ليس أسوأ من ابتذال القيم إلا أن يكون لفائدةٍ شخصية عابرة. يحفل تاريخُنا العربى بمئاتٍ من قصص الخيانة والانحطاط: أُمراء فرَّطوا فى مسؤولياتٍ أُنِيطت بهم، ومُحاربون داسوا على شَرف الجندية والسلاح، ودُعاة أهانوا الدين ولم يحفظوا الدنيا. وإن كانت الحكايات كلُّها فرعًا على مِحَنٍ وامتحاناتٍ قاسية؛ فإن مأساة «غزّة» الماثلة تُعيد التذكير بصنفٍ وضيع من البشر، لا يستنكف الرقصَ فوق الجثث، ولا أن يُقلِّب أكفان الضحايا بحثًا عن منفعةٍ رخيصة. والعدوُّ بحُكم المنطق يستبيحُ الأرضَ والأرواح بغِلظةٍ، ويُزيِّف السرديات بوقاحةٍ وتبجُّح، ولا تفسيرَ لأن يُسايره بعضُ الذين يدَّعون أنهم أصدقاء؛ سوى كونهم ساعين معه للغاية نفسها، أو يقبلون ما فيها من توحُّشٍ وتزييف لقاء منفعةٍ ظاهرةٍ أو مُضمَرة. ولأنَّ الرجال يُعرَفون بالحقِّ، ولا يُعرَف الحقُّ بهم؛ فما يأتيه بعضُ المنتسبين لنا اسمًا، والمُتمسِّحين بفلسطين ادِّعاء وتجارة، إنما هو صورةٌ من العداوةِ أشدّ وضاعةً، وانحرافٌ بالقضية لأغراضٍ سياسية أو مذهبية، ولأنهم يتصنَّعون البكاء بينما يتربَّحون من الدم، ويُحصون الشهداء ليصرفوا مُقابلاً عنهم؛ لا ليُثبتوا مظلوميَّتهم الصافية، ويقولون ما يغسلُ يدَ القاتل ويُطيل حبلَ المذبحة؛ فهم شركاءٌ للاحتلال بالخطابة، وأكثر دناوةً منه فى الفعل.
ينطبقُ كلُّ ما فات على تيَّارٍ عريض من الأُصولية الإسلامية: فريق من أهل الميليشيات يحرِفُ الأنظارَ عن القطاع بمناوشاتٍ شِبه مُرتَّبة، وتحت الأسقُف المُتّفق عليها مع الخصوم، وآخر يُتاجر بالمحنة ولم يُقدِّم دِرهمًا ولا كلمةً شريفة للواقعين فى نارها، وأسوأ منهم الذين يُعيدون تكييف الحرب، معلومة الأطراف والدوافع؛ ليتّخذوها سلاحًا يطعنون به أفرادًا ومجتمعاتٍ أكثر منهم صفاءً وإخلاصًا للأبرياء. ومنذ اللحظة الأُولى، طفحت النوايا وانكشفت خطَّة الاستهداف، وقبل أن يُدينوا رصاصَ الصهاينة وخذلان المُمانعين، وجَّهوا سهامَهم إلى عواصم الاعتدال وبلدان الطوق، خصوصًا مصر والأردن، وهما الأكثر اكتواءً بنيران فلسطين فى الحاضر والماضى، والأشدّ صلابةً على ثغور القضية وحقوق أهلها. وإن كانوا يستَبِقون الوقائعَ، أو يُخلِّقونها من العَدَم فى السلم قبل الحرب؛ فالبديهى والمُتوقَّع أن يتلقَّفوا كلَّ روايةٍ ساقطة، وأن يحشدوا الضلالات مهما بدت عاريةً من العقل والمنطق، حتى لو استعارت لغةَ العدوّ، وبدا أنها مُلطَّخةٌ بدماء الأشقّاء.
فى مُؤتمرٍ أواخر الأسبوع الماضى، ادَّعى جو بايدن أن مصر كانت ترفض فتح معبر رفح، وأنه تدخَّل لإقناعها بالعكس. الرئيس الأمريكى الذى قال إنه لا يُشترَطُ أن تكون يهوديًّا لتُصبح صهيونيًّا، واعتبر نفسَه من أشدِّ الصهاينة إخلاصًا، صار فى لحظةٍ مَرجعًا مأمونًا ومصدرَ ثقةٍ لمن يرون واشنطن شيطانًا أكبر؛ فهرولت قطعانُ الإخوان لاحتضان جُملتِه الركيكة والاستثمار فيها، وأسقطوا ما يعلمونه ويتباكون عليه من انحياز البيت الأبيض لإسرائيل، وانتظمت لجانُهم فى مسيرةٍ دعائية أرادوا منها إدانةَ القاهرة، وكانت فى جوهرها محاولةً لتبرئة تل أبيب، وما توقَّف أحدٌ منهم أمام ثغرات الحكاية وأسئلتها الواجبة، حتى أنَّ إعلاميًّا مصريًّا بارزًا، يُقيم فى أمريكا ويُغازل الجماعة منذ ما قبل 30 يونيو لليوم، تعاطى مع الأمر بوصفه حقًّا مُطلقًا، ووظَّف حساباته على المنصَّات الرقمية لترويجه، بأداءٍ رَثٍّ لا يتجاوز أىَّ عنصرٍ جَهول فى لجان التنظيم.
المشهدُ نفسه تكرَّر قبل أسبوعين تقريبًا. ذهبت إسرائيل لمحكمة العدل الدولية بسوابقها الإجرامية الصارخة، وبحثًا عن شَقٍّ للهرب من تُهمة «الإبادة الجماعية» التى فجَّرتها جنوبُ أفريقيا فى وجهها؛ زعم أحدُ مندوبيها أنَّ السلطات المصرية لها ولايةٌ مُطلقة على معبر رفح، وأنها مسؤولةٌ عن تأخير نفاذ المساعدات. وسرعان ما قفز الإخوانُ ووكلاؤهم فى قطار الصهيونية، بل إنهم جلسوا على مقعد السائق، وما تبجَّح به مُحامى السفَّاح فى جُملةٍ واحدة، فرَّغ له تجَّار القضية برامج وقنوات ومقالات وتغريدات لعدَّة أيام. ولو افترضنا أنَّ قدرًا من الانحراف يعود لخُصومتهم مع الدولة، ورغبتهم فى إزعاج الإدارة السياسية والانتقام من عموم المصريين؛ فإن خدمتهم لخُطَط نتنياهو وعصابته تظلُّ من الغرائبيات غير المفهومة، لا سيما أنهم يُؤسِّسون الجانبَ الأكبر من شرعيَّة خطابهم على استحلاب قضية فلسطين، وقد حوَّلوها «صراعًا عقائديًّا»، يُمكن أن نختلف فى حدود إضراره بالفكرة العادلة؛ لكننا لن نختلف بالتأكيد فى كونه لا ينسجمُ بأّية صورةٍ مع الرقص على إيقاع العدو، أو أن يكونوا بندقيّةً رخيصةً فى يده، ولخدمةِ مشروعه المفضوح.
مُؤسَّسةُ الرئاسة طالما ترفَّعت عن المُهاترات؛ لكنها إزاء سقطة الرئيس الأمريكى بادرت بالردّ، وعلى طريقتها شديدة الوضوح والتهذيب دائمًا، قالت إنها ما أغلقت المعبرَ لحظةً واحدةً، وعملت منذ اليوم الأول لتسهيل جهود الإغاثة؛ رغم تعنُّت الإسرائيليين الفجّ، وقَصفهم البوابة الفلسطينية لرفح عدَّة مرات. وفى الوقائع؛ فقد سجَّلت القاهرة موقفًا واضحًا منذ بواكير الأزمة، وأجرى الرئيس عشرات الاتصالات، ثمّ «قمّة القاهرة للسلام» بحضور أكثر من ثلاثين بلدًا، كما نظَّمت زياراتٍ كثيرة لمسؤولين دوليِّين وأُمَميِّن إلى الحدود، وأجمعت الرسائلُ كلُّها على أن الاحتلال يخنق غزَّة بعدوانه العسكرى وتشدُّده السياسى، بل لم يُقصِّر مخابيلُ تل أبيب أنفسُهم فى سَوق الأدلَّة الدامغة: أغلقوا معابرَهم جميعًا مع القطاع، وقطعوا إمدادات الماء والوقود، وقصفوا محطَّةَ الكهرباء الوحيدة، وقال وزير دفاعهم «يوآف جالانت» إنهم لن يُمرِّروا طعامًا ولا دواء، بعدما وصف الغزِّيين بأنهم «حيوانات بشرية»، وتبارى وزراء بالحكومة ونوَّاب بالكنيست عن الليكود والأحزاب الدينية فى تصعيد الخطاب الإبادى، مُنادين بأعلى ذُرى العنف، من التجويع للقتل والتدمير والتهجير القسرى. ورغم أنَّ ما فات فيه ردودٌ كافيةٌ على كلِّ المزاعم، ويجعلُ مُجرَّد النقاش فيها من قَبيل السخف المحض؛ فإن ميليشيات الفضيلة المُصطنَعة قفزت موانعَ المنطق السليم والنوايا الصافية كلَّها، وشدَّت التلمود والقُلنسوات من أيدى اليهود؛ لتُزايد عليهم فى خدمة أغراضهم الدنيئة.
والأمانةُ هنا تقتضى الإشارةَ لخطأٍ ارتكبه البعضُ بحُسنِ نِيَّة. كان العدوان طازجًا وقتَها، وقنابلُ أمريكا يُلقيها حُثالات إسرائيل على كلِّ شِبرٍ فى غزَّة. وحَلَّ سيّدُ البيت الأبيض ضيفًا على «مجلس الحرب» بعد ساعاتٍ من قصف مستشفى المعمدانى وقتل مئات الأبرياء، كتبت وقتها «حفلة شواء على شَرف بايدن» تفكيكًا لحالة الانحطاط الأمريكى المُفجعة، وألغى السيسى والملك عبد الله قمّةً كانت مُقرَّرةً معه فى الأردن، وخلال رحلة العودة من أرض فلسطين المسروقة، قال على الطائرة إنه اتَّصل بالرئيس المصرى، وشكره لموافقته على فتح بوابات رفح، وقد احتفى بعضُ الإعلاميِّين وناشطى مواقع التواصل الرومانسيِّين بالتصريح، وفنَّدت فى اليوم التالى ما رأيتُه سُمًّا فى العسل، بتأكيد أننا لم نُغلق المعبرَ أصلاً حتى نُوافقَ على فتحه، وأن السيد جو الصهيونى إمَّا خانته الذاكرةُ أو يُمارسُ تدليسًا مقصودًا، والغرضُ تَنحية الخروقات الإسرائيلية؛ تمهيدًا لتبرئتها من آثار معركة التجويع وتقويض سُبل العَيش فى الشريط الساحلى الضيِّق. وما مهَّد له العجوزُ تلميحًا قبل أسابيع، جاهرَ به صراحةً فى الأيام الأخيرة، وقد لا يكون مُتعمِّدًا التضليل؛ إنما النتيجة واحدة.
مسألةُ بايدن يسيرةُ التفكيك؛ فالرجل تجاوز الحادية والثمانين، وله سوابق تفوق الحصر مع سُوء التقدير وألاعيب الدماغ. منها مثلاً أنه نسى وفاة ابنه بالسرطان ناسبًا موتَه لحرب العراق، كما شكر الصين بدلاً من كندا فى زيارةٍ للأخيرة، واستبدل ماكرون بسلفه «ميتران» الراحل قبل ثلاثة عقود، وأنجيلا ميركل بالمستشار هيلموت كول الذى غادر منصبه فى التسعينيات. وهو محلُّ انتقادٍ دائمٍ من منافسه «ترامب»، ويُثير قلقَ الديمقراطيين على المنصب، ولديه صكٌّ من مُحقِّق عيّنته وزارةُ العدل التابعةُ لإدارته، فى شأن اتّهامه بحيازة وثائق رسمية خارج القانون؛ فقال إنه رجل مُسنّ ضعيفُ الذاكرة ولا فائدةَ من الادّعاء عليه. الجميعُ يتوجَّسون من تَهشُّم قواه العقلية، وبدورى يُمكنُ أن أستمرَّ فى تعداد غرائبه حتى انتهاء ولايته نوفمبر المقبل. وإذا كان المرضُ ممَّا لا يعيبُ البشرَ، والشيخوخةُ قضاءَ الضرورة على المُعمِّرين من الناس؛ فإنَّ اجتماعَهما مع الهوى قد ينزلقُ بالمرء أحيانًا فى الكذب البواح، مثلما قال إن مُقاتلى حماس قتلوا الأطفال واغتصبوا النساء فى «طوفان الأقصى»؛ فاضطُرّ البيت الأبيض للتصحيح مُشدِّدًا أنه لا دليل لديهم، إنما سمعه الرئيس من نتنياهو وبعض الإعلام. وعلى الشرط نفسه يأتى حديثه عن معبر رفح، فيه شىءٌ من أثر العمر واعتلال الذاكرة، وأشياء من هواه الصهيونى، ومن الانحراف القيمى المُعتاد لكلِّ الإدارات الأمريكية.
لا ترى واشنطن أيَّة غضاضة فى أن تعتبر الحرب الأوكرانية عدوانًا من روسيا، وتُجنِّد قواها كاملةً لإشعال الأرض تحت قدمى «بوتين» وجنوده؛ ثم فى الوقت نفسه تتَّخذ موقفًا مقلوبًا فى غزَّة؛ فتنصر القاتل على القتيل، وتفردُ غطاءها العسكرى والسياسى على نزوات اليمين الصهيونى. كان تمثالُ الحرية فى موقعه عند خليج نيويورك، وقتما أراقت دماء الملايين فى اليابان وفيتنام وكمبوديا وأفغانستان والعراق، وصنعت الأزمات واستثمرتها فى كوريا وكوبا وتايوان، وما زال شاهدًا بشُعلتِه المُطفَأة على التناقض الوَقح بين الأقوال والأفعال، وإذا كان «الفيتو» أكثر أسلحتها استخدامًا لصالح إسرائيل، حتى يكاد أن يكون ضابطًا فى جيش النازية التوراتية، فإن دولة اليهود نفسها ما كان مُمكنًا أن تتأسَّس على أطلالِ القُرى الفلسطينية، وترتوى من دماء أصحاب الأرض وأحلامهم المُجهَضة؛ إلَّا بإسنادٍ أمريكىّ ظاهرٍ ومُستدَام، من قرار التقسيم إلى التمويل والأسلحة، وإحباط كلِّ جولات الحلِّ بالخداع ومُناورات السياسة، بعد مدريد وأوسلو وإلى كامب ديفيد وأنابوليس، وصولاً لرفض إيقاف الحرب والانجراف وراء أوهام الخلاص من حماس.
اختار الأمريكيّون جبهتَهم، ولهم حقُّ الاختيار وإن رأيناهم ظالمين ومُساندين للظلم. لكنَّ الغريب أن يشكو بعضُ الأغبياء من السلوك المَعيب؛ ثم يستعيروا أوراقَهم وينخرطوا معهم فى اللعبةِ نفسِها. هنا لا يصلحُ الكيدُ وحده للتفسير؛ ولعلَّ فى الأمر طَيفًا مُراوغًا من «مُتلازمة ستوكهولم»، عندما تتحكَّم المازوخيّةُ فى الطرف المُنسَحِق؛ فيستعذب الاستتباعَ والتنكيل وخدمةَ القوىّ، بل إنه يتقمَّصُ صورتَه، وقد يُمارسُ أفعالَه على ذاتِه والآخرين. والواقعُ أن تيَّار الأُصوليّة الإسلامية باختلاف تلاوينه، يُعانى شيئًا من مَسّ الصهيونية وأمراضها العضال. كان وزيرُ خارجية إيران قد قال إن ما يجمعهم بإسرائيل أنهما يرفضان «حلّ الدولتين»، وعلى منواله تسير الميليشياتُ الشيعيّة، ويسير «الإخوان» ومنهم حركةُ حماس نفسها؛ بينما يقضى المنطقُ بأن يسعى المظلومُ لاستخلاص حقوقِه بكلِّ الطُرق المُمكنة، لا أن يلعبَ على أرض الخصم وبقانونه، وفى خدمة الغاية الوحيدة التى تُحقِّق للصهاينة مصالحَهم بتَمامِها. هكذا يبدو التناقضُ فالقًا عريضًا يبعد الشعارات عن الممارسات؛ فتنتهى كلُّ الجولات إلى هزائم نكراء وخسائر فوق الاحتمال، كما لا يُمكن أن تفهمَ كيف يعتبرون واشنطن شيطانًا، ويتاجرون فى أوهام إزالة إسرائيل عن الخريطة، ثم لا يكتفون بالصمت على أكاذيبها، بل يُبادرون لتَبنِّيها والتبشير بها وإذاعتها فى الأرجاء.
لا تحتاجُ مصر لشهادةِ عَدوٍّ أو صديق. لثمانية عقود كانت الأخلصَ للقضية، وأوَّلَ المُبادرين فيها، وسدَّدت أضعاف حصَّتها دَمًا ومالاً وانخراطًا مُباشرًا فى المواجهة. ولا حرجَ فى التذكير بأننا عانينا من انفلات بعض الفصائل، وما رددنا على العداوة بمثلِها، ولا تركنا للضغينةِ مُتَّسعًا فى صدورنا، رغم ما تورَّطوا فيه من إرهابٍ وكَسرٍ للحدود واقتحامٍ للسجون فى 2011، وما خسرناه من شُهداء وتكبَّده اقتصادُنا من أضرار. ولا حرجَ أيضًا فى القول إننا ما أطلقنا رصاصةً ولا أرقنا دمَ فلسطينىٍّ واحد، بينما فعلت بعضُ الحركات بحق أشقائهم، رَميًا من أعالى البنايات أو سَحلاً فى الطرقات، ومُقابل أنانيةِ آخرين ممَّن يرعون تيَّارًا هنا أو يُموّلون فصيلاً هناك، واستثمارهم فى الفوضى والانقسام وتَوظيف القضية لأغراضٍ سياسية، أو فى نزاعاتٍ ومُفاوضات مع الغرب وإسرائيل؛ كُنّا آخر المُتحدِّثين فى الفتنة وأوَّلَ الساعين للمُصالحة، وحتى فى الأزمة الأخيرة كان لمصر الدور الأكبر فى إحباط خطط التهجير والتجويع، وإنجاز هُدنة نوفمبر والجدّية المستمرّة لأجل تكرارها، وأربعة أخماس المساعدات التى دخلت القطاع وفَّرها المصريون من أقواتهم، فى وقتٍ يتضرَّر اقتصادُهم بأثر الأزمة، ونِتاج مُغامراتِ بَعض مَن وضعوها فى مزاد المصالح؛ طامعين أن يصرفوها مكاسبَ شخصيّةً فى جبهاتٍ غير فلسطين.
يُنبئُنا الأثرُ وحوليات الرواةِ القُدامى، بأن أُمراءً من السلاجقة سلَّموا مُدنَهم للصليبيين، وانقسم ملوكُ الطوائف فى الأندلس، ويتباكى الإسلاميِّون على أطلالها لليوم؛ فانتهى الانحدارُ عند تحالف فِرقةٍ مع «شارلمان»، أو صراعات المُوحِّدين وتنصُّر فرقةٍ أُخرى، والوزير «شاور» انتصر على مُنافسه ضرغام ثم حليفه نور الدين زنكى بعدوِّهم المُشترَك، وابن العلقمى خان العباسيِّين جاثيًا تحت أقدام المغول، وحتى سلسال الأيوبيِّين المُنتسبون للفاتح صلاح الدين سلَّموا القدس مرَّتين، وباع حفيدُه دمشقَ بمشورةِ وزيريه الجبانين، والحشَّاشون أعمَلوا سيوفَهم فى رقاب المُسلمين؛ فما أفادوا إلا الغُزاة وسُرَّاق فلسطين فى الغابر البعيد. وما يقوله بايدن أو يفعله نتنياهو نُسخةٌ عصريّة من التتر وفرسان المعبد وائتلاف إيزابيلا وفرديناند، وما يفعله الإخوان والمُمانعون وأعداءُ التعقُّل العربى والالتئام الفلسطينى، خيانةٌ لا تشذُّ حَرفًا ولا تبعُد ذِراعًا عن مَسلَك أسلافهم من الخَوَنة الأوائل.
احتضانُ سرديّة العدوّ لا يخدمه فقط؛ بل يُشكِّل انقلابًا صريحًا على الثوابت. وثمّة سؤال لازمٌ إزاء الازدواجية: هل هو التناقض المحض أم خيانةٌ عمديّة بسابق الإصرار؟ عقلية الدينيِّين قيمية فى خطابها وانتهازية فى مُمارساتها، وهكذا استباحت القتل والتفجير وقتما أُطيح الإخوان من حُكم مصر، ومثلها الدواعش والقاعدة والنُصرة وكل وضيعٍ من إرهابيى العقائد. قال بايدن وسيقول، ولا أمل أن ينحرف الصهاينة عمّا قعّدوه من قوانين حارقة، وسيظل أحفاد ملوك الطوائف والحشَّاشين وزُمرة السلسال الخوّان قاعدين تحت سحابة الأعداء، إن أمطرت شربوا وإن جفّت استمطروها، وربما عوّضوا قصورها بتخليق الأكاذيب أو تسمينها لصالحهم؛ حتى لكأنهم مُجنّدون فى جيش الدفاع أو تروسٌ فى ماكينة «الهاسبرا» الدعائية.. الأُصوليّون طبخةٌ واحدة بطعومٍ مُتباينة، الليكود كالحزب الشيعى، والتوراتيون كالإخوان وأفرعهم، والضحية دائمًا فلسطين؛ إذ ينهشها ذئاب الرجعية، بالعبرية حينًا وبالعربية أحيانًا.