ليس الحزنُ وحده ما يبدأ كبيرًا ثم يتضاءل؛ بل الفرح أيضًا، وكذلك مواقفنا من الأحداث التى نعتبرها وجودية فى وقتها، وقد نخلعُ عليه أوصافًا وتفسيراتٍ تزيد على حجمها الطبيعى أو تنقص؛ ثم تتكفَّل الأيامُ بردِّنا إلى المنطق ردًّا جميلاً. واليوم تنقضى ثلاث عشرة سنة على اللحظة التى رآها البعض تتويجًا لثورة يناير، واعتبرها آخرون تتمَّةً لمؤامرة طُبِخَت خارج الحدود، وما زال طيفٌ من الفريقين على الاعتقاد القديم.. ما كان المشهدُ شرًّا كاملاً ولا خيرًا عميمًا؛ الأرجحُ أنه ظلَّ خليطًا من الحالين، ولأن هدير الحناجر غطَّى على حفيف العقول؛ تاهت الأغلبية عن جوهر الصورة، واحتُبِسوا فى ظاهرها، وإلى الآن ثمَّة رومانسيّون سُذَّج يبكون على أطلال نظام قديم، وأشدّ سذاجة منهم لم يُغادروا خيامَ التحرير بعد.
عند السادسة من مساء الجمعة 11 فبراير 2011 انقطع بثُّ التليفزيون الرسمى، وأذاع اللواء عمر سليمان، نائب الرئيس وقتها، بيانًا مُقتضبًا لم يتجاوز 33 ثانية، وخمسًا وثلاثين كلمة بحساب البسملة، أعلن فيه تخلِّى مبارك عن منصبه، وتكليفه المجلس الأعلى للقوات المُسلّحة بإدارة شؤون البلاد. بعدها بسبعة عشر شهرًا رحل النائب، وعاش أطول حكَّام الجمهورية تسع سنواتٍ تالية، قضى أغلبها بين المحاكم مُتّهمًا وشاهدًا ومُدانًا، ثمّ رحل فى الشهر نفسه من العام 2020، بفارق أسبوعين عن ذكرى إطاحته من السلطة؛ كأنها كانت فاصلَ المراسم بين خروجه من القصر ودخوله إلى القبر.
فى المُقاربة السطحية؛ سيرى الثوّارُ الأبرياء أنهم أزاحوا رئيسًا عتيدًا بعد ثلاثة عقود من الهيمنة الكاملة، وسيرى أبناؤه ومُحبّوه من داخل نظامه وحزبه أو خارجهما، أنه انتصر للوطن على شخصه، وغلَّب المصلحةَ العُليا، قاطعًا الطريق على إرباك الدولة. شىءٌ من الصحَّة فى الرؤيتين، وأشياء من الخطأ، وأول الأخطاء وأكبرها أن يتوهَّم مُعارضوه أنهم حسموا الأمر فى الشارع باحتجاجٍ برىء فحسب، أو أن يظن مُؤيّدوه أنه كان مُخيّرًا فى بديلٍ دَامٍ؛ فاختار التضحية الناعمة. ولعنةُ السياسة فى مصر أنها تُعرَّفُ على صفة النسبية والإمكان، وتُلعَبُ على شرط الاحتراب والإلغاء، وما كان الهاتفون للرئيس أو ضدّه بعيدين عن هذا التبسيط المُخلّ، بكلِّ تلاوينهم وما بينهم من اختلافاتٍ وشِقاقٍ حاد.
أستطيعُ الآن، وعلى مسافةٍ مُريحة من المحرقة، أن أصف النارَ والحطب؛ دون تأثيرٍ لصقيع يناير أو ثأرٍ ممَّن استغلّوه لإنعاش الأُصوليّة والإرهاب. كان «مبارك» قيادةً عسكرية رفيعة، وله إسهامٌ مُقدَّر فى ملحمة تحرير سيناء، ولا يستطيع أحدٌ الطعن فى وطنيته وانتمائه لمصر. وبالتوازى لم يكن حكمُه الطويل مثاليًّا، وقد أدخل البلد فى دوَّاماتٍ مُتلاحقة من الأزمات، وأورثها متاعب واختلالات ما زلنا ندفع ثمنها، وكان الفساد زاعقًا بعلمه، أو بعجزه عن حوكمة الإدارة وتقليم غصون النظام المنحرفة. والشارع فى يناير اختصمَه فى الثانية، وظلمَه فى الأُولى، ومن كانوا داعمين له أو مُتربّحين منه فعلوا العكس، بينما يسير القطار على قضيبين لا يلتقيان، ويصحُّ أن يكون الرجل مُصيبًا ومُخطئًا فى وقتٍ واحد.
دعوةُ التظاهر تأسَّست على تراكُمٍ احتجاجىّ طويل؛ لكنها جاءت مُفاجئةً فى موعدها وغامضةً فى تفاصيلها. كانت تونس قد أشعلت ثورتَها ويُوشك «بن على» أن يركب الطائرة لمنفاه الاختيارى، عندما دعت صفحة «كلنا خالد سعيد» للنزول فى 25 يناير، دون معرفة صاحب الدعوة أو تحديد أهدافها. وسارت الأيّام الأُولى هتافًا ضد مُمارسات لا صيغة حُكم أو حاكم، ثم تضخَّمت يوم 28 لترفع مطلبًا راديكاليًّا ضد النظام وقائده، وتزامن مع ذلك اقتحام الحدود الشرقية وتهريب مسجونين من الإخوان وبعض الميليشيات المحلية والإقليمية، إضافة لإحراق عشرات المنشآت وأقسام الشرطة ومقرّ الحزب الوطنى.
الكتلةُ الأكبر من المحتجين لم تتورَّط فى سباق النار؛ لكنها سُحِبَت ببطءٍ إلى المساحة التى أرادها مُشعلو الحرائق. تشكَّل ائتلاف باسم الشباب الغاضبين حضر فيه الإخوان بقوّة، كما وضعوا أياديهم على مرافق الميدان، من تأمين وإعاشة ومنصَّات دعائية، وتدفقت رحلات مُنظَّمة من الأقاليم إلى قلب القاهرة، وبدا أن فريقًا مُنضبطًا بقيادةٍ وأهدافٍ واضحة يُدير المشهد من وراء ستار. كان التجلِّى الأوضح عندما ألقى مبارك خطابًا فى مطلع فبراير، ترك أثرًا عاطفيًّا دفع آلاف المُعتصمين لإخلاء الميدان إلى بيوتهم، فوقع اشتباك غرائبى فى صباح اليوم التالى، وبرز شباب الجماعة على الأرض وفوق أسطح البنايات بالأحجار والمولوتوف، لتُصاغ سرديّةٌ مُلفّقة عن بطولة التنظيم وحمايته للثورة، ستُوظَّفُ لاحقًا مع أمورٍ أُخرى لاستكمال خطَّة القفز على الحدث، وتأميمه لصالح الرجعية الدينية.
مارست العصابةُ الإخوانية سلوكَها المُعتاد فى استتباع القوى السياسية. فعلته فى تحالفاتٍ انتخابية خلال الثمانينيات مع أحزاب الوفد والأحرار والعمل، وكرَّرته مع الناصريين فى برلمان 2012، وبالطبع لم تتخلّ عنه فى أجواء الاحتجاج. لكن فى المقابل لم تكن مُقاربة «مبارك» حصيفةً أو على قدر اللحظة؛ إذ ظلَّ مُتأخّرًا عن إيقاع الشارع أيّامًا. ألقى ثلاثة خطابات خلال أسبوعين، هيمنت عليها العاطفة أكثر من العقل، ومحاولات الاحتواء الأبوية بدلاً من الحلول العملية الجادة: فى الأوَّل أقال الحكومة، وفى الثانى كلَّف نائبه بإدارة حوار مع المُحتجين، وطالب البرلمان بتعديل مواد الرئاسة فى الدستور، وأن تُشدِّد جهات الرقابة قبضتَها على الفاسدين، وفى الثالث بشَّر بعدَّة إجراءات كان الشارع قد تجاوزها جميعًا.
خطابُه الأخير ملىءٌ بالدلالات المركبة. كان فى الحادية عشرة من مساء الخميس 10 فبراير، وقبل تسع عشرة ساعة فقط من بيان عمر سليمان بالتنحِّى. وأهم ما جاء فيه أنه باقٍ إلى نهاية ولايته فى سبتمبر ويُفوِّض النائب بصلاحيات الرئيس. سرديّة الحسم الثورى الخالص تبدو مُضحكةً بالنظر إلى رجلٍ يتحدَّث بثباتٍ عن استمراره فى القصر، كما أن رواية تغليبه لسلامة البلد لا تستقيم مع خروجه المفاجئ؛ بعدما كان مُتمسّكًا بألَّا يخرج. وهنا قد يُرَدّ الأمرُ إلى فاعلية المُؤسَّسات الصلبة، وليس فى عقيدتها أن تصطدم بالشعب لأجل حاكمٍ أو نظام، ولمَّا وجد مبارك أنه لن يستطيع توظيف مرافق الدولة لغاية استبقائه فى منصبه آثرَ الرحيل، وقدَّم الاضطرار بنكهة الاختيار.
لكنَّ شاهدًا مُهمًّا يستوجب التوقُّف فى الكلمة التى امتدَّت نحو ست عشرة دقيقة. تحدَّث الرئيس السابق عن الضغوط الخارجية، وأنه لا يقبل الإملاءات، ويرى من واجبه الوطنى أن يتصدَّى لها. وفى المُعلَن يُفسَّر الأمر بموقف الإدارة الأمريكية، وتشدُّد «أوباما» فى إزاحته من السلطة على خلاف موقفى نائبه بايدن ووزيرة خارجيته هيلارى كلينتون. بدأ الابتزاز يوم 28 يناير، وبعدها بعدَّة أيّام قال سيد البيت الأبيض عبارته الذائعة «الآن تعنى الآن»، ولمَّح فى 5 فبراير لوُجوب التنحى، وكان يتلاقى فى ذلك مع موقف الاتحاد الأوروبى، ومسؤولة سياسته الخارجية كاترين أشتون. وشهدت تلك الفترة لقاءات للإخوان مع سفيرة واشنطن آن باترسون، ومع مسؤولين أوروبيين وإقليميين بعضهم من دول حليفة للجماعة أو ترعى ميليشيات مُسلَّحة فى المنطقة؛ بل كان الميدان مرتعًا لأمنيِّين من عدَّة مشارب، لا شىء يجمعهم إلَّا إسناد مشروع حَشر الدولة تحت عمامة المُرشِد.
ليس المقصود بالقطع حسبان «مبارك» على مُناضلى يناير، أو حسبانهم على قوى خارجية وطابورٍ خامس فى الداخل. الفكرةُ كلُّها أنَّ جانبًا من منشأ الثورة لا يزال غامضًا، وأنها لمَّا تفجَّرت دخلت على خطِّها أطرافٌ عدَّة، وإن كان أنقياءُ الميادين لم يعرفوا بالأمر أو يشتركوا فيه؛ فإن الجهل وحُسنَ النوايا لا يكفيان لرَدِّ الشُّبهة أو إنكار الواقع المُلتبس. لا سيّما لو مَدَدنا الخطَّ على استقامته، واستكملنا نواقص الصورة والثورة بما جناه الأُصوليّون لاحقًا. لقد استثمروا فى الفوضى إلى أن سرقوا البرلمان، واستثمروا فى الانقسام فاختطفوا الرئاسة، وكتبوا الدستور مُنفردين، ثم أزاحوا النائب العام وحَصَّنوا مجلس الشورى وقرارات مندوبهم الباهت فى قصر الحُكم، وأخيرًا اصطدموا بحُلفائهم فى التحرير؛ ليقتلوهم عند الاتحادية وعلى مُرتفعات المقطم. وبمنطق التفتيش عن المستفيد، فإنَّ ثغرات يناير قد تكون من صنيعة من سرقوها إلى أن تصدَّى لهم الشارع الموَّار فى يونيو.
ترقَّى المُتفائلون فى يناير من الإصلاح إلى طَلب التغيير؛ لكنَّ حركتَهم ما أصلحت شيئًا، وغيَّرت إلى الأسوأ. وإن كانت الموضوعية تفرض ألَّا يُهال عليها التراب بخطايا بعض المُنتسبين لها زُورًا وتفخيخًا من الداخل؛ فإن لمبارك أيضًا الحقَّ فى أن ترتخى عليه عباءةُ الحياد والتقييم النزيه. أصاب الرجلُ وأخطأ، كما فعلت الثورةُ بالضبط، وبينما يقف التيَّاران إلى الآن فى خصومةٍ صفرية بائسة، بين أبناء ومُحبِّين يغفرون له دون سؤالٍ عمَّا أثقل به وطنه الحبيب، أو أعداء وكارهين يذكرون سوءاته ويُسقطون محاسنه؛ كانت الدولة أكثر عدلاً وتعقُّلاً مع الفكرتين: احترمت يناير ووثّقتها فى ديباجة دُستورها، وبجَّلت أحدَ أبطال أكتوبر وشيَّعته فى جنازةٍ رسمية، دون أن يعنى ذلك أن شوارع الثورة كانت حَشدًا من الملائكة، أو أن الرئيس السابق حاز صكَّ إبراءٍ من انحرافات عصره الطويل. الطُهرانية والشيطنةُ ليستا من لُغة السياسة وتعاريف المجال العام، والذين يُحبّون تلك البلاغةَ البيضاء حصرًا؛ إمَّا لا يفقهون شيئا عن السلطة والمعارضة، أو أنهم يُدارون بُقعًا فى أثوابهم، بالإشارة إلى ملابس الآخرين.
كانت لحظةُ يناير قد انقضت بالتنحِّى. والبلدُ المُثقَل بآثارها وما كان قبلها، تجاوز محنةَ سوء الإدارة وسوء الخروج عليها. والمُفارقة أن المُحمَّلين بأوزار المرحلة أكثر من يستميتون فى الإقامة داخلها: حزبٌ فاشل تحالف مع الإخوان ولم يعتذر، أو نخبةٌ وضيعة وقفت وراء مُرشَّح الجماعة وما زالت تتبجَّح، أو شباب تربَّحوا من الخارج والداخل ويُصدّقون أنهم كانوا رموزًا وقادة رأى، وفى مُقابلهم فشلةٌ وانتهازيّون سقطت أنقاض الحزب الوطنى على رؤوسهم؛ فاكتشفوا فى أنفسهم مهارة التنظير ووجاهة المُفكّرين، أو أغبياء يترحَّمون على أيّامٍ كان التغيُّر الوحيد فى ثباتها الطويل حادثة قطار وغَرق عبَّارة، أو لصّ مُدان بحُكم سرقة ويشمت فى أحوال الناس؛ لأنهم تمرَّدوا على أن يظلّ العاطلون يأكلون حرامًا من أموالهم. يُثير السخريةَ والأسى أن الضحايا تجاوزوا المحنة، وجناة الطرفين يُصرّون على تذكير الناس بإجرامهم الصفيق.
ثلاثَ عشرة سنةً ولم يندمل الجُرح. تمرُّ ذكرى التنحِّى اليوم وفى الفَم مرارةٌ ممَّا فعله الرجعيّون الإرهابيون بالبلد، وساعدهم المدنيون الانتهازيون عليه. وبعد أسبوعين سأقرأ الفاتحة لمبارك فى ذكراه، بوصفه واحدًا من أبطالنا فى أكتوبر العظيمة، دون أن يعنى ذلك أننى أترحَّم على أيَّامه رئيسًا، وقد فعل بمصر الأفاعيل وأقعدها على كرسىٍّ ثابتٍ بينما يتحرَّك العالم من حولها. لو كانت ليناير حسنةٌ واحدة فهى إخراج الدولة من دولاب عجزها، ولو كانت لها سيئةٌ واحدة فأحسب كونها نفخت ذواتٍ فارغةً حُسِبَت علينا نُخبًا وطلائع وقادةَ رأى. يمكنُ أن نمتنَّ للثورة وننقدها، وأن نحفظ للرئيس الذى أطاحته حقَّ التاريخ وندينه فى حقوق الواقع، ولا تناقُضَ إلَّا من نظرةٍ أُصوليّة ترى الأُمورَ بالأبيض والأسود، وتُرتّبها وفقَ ما يُحقِّق مصالحها فحسب. الأفَّاقون ممَّن كانوا أدواتٍ للرجعيّة والمُتطرفين ضد المجتمع، والمُتبجّحون ممَّن كانوا لصوصًا ولم يتوبوا، لا خيرَ فيهم جميعًا قبل يناير، ولا فيها أو بعدها. إنهم يرون بعينٍ واحدة، ويُقدِّرون بميزانٍ معطوب، ويدورون فى ساقيةٍ تنزح من سُوء النيّة وفساد البصر والبصيرة؛ لتصُبّ فى خزَّان المُكايدة الرخيصة والضآلة وانعدام العقل.. وصدق المُتنبى: لكل داءٍ دواء يُستطَبّ به؛ إلّا الحماقة أعيت من يُداويها.