ما كان يسيرًا أن تخرج الانتخاباتُ الرئاسية الأخيرة بالصورة التى بدت عليها من دون الحوار الوطنى. فأثرُ الورشة الجامعة لم ينحصر فى تقريب رُؤى السياسيِّين فقط، ولا تشجيع بعض الأحزاب على خوض التجربة؛ إنما نَقلَ للشارع إشارةً كهربائية أقوى عن حيويّة البيئة النخبوية، وأن عناصر الاختلاف على ما يبدو فيها من حدَّةٍ حينًا، ومن جذريّةٍ أحيانًا، لا تزال قابلةً للبحث الرصين والتوافقات الهادئة، وثمّة مُشتركات صالحةٌ للبناء عليها. والمعنى أن الدولة ليست مُرتهنةً للخيارات الصفرية، ولا إلزامَ بانتهاج مساراتٍ راديكاليةً تُعوّق التواصل وتُعمّق التباينات. وبينما لا يُمكن إنكار تأثير بعض العوامل الخارجية على مُعدَّلات المُشاركة والتصويت؛ لعلَّ أهمّها مسألة غزّة، ورُزمة التحدّيات التى تُطوِّق ثلاثةً من حدود مصر الأربعة، فإنَّ الباعثَ الأوّل يصحُّ إيجازُه فى رغبة القاعدة الشعبية أنْ تُجرِّب لُغةً مُغايرة، وتفتح الباب لمساحةٍ من التفاعل الخلّاق والبناء المُتراكم، تعويلاً على أن يصير «الحوارُ» رافعةً مدنيّة تُخفِّف الأثقالَ عن كواهل الجميع، وتُرمِّم شُقوق النزاعات القديمة وما تركته من تشوّهاتٍ فى الخطاب والمُمارسة. ربّما قرأ البعضُ الرسالة كما هى، وأخفق آخرون أو حاولوا تحويرها؛ لكنّ الشاهد الإجمالى على حصيلة الشهور الأخيرة، أنَّ ما ذهب إليه السياسيون بحماسةٍ أو توجُّس، ارتاح إليه الناخبون وأقرّوه فى صناديق الاقتراع.
دعا السيسى إلى الحوار رئيسًا، والتزم فلسفتَه مُرشَّحًا، وجدَّد التمسُّك به فائزًا بولايته الجديدة. كان أول ما نُقِل عنه عقب إعلان النتيجة، أنْ قدَّم الشكر لمُنافسيه، مقرونًا بإبداء الرغبة فى استكمال التجربة، ثمَّ استقبل المُرشَّحين الثلاثة كبرهانٍ عملىّ على أن الخُصومة السياسية يجب ألَّا تتجاوز أدوات السياسة. ينطبقُ ذلك على الانتخابات، وسَقفُها القَبول الشعبى، كما ينطبق على التحاور وصُلبُه تداولُ الرؤى على مُرتكَزٍ فنّى، وانتخاب الأكثر إقناعًا منها؛ بما لا يفتئت على تمايزات الأيديولوجيا أو يتجاوز الدستور والقانون. وإن كانت الساحةُ بصدد الاقتراب من جولةٍ حواريّة ثانية؛ فالأصلُ ألَّا يغيب رأىٌ مهما بدا عاطفيًّا أو دعائيًّا، وألَّا يُنصِّب أصحابُ الآراء أنفسَهم بديلاً عن السلطة ومرافق الحُكم. واجبُ الدولة أن تكون حاضنةً للجميع، ومهمَّة الأحزاب ألَّا تتغوَّل على المُؤسَّسات والشرعية التمثيلية لأفرادها. إذ فى الأخير هى مُقاربة ظرفية، بمعنى أن الحوار الوطنى ليس برلمانًا ولا نائبًا عن جهة الإدارة، كما أنه لا يُمكن أن يكون ورشةً دائمة بطابعها التنظيمى القائم؛ لكنه آليّةٌ استثنائيّة لرَدم الفجوة القديمة، وتمكين أطرافه من استعادة قُدرات الاشتباك والجدل بأدوات الصراع السلمى، وهى اليوم طاولةٌ توافقيّة مُرتَّبة، وغدًا تعود لأصلها سِباقًا فى المجال العام وتنافسًا على أصوات الناخبين.
المرحلةُ الأولى فرضت أن يبدأ الجميعُ من الصفر. لقد كانت الأضرارُ الناشئة عن 2011 وما بعدها كبيرةً؛ لدرجة أن الرواسب القديمة وسوء الفهم سيطرا على وعى الجميع؛ لهذا احتاج مجلسُ الأمناء سنةً أو يزيد لبناء قاموسٍ معيارى، يُمكن الاستناد إليه فى ترتيب المقاعد وقَبول التجاور، وكان ذلك تحدِّيًا أكبر من مسألة الموضوعات المُقترحة والحلول المُمكنة. وبعيدًا من كلِّ ما أنجزته المرحلةُ الأولى أو تعثَّرت فيه، فإنّ مساحة الاتصال التى بُنِيَت على مدى شهورٍ طويلة، وأجندةٍ ضخمة من الجلسات والأوراق، تُيسِّر اليومَ أن تتجدَّد الورشةُ من نقطةٍ أكثر تقدُّمًا ممّا كانت عليه. لا سيّما مع افتراض أنَّ المُشاركين لم يتعاملوا مع الجولة الأولى باعتبارها رياضةً ذهنية، أو مُكافأةً عن الخطابات الساخنة وتعويضًا للأبنية الهشَّة؛ بل وضعوها منذ البداية تحت المجهر، واجتهدوا لمعرفة أنفسهم قبل الآخرين، والإحاطة بعناصر قوَّتهم ونقاط ضعفهم. ويتفرّع عن ذلك أنَّ مراكزَ ماديّة ومعنويّة قد تكشَّفت، وأضافت الانتخابات الرئاسية أبعادًا لا يُمكن تجاهلها، وصار بمقدور كلِّ فريق أن يعرف وزنَه النسبىَّ الحقيقى، وأن يُحدِّد أهدافَه التكتيكية والاستراتيجية، ويمضى على بيِّنةٍ من حقائق الأرض، وليس بأوهامٍ أنتجتها حقبةٌ سابقةٌ من السيولة، وتجاوزها الواقع والزمن.
لناحيةِ الدولة؛ فالظاهرُ أنها تُعوّل على الحوار ضمن رؤيةٍ عملانية لإدارة التحدِّيات القائمة، وأثر البيئة السياسية والاجتماعية فى الاستجابة المرنة داخليًّا، وبناء المواقف الرسمية خارجيًّا. وحصيلةُ ذلك أنها ستسعى للتوافق عند الحدود العاقلة والمقبولة، وبما لا يُعطِّل أدواتِها الفاعلةَ أو ينتهكُ الحدودَ المرسومة دستوريًّا. لتكون الورشةُ الحوارية مدخلاً لبناء الإجماع فى مسائل الأمن القومى والثوابت العُليا، ووسيلةً لإعادة بناء المجال العام عبر بدائل حيويّة، تُغذِّى المُؤسَّسات وتُعيد هيكلتَها بصورةٍ ناعمة ومُتدرِّجة. ويتعيَّن أن تتعاطى القوى السياسية مع الحالة بوصفها ميدانًا للفَهم والتكامل، لا للتكاسُر وصراع الإرادات، ودورُها تأهيل الملعب وضَبط قواعده، أكثر من انتزاع المكاسب وتعديل الأوزان النسبيّة؛ إذ تظلُّ الأخيرة من حقِّ الجمهور ومهامه المُباشرة، وطريقها عبر الإقناع والشعبية وحَسم المنافسات الانتخابية، والحوار الوطنى ليس بديلاً عن هذا؛ ولا يصحّ أن يكون.
كان مجلسُ الأمناء مُشكَّلاً من تسعة عشر عضوًا، يُمثّلون النُّخبةَ بتنويعاتها السياسية والفنية. والتصوُّر الجديد ربما يفرض الانتقالَ من الخاص للعام: من الذهنى حصرًا إلى التداولى اليومى، ومن النخبوى إلى الشعبى. أى أن يتوسَّع المجلس ليشمل حضورًا أصيلاً للنقابات المهنية والعُمّالية، وليس عبر وسطاء أو مُنتمين لها بالوعى والعضويّة، وأن يتَّسع حضورُ النساء والشباب ويتنوَّع، وتُمثَّل البيئاتُ الحضريّة والريفية بمندوبين عن الأقاليم، ويحلُّ رجالُ الأعمال والعُمَّال وروابط التجّار والمُستهلكين، وربما يتفرَّع عن ذلك توسعةُ المحاور واللجان العامة، واستحداثُ لجانٍ فرعيّة تتولَّى مهمَّة تنظيم لقاءاتٍ نوعيّة وجماهيرية؛ ليكون الشارع شريكًا بالمُمارسة المُباشرة لا بمجرَّد الاهتمام والمُواكبة. إن كان مطلوبًا أن ينتظم المرفقُ بوصفه ظهيرًا للدولة بمعناها الكيانى، وهو بالقطع ليس جهةَ تشريعٍ أو تنفيذ؛ فالأوقعُ أن يكون مُلتقىً فكريًّا ومنصّةً للحوار المجتمعى، ربما يتميَّز فيها السياسيِّون والكيانات المدنيَّة باعتبارهم خليطًا من الأفكار والتلاوين الفئوية والجغرافية؛ لكن يتعيّن ألَّا تغيب بقيّةُ الفسيفسائيّة الوطنية العريضة؛ لا سيّما الذين لا ينخرطون منهم فى أحزابٍ أو مُنظَّمات، ولا تجمعهم روابطُ أو نقابات. فمهما عبَّر الوكلاءُ عن مصالح الجمهور، يبقى شىءٌ ناقص لا يستكمله إلّا الحضور الأصيل.
من زاويةٍ أُخرى؛ فإنَّ الذهاب إلى هَدم الجدران، وفَتح الحوار على الشارع؛ ربّما يلقى مُعارضةً من المعارضة. وأصلُ المشكلة أن الأحزابَ تعيشُ طَورًا من الرخاوة والانكشاف، بعضُه عائدٌ إلى الحالة العامة وما أفرزته مُقامرات مرحلة «الربيع العربى» وأطماعها، وأغلبه يتّصل بتركيبتها الداخلية وما تعانيه من سيولةٍ فى الفكر والحركة؛ حتى أنها انقسمت على نفسها أكثر ممّا التحمت بالناخبين والقواعد الشعبية. وربما لا نحتاج لاستعادة تجارب مثل «الناصرية» التى بدأت حزبًا وانتهت أربعة، ولا «التجمّع» الذى تعرَّض لضرباتٍ صديقة قضمت منه حزبين إضافيِّين، أحدهما عاجزٌ عن جمع خمسة آلاف توكيل للتأسيس منذ سنوات. المهمُّ أنّ تُراثَ العشوائية والارتباك منذ عودة الأحزاب أواخر السبعينيات، وخِفّة الحركة والتحالفات بعد ثورتى يناير ويونيو، ونزاعات القيادة والهيمنة بين زعامات مجهولةٍ فى بيئةٍ عاجزة عن التربية السياسية وتأهيل الكوادر، أفضت كلُّها إلى زحامٍ من اللافتات المُتشابهة، والفاعليّة الغائبة فيما بينها وأمام الدولة والجمهور. وتعويضًا عن الاستحقاقات الواجبة داخليًّا، وهروبًا من المسؤولية الذاتية عمَّا آلت إليه الأحوال، استسهل بعضُها أن يصطنع مظلمةً ويُعلّقها على السلطة، وأن يُفتِّش عن أسهل المداخل لإحراز ما لم يُحرزه بالعمل الجاد. وهكذا رأى كثيرون فى دعوة الحوار الوطنى فرصةً للمُشاحنة والابتزاز، وتحت ستار القوَّة الموهومة اعتبروها تعبيرًا عن محنة النظام، وأسَّسوا مُقاربتَهم للتجربة على معيار التفاوض فى الأرباح، وليس التشارُك فى بناء التجارة الرابحة أوّلاً. وربّما سمح الظرفُ السابق بأن تتنفَّس سرديَّتهم الساذجة، فانخدعوا بها وساروا تحت سطوتها؛ إلَّا أن ما أفرزه الاستحقاقُ الرئاسى يُبدِّل فى تلك المفاهيم؛ فقد سجَّل مُشاركةً تاريخية، من واقع بيانات الهيئة الوطنية للانتخابات، رغم دعاوى بعض التيَّارات للمقاطعة، وشاركت أحزابٌ عريقة وحديثة، وترتَّبت مواقعُها بقوَّة الصندوق، والرئيس الذى كانوا يختصمونه تجدَّدت شرعيته بأعلى حصيلة أصواتٍ فى ولاياته الثلاث. ومن هنا يتّضح للبصير وذى البصيرة أن الواقع غير ما كان يفترضُه الآتون من الماضى، بكياناتٍ ضعيفة وخطابٍ يعلوه التراب، وصار الفراقُ عن الأوهام القديمة، والدخول فى لَحم الحاضر، فرضًا لازمًا لا نافلةً ولا رفاهية.
الحوارُ من أوَّله كان تعبيرًا بليغًا عن الواقعية السياسية. الدولةُ عندما استشعرت عُمقَ التحدِّيات، وحاجةَ المجتمع إلى عقدٍ جديد، يُفارق المُعادلةَ الخشنة التى انبنت عليها الأحوال تحت حكم الإخوان وبعد إرهابهم الطويل، دعت أهلَ السياسة من المُعارضة والمُوالاة لمائدةٍ واحدة. وكانت تعرفُ حَتمًا أن اللقاءَ لن يُذيب جبلَ الجليد كاملاً، وبالضرورةِ لم يكن فى ذهنها أن يُنتِجَ تطابُقًا فى الرُّؤى، أو يزوره الناس مُختلفين ويُغادروه فريقًا واحدًا. لقد فرضت البراجماتيّةُ أن تتَّسع الآذانُ لتسمع أبعدَ الأصواتِ وأشدَّها خُفوتًا، ولا تتنكَّر للزاعق منها والشعبوى، وهى فى ذلك إنما كانت تخطُّ معالمَ الطريق ولا تُحدِّد نهايتَه. والواقعيةُ نفسُها تفرضُ على تيَّارات السياسة أن تقرأ اللافتات الإرشادية وتُعيدَ ضَبط السرعات؛ فما كان يحتمل الديماجوجيّةَ والخطابةَ سابقًا قد لا يتقبَّلهما الآن، وما سَوّغ لها نفخَ الأوداج وادِّعاء الضخامة لم يعُد مُقنعًا؛ وقد ألقت عليه انتخاباتُ الرئاسة ضوءًا كاشفًا. ولعلَّ من أشراط الواقعية أن ترى نفسها والمُنافسين على الحقيقة، لا كما تتمنَّى، وأن تعودَ لجوهر السياسة بوصفها نِزالاً حريريًّا مع واقعٍ قاسٍ، وعملاً دؤوبًا على المأمول بارتضاءِ المُمكن، والتدرُّج فى التجربة والخطأ على أملِ التراكُم وحَسم المواجهات بالنقاط.
خسارةُ المعارضة فى جولةٍ لا تقتلُها قطعًا؛ لكنها تُوجِب عليها استيلادَ نفسِها على صورةٍ جديدة. وكان سقوطُ دعاوى مُقاطعة الانتخابات، وخسارةُ منافسيها فى السباق، مُؤشِّرًا على حاجتها لخطابٍ جديد. والمنطقىُّ أن يدفعها ذلك للبحث عن قنواتٍ فعَّالة مع الدولة، وأن تصيرَ أشدَّ تمسُّكًا بالحوار من السلطة نفسها. لكنَّ المُضحك أن «الحركة المدنية» مثلاً تُجابه تحدِّيات ما بعد الرئاسة بالأدوات التى كانت قبلها، وتُقارِب المشهدَ كما لو أنها تقبض على ورقةِ تفاوضٍ وفى جَعبتها ما تُقايض به الدولة. كان مُثيرًا أن تتحدَّث عن دراستها للمُشاركة فى الحوار من عدمها، وأن تطرح قائمةَ شروطٍ مُسبقة. وبعيدًا من ماهية البنود أو منطقها وعدالتها؛ فإن ذلك لا ينسجم مع واقع الحركة، ولا ما تفجَّر داخلها من تناقضٍ وصراعات، وكونها انقسمت على نفسها؛ عندما انحازت لشابٍ ناصرىّ رقص على حَبل الإخوان، وخاصمت حزبًا أصيلاً فيها، وتسافل بعضُ قياديِّيها على مُرشَّحه الرئاسى. فضلاً على عجزها عن المحاورة البينية، ووصول خلافاتها للقضاء فى مُشاجرةٍ بين عضو بها وأحد حُلفائها، بل تزحزحتْ أربعةٌ من أحزابها نحو كيانٍ بديل، نصَّبوا له مُنسِّقًا يُحب التطبيع ويُقيم فى قنوات الجماعة الإرهابية، وفوق كل ذلك يتسلَّط عليها كيانٌ تأسَّس لفائدة رجلٍ أعمال، له سابقةُ مواقف تجاه العُمّال تتصادم مع النزعة اليسارية لشُركائه الماركسيِّين والقوميِّين. كأنها حالةُ ائتلافٍ عشوائية، وكأنه انتحارٌ بالغرور المجّانى وخيانة الذات.
أراد السياسيون منذ البداية أن يكون «الحوار» سياسيًّا فقط. أمَّا المُهتمّون بكفاءة التجربة وشُمولِها فانحازوا لأنْ يكون ورشةً شاملة. الخُلاصة أنه قدّم أغلبَ رؤاه فى الاجتماع والسياسة، وحلَّ الاقتصادُ ثالثًا بنحو رُبع المُخرجات؛ بينما السؤالُ المُلحّ الآن يقع كاملاً فى الحقل الاقتصادى. هذا ما التقطه الرئيسُ ولم تنشغل به الأحزاب؛ فدعا إلى أن يضبطَ المُتحاورون أولويّاتهم بما يقتضيه الظرف. أنجزت الدورةُ الأُولى 6 أسابيع من الجلسات العامة، واثنين تخصُّصيين، بإجمالى 44 جلسة و123 إجراءً مُقترحًا. ويتأهّب مجلسُ الأمناء لافتتاح دورته الثانية؛ فتَرَك أُسبوعين لاستقبال الأفكار، وتلقّى خطَّة الحكومة الاستراتيجية 2030، وتشتمل على 873 توصية فى 8 توجهات مالية وتنموية. قال ضياء رشوان إنهم سيُركِّزون على التعامل مع التحدِّيات الراهنة، دون إغفال بقيَّة المحاور والاهتمامات. ولعلَّ ذلك أفضل أبواب الدخول فى حالة الجدل الخلَّاق؛ إذ يُمكن عبر البدء بالمُشتركات عامّة النَّفع، أن تتفرَّع الأمورُ إلى الاختلافات، بوتيرةٍ أقلّ من الحِدّة والانغلاق والحسابات الشخصية.
فاز الذين تفاعلوا مع الفكرة بروحٍ إيجابية. ثلاثةُ أحزابٍ انخرطت فى سِباق الرئاسة، وصار بالإمكان الحديث عن صفٍّ أوَّل من الطبقة السياسية، يعرفُ الناسَ ويعرفونه أكثرَ من الآخرين. «المصرى الديمقراطى» مُؤهّلٌ مع حليفه «العدل» لقيادة تيّارٍ مُعارضٍ أكثر عقلانيّة وانغماسًا فى الواقع، و«الوفد» قد يخرج من مرحلةِ مُراجعة الذات أصلبَ وأكثر تماسُكًا، وحتى التيَّارات الداعمة للإدارة اختبرت حساسيةَ الشارع، وعرفت نقاطَ قوّتها وثغرات ضعفها. وبانتظام المَسير ستتعبَّدُ الطريق، وتلينُ المواقف المُتحجِّرة أو تتَّسع عقولُ أصحابها. والأكيد أن فريقًا سيظلّ على تكلُّسه القديم، ومُراهقته الحارقة، ولن يسترعيه أن خطابَه يطيرُ فى الهواء؛ لا لطاولةِ البحث النخبوىِّ الجاد ولا آذان الجمهور العريض.. يُؤسِّس «الحوار الوطنى» لرافعةٍ ثقيلة ستُعيد بناءَ المجال العام؛ أراد سُكَّانُه ذلك أم رفضوه، وكُلَّما تقلَّبت التُربة تتبدَّل علاقاتُ أطرافها وتكتسب لونًا مُغايرًا. ليس الامتحانُ فى التوصُّل لوفاقٍ عن السوق وأولويات التنمية، أو تنظيم مُنافسات السلطة وحدود المُشاحنة بين أطياف الأيديولوجيا الآن، أو الفوز بترضيةٍ مُعجَّلةٍ لم تُنتَزَع بمُعاناةٍ ودأب؛ بل أن يقتنع الجميعُ أننا فى مخاضٍ قد يُحدِّد شكلَ المستقبل القريب، وما بعده بالضرورة، والشراكةُ فيه أجدى من القطيعة، وراحةُ الغياب عنه أشقى من مَشقَّة الحضور، وخطوتُه الافتتاحيّةُ التى يتعالى عليها البعضُ أهمُّ من الأخيرة التى يتمنّونها، فالسباقات تُربَحُ عند خطّ النهاية، ولا يصلُه إلَّا الذين انطلقوا من بدايتها. كأنَّ خليطًا من الوُجهاء يقفون على ضِفّة النهر، لا يسبحون ولا يُجدِّفون، ويتعشَّمون أن يبلغوا الشاطئ الآخر؛ بينما حكمةُ الأيام الصارمةُ أنه لا وصولَ إلَّا بعد جهدٍ وسفر.