمِّنُ مصالحه الكاملة، على أنها انتصارٌ للغريم.. والحال؛ أنَّ خصومَ «بشار» قبل داعميه صاروا يتقبَّلون وُجودَه، وفى نفوسهم شىءٌ تجاه «الفاعلين من خارج الدولة»؛ حتى مع مُواصلة تحفيزهم والانتفاع من نشاطهم فى الميدان.
بالإمكانِ استتباعُ الإرهاب واستخدامُه؛ إنما تستحيلُ إدارتُه أو الاطمئنان له على الدوام، ولن يُغامِرَ أحدٌ بتَسييده أو إخراجه من قُمقم الرعاية المحسوبة، إلى فضاء السُّلطة والقرار. وعليه؛ فإنَّ النجاح تحت السقف ربما يُطلَبُ مرحليًّا، وما إنْ ينتقلُ لنقطةٍ أبعد وأعصى على السيطرة؛ فقد يصيرُ حُلفاء الميليشيا اليومَ أوَّلَ أعدائها، وأشدَّهم شراسةً.
يُمكن أن يكون «الجولانى» وعصابتُه خَنجرًا فى خاصرة النظام؛ لكنهم لا يصلحون بديلاً عنه، ورُعاتُه المُباشرون أكثرَ الناس معرفةً بهذا وإصرارًا عليه. بالضبط مثلما يعرفون أنَّ سُلطةَ دمشق انقطعَتْ عاطفيًّا عن المُمانَعة وشعارات «وحدة الساحات«، ولم تَعتبِر نفسَها طرفًا فى حرب غزَّة، ولا فى النَّزَق الحزبىِّ فى جنوبىِّ لبنان. وترفضُ مُعالجةَ القضية الكردية بالانفصال الجغرافى أو الإدارى، وربما تتطلَّعُ للخلاص الكامل من وصاية الجمهورية الإسلامية، ولا يَمنعُها إلَّا تغلغُل الأخيرة فى بِنيَة النظام، وغياب التطمينات الكفيلة بتشجيعها على الخروج من النفق.
تتقاطَعُ طهران مع أنقرة فى حَلَب، وتتوافقان فى شرقىِّ الفرات. فكرةُ الدولة الكُرديَّة بالنسبة لهما إزعاجٌ ما بعدَه إزعاج، وتفتحُ أبوابَ الجحيمِ على القوميَّات الراسخة فى المنطقة. وإذا كانت الأهدافُ الأمريكيَّةُ والروسيَّةُ مُتعارضةً هُنا، فإنها تُوشِكُ أنْ تتقارَبَ فى أوراسيا، وأيَّةُ تسوية فى الغرب قد تنعكسُ على الشرق.
إسرائيلُ يَسوءها أنْ يظلَّ الشامُ مَعبرًا مفتوحًا إلى لبنان؛ لكنَّها لا تتخيَّلُ بديلاً عن «البعث» فى سِدَّة الحُكم، وقد تثبَّتَتْ الخطوطُ بينهما لخمسةِ عقودٍ تقريبًا، ولم تَعُد الجولان بندًا مُتقدِّمًا على أجندة النظام. إنها تريدُ من «الأسد» ألَّا يكونَ نسخةً ثانية من «نصر الله»؛ لكنها تُريدُه على أيَّة حال.
ثمّة مُفارقةٌ حقيقيَّة هُنا؛ خُلاصتُها أنَّ الجميع باتوا يُريدون الأسد، أقلّه فى الوقت الراهن. روسيا وإيران لمصالحَ مُباشرةٍ، وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة لمخاوفَ مِمَّا وراء إطاحته. بل ربما تخشى الميليشياتُ الإرهابيّة سُقوطَه أيضًا؛ لأنه سيَجُرُّ عليها شُرورًا من الرعاة والأعداء على السواء، عندما تصيرُ بديلاً عن النظام، وشاخصًا للتصويب من كلِّ المُتعادِين دفعةً واحدة، وعندما ترثُ عداواته القديمة مع عداواتها المتجددة، فيتوحَّد رافضوها عليها، وينقلبُ الداعمون اتِّقاءً لخَطرِها. الرجلُ الذى كان عُقدةَ الجميع، يبدو أنه لم يَعُد، أو بات ضمانةً لا يُرحِّبون بالتفريط فيها؛ ولو منعَهم الحياءُ والمواءمة والأيديولوجيا وتعقُّد الحسابات من التصريح.
على ما فات؛ يتَّخذُ التساؤل صيغتَه الصحيحية: أيّة نسخةٍ من «بشَّار» يُمكن أن تتوافقَ مع المُعادلات الجديدة؟ وما التركيبةُ الصالحةُ لامتصاص صدمات الإقليم، وإبقاء الدولة السورية مُتماسِكَةً عند الحدِّ الأدنى؟ وهنا تتردَّدُ أصداءُ الأجوبة فى طهران وتل أبيب وأنقرة؛ لكنها لن تُحسَمَ على الإطلاق إلَّا فى دمشق.
تقبَّلَتْ الجمهوريةُ الإسلامية هزيمةً ثقيلةً فى لبنان، وعليها أن تكونَ جاهزةً للمصير نفسِه فى الشام. ويُستَحسَنُ أن تُصاغ حدودٌ صارمةٌ للمُغامرة الميليشاويَّة المفتوحة فى الشمال، وألَّا يُدخِلَ الصهاينةُ سوريا فى لُعبة التتبُّع والحصار التى يُمارسونها مع الشيعيَّة المُسلَّحة. أمَّا النظامُ السورىُّ فعليه أن يضبِطَ حساباته مع الجميع، وأوّلهم الشعبُ الذى لم يُوضَعْ على لائحة اهتمامه حتى الآن.
تتطلَّبُ الحالُ إطلاقَ ورشةٍ وطنيَّة للإصلاح، ومحاولة بناء قَدرٍ من الوِفاق مع كلّ المُكوِّنات المدنية. ويتعيَّن ألَّا يظلَّ التصنيف من فئتين: فسطاط الدولة، وقبيلة الأعداء. فَرزُ الصفوف وتنقيتها سيسحَبُ الغطاء عن الأُصوليَّة المُتمسِّحة فى السياسة، ويُعيدُ ترتيبَ بيئة المُعارضة بما يَفصِلُ بين المحلىِّ والمُصنَّع خارجيًّا.
ومن الواجبِ أيضًا، وعلى وجه الاستعجال، أنْ تُفتَحَ قناةٌ مُباشرةٌ مع الأكراد، بل لا مانعَ من الاتِّفاق على صيغةٍ فيدراليَّة دقيقةٍ ومُتوازنة، مع الرهان على توازُنات الديموغرافيا، وعلى العودة الطوعيّة للجميع إلى أحضان الدولة، عندما تُستعادُ الثقة، وتتوافرُ القناعة بصِدقيّة التوجُّه ومَتَانةِ المَسار. لقد اكتسبَ النظامُ مناعةً ينبغى أن تحفِّزه على تجربة ما كان يخشاه، وعلى الخروج من دفء الممانَعة؛ بعدما انقلبَ نارًا حارقة.
من الخِفَّة الانسياق وراء ما قالَتْه إيرانُ، عن بصمةٍ أمريكية صهيونية وراء التصعيد فى شمال سوريا؛ كما أنَّه من السذاجة الانصراف عنه ورفضه بالإجمال. مفاتيحُ الميليشيات السُّنيّة معروفٌ مكانها، والأصابعُ القادرة على الوصول إليها، وليست فى واشنطن أو تل أبيب على الإطلاق؛ لكنها ليست بعيدةً مِمًّا عاشَتْه المنطقةُ منذ خريف العام الماضى.
كان «السنوار» يُراهنُ على سياقٍ شَبيه؛ عندما أطلقَ إشارتَه لمُقاتلى القسَّام بأن يجتازوا سياجَ غزّة، ويقتحموا الوحدات العسكريَّة ومُستوطنات الغلاف. أرادَ أن تتمدَّد الأمواجُ العاليةُ إلى ما وراء فلسطين؛ فتستنفر الحُلفاء من محور المُمانَعة، وتتداعى أركانُ المنظومة الإقليميَّة الهشّة. وما يحدثُ راهنًا فى الشام، وإنْ كان قريبًا من المقصود سابقًا؛ فإنَّه فى الواقع بمثابةِ انقلابٍ كامل عليه، ومُحاولةٍ لكَبْح أمواجِه بما يُبقِيها محصورةً فى بيئتِها الأصليَّة.
أبدَتْ الشيعيَّةُ المُسلَّحة رخاوةً مُبكِّرة، ولم تتجاوَب مع نداء تفعيل «وحدة الساحات». والنتيجةُ أنَّ الحزبَ هُزِمَ فى لبنان، وجَرَّ بهزيمتِه خرابًا على البلدِ لن يتعافى منه قريبًا، ثمَّ تمدَّدتْ ألسنةُ اللهب إلى إيران نفسِها، ومن ورائها تعالَتْ أطماعُ إسرائيل فى مُواصلة الحصار والخَنْق، وأن تُغلِقَ عليها منافذَ الوصول إلى الجبهات الرديفة، أو ربط الأذرع التابعة ببعضِها.
نالَ الاحتلالُ من «حماس»، وهى مُختنقةٌ بحُكم الجغرافيا؛ لكنَّه من أجل إكمال المهمَّة يتعيَّنُ عليه أن يعزلَ لبنان عن مُحيطِه، وتُقاومُه الجمهوريَّةُ الإسلاميَّةُ، ومع عَجزِهما عن الحَسْم فى الميدان؛ كان مُتوقَّعًا أنْ ينتقلا إلى ساحةٍ بديلة لاستكمال الجولة، أو تظهير التوازُنات الجديدة على صورةٍ قاطعة. وإذ يتحضَّرُ الطرفان لصياغةِ سيناريو المرحلة، كان غريمٌ ثالثٌ يُراقب المشهد، ويستعدُّ لنَثر الغُبار فى عيون الغريمين.
ربما يُرَدُّ التسخينُ إلى مُكابرة الأسد، ورفضِه الوصول إلى توافُقاتٍ مع الجيران؛ لكنه ليس المقصودَ الوحيدَ من قرار إشعال الجبهة الآن. لقد أُرِيْدَ من الخطوة استغلالُ الظَّرْف المُتاح للانقضاض على الوجود الشيعىِّ، وإرسال رسالةِ رَدعٍ أو تحييد للأجندة الصهيونية، ووَضع موسكو وواشنطن فى صورةِ المستقبل السوداء؛ حالَ التخلىِّ عن سوريا أو تَركِها مَلعبًا مفتوحًا للأُصوليَّات المُتصادمة.
على هذا المعنى؛ وُصِلَتْ «حلب» بالساحات المُتأجِّجة فى حزام المُمانعة، لا لشىءٍ إلَّا أن تُقتَطَعَ سوريا بكاملِها بعيدًا عن الشيعيَّة المُسلَّحة، أو على الأقل عن تداعيات الطوفان. إيران قالت إنها جاهزةٌ لإرسال قوَّاتٍ لو طلبتها دمشق؛ وربما تعرفُ أنَّ «الأسد» لن ينحاز لهذا الخيار، ولن يتركه الروسُ إلى أن يصبح خيارَه الوحيد. كما أنَّ الميليشيات السٌّنيَّة ومَنْ يُحرِّكونها لن يُصَعِّدوا لمستوى تهديد النظام فى وجوده، أو بما يَضطَرُّه للاقتراب أكثر من طهران.
بإيجازٍ، يبدو المشهدُ السورىُّ فَصلاً أخيرًا فى طوفان السنوار، وفى استراتيجية الجمهورية الإسلامية التى ظلَّت فعَّالة خلال العقدين الأخيرين، وتُوشِكُ أنْ تصيرَ أثرًا من الماضى بعد عَين. سيخرجُ «الأسد« من الجولة ضعيفًا بفقدان ثانى حواضر الدولة، وأقوى لأنه سيَحِلُّ واحدًا من أطواق إيران الملفوفة على رقبته، ولن تتغيَّر المسائلُ الجوهرية للوَضع القائم.
كأنّنا إزاء «طوفان مُضاد»؛ وبسلاح الأصوليَّة أيضًا. وإن كان فيما يجرى شىءٌ ينتمى للحرب الأساسيَّة؛ فإنه أقربُ لخطاب نتنياهو عن الشرق الأوسط الجديد. تُرسَمُ الخرائطُ بالدم وتُسيَّجُ بالنار، وتَسقُطُ كلُّ السرديَّات التى هيمَنَتْ على المنطقة فى عقودِها الأخيرة. لا الإرهاب يحمى رُعاتَه، ولا التسلُّطُ يردعَهم، كما لا يُبشِّر انتهاكُ الدُّوَل الوطنيَّةٍ بشىءٍ سوى الخراب. رسالةُ «السنوار» سقطَتْ فى حلب، بعدما مَرَّت على الضاحية فأحرقَتْها، والطوفان الذى وُلِدَ فى غزَّة، يبدو أنَّ شهادةَ وفاتِه ستُكتَبُ فى الشام.