تقريبا كان عام 1984 داخل عربة القطار الذي يستعد لمغادرة محطة مصر العتيقة بالقاهرة الى محطة دمنهور. العربة مزدحمة بأجساد المغادرين للعاصمة من الموظفين والعمال والطلاب الى المدن والقرى بالمحافظات التي يمر بها القطار الذي تنتهي رحلته كالعادة في الإسكندرية.
الأصوات المختلطة باللهجات المختلفة... صعيدي وبحراوي واسكندراني لا تتوقف وحوارات السفر والغربة والبحث عن لقمة العيش والدراسة بعيدا عن الأهل ومسقط الرأس هي المسيطرة على الأحاديث والحوارات الجانبية والجماعية...
أتأمل أجواء العربة والأرفف التي يتراص فوقها الحقائب والأجولة و" القفف" بجوار البشر وأطالع الوجوه المرهقة من الزحام ومن ساعات السفر...والمسافرون الجالسون على المقاعد والباعة الذين يتقافزون كالفراشات وكراقصي التانجو بين الزحام للترويج لبضاعتهم من الحلوى و" الحاجة الساقعة"...والخناقات العابرة التي سرعان ما تنتهي سريعا بواسطة " أولاد الحلال" والكبار في القطار.
رويدا رويدا ومع مغادرة القطار رصيف المحطة يهدأ الضجيج داخل العربة ويستغرق البعض في النوم اجبارا من التعب أو عزوفا عن الكلام وتمضية الوقت والتسلية. ويدس بعضا آخر وجه في صحيفة أو مجلة. ويتبقى البعض الآخر يبحث عن حوارات جانبية مع من يجاوره في المقعد...كان الطقس في خارج القطار ربيعيا وشمسه ناعمه تلقي بأشعتها الدافئة على نوافذ العربة...يبدأ خيط الحوار بالطقس الجميل والربيع قبل التعارف مع الجالس بجواري . ذلك الشاب الوديع الذي تبدو عليه نحافة مقبولة ووجه ريفي بمسحة قليلة من آثار المدينة وعيون واسعة غائرة لكنها متقدة بحماس شاب يبحث عن حلم يعرفه جيدا.
قدمت له نفسي أولا .." عادل من دسوق وبأدرس في كلية الاعلام جامعة القاهرة "
تهلل وجه مرحبا بود كبير " أهلا بلدياتي ..أنا اسمي أحمد الغلبان وده مش لقبي ده اسم الشهرة من شباس وفي كلية أداب عين شمس"
- شباس هي احدى القرى التابعة لدسوق ولا تبعد عنها أكثر من مسافة 10 كيلومتر بالقطار وكان القادمون من القاهرة أمثالي وأمثال أحمد يغادرون قطار القاهرة في محطة دمنهور ومنها يستقلون القطار المتجهة الى دسوق ومنها الى باقي القرى المجاورة بوسائل مواصلات آخرى-
الانتماء الى مدينة واحدة...شجع كلانا على مراحل كثيرة من الحوار حتى وصلنا الى العائلة وأصولها مباشرة.
أطلق أحمد المفاجآة الكبرى بأنه الشقيق الأصغر للمؤلف المشهور " محمد جلال عبد القوي"... قفزت واقفا من المفاجآة السارة جدا وصرخت في دهشة "..معقولة..!!"
في ذلك كان الكاتب الكبير والمؤلف المعروف ابن بلدنا محمد جلال عبد القوى ملء الأسماع والأبصار وبدأ صيته وشهرته في الانتشار بعد المسلسل الذي كنا نسميه( هراس جاي) وهو مسلسل الغربة ثم مسلسل المعدية وأديب والرجل والحصان وكلها كانت مسلسلات كانت تدور أحداثها في مناطقنا الريفية ..وربما أقرب الى مناطق دسوق وقراها...وكان مصدر للتفاخر والتباهي لنا أبناء كفر الشيخ وخاصة دسوق أن مؤلف وكاتب هذه المسلسلات من قرية شباس احدى قرى مدينتنا ومحافظتنا النائية في أقصى شمال مصر، وبدأ اسمه يذكر مع أبطال المسلسلات ...ويكتب ببنط عريض على شاشة التليفزيون ..تأليف وسيناريو وحوار محمد جلال عبد القوي
تعارفنا وتبادلنا العناوين...لكن مع مرور الأيام تباعدنا وبقي أن أحمد هو شقيق ابن بلدنا المؤلف المشهور الذي احتل القمة بعد ذلك في نهايات الثمانينات والتسعينات بمسلسلات غوايش وأولاد آدم وحلم الليل والنهار وموسى بن نصير وحارة الشرفا والهروب الى السجن والعودة والعصفور ...حتى الأيقونة الدرامية البديعة " المال والبنون 1,2"..
و..." قالوا زمان دنيا دنية غرورة
وقلنا واللي تغره يخسر مصيره
قالوا الشيطان قادر وله ألف صورة
قلنا ما يقدر على اللي خيره لغيره"
يتوهج محمد جلال عبد القوي في زمن الكبار مع محفوظ عبد الرحمن وأسامة أنور عكاشة ومحسن زايد ويسري الجندي ومحمد صفاء عامر وصالح مرسي ولينين الرملي ويزداد بريقه وتألقه مع المال والبنون بحشد من كبار الفنانين وبتتر مازال يردده الناس بكلمات عبقري الكتابة الغنائية سيد حجاب وألحان الرائع ياسر عبد الرحمن وغناء الكبير أوي علي الحجار
ويواصل التوهج والبريق مع مسلسلات " علي عليوة" و" هالة والدراويش" ثم " نصف ربيع الآخر " مع الفذ يحيي الفخراني . ولم يمض عام واحد طوال التسعينات والألفية الثانية الا والمشاهدون وعشاق الشاشة الصغيرة على موعد مع عمل من أعمال محمد جلال عبد القوي، فتأتي "حياة الجوهري" و"لعبة القرية "و"البر الغربي" و"سوق العصر" و"الليل وآخره" و"حكاوي طرح البحر " و"المرسى والبحار" و "على باب مصر "و"حضرة المتهم أبي" و "قصة الأمس" و.."شرف فتح الباب" و"وعد ومش مكتوب " والمسلسل الإذاعي "هارب على سفر " في عام2010 قبل أحداث يناير 2011 . وكل هذه الأعمال لاقت نجاحا جماهيريا واعلاميا كبيرا وكانت المنافسة التي استفاد منها المشاهد والذوق المصري على أشدها بين هؤلاء الكبار وفي قلب المنافسة مؤلفنا المبدع الذي استمر في الكتابة حتى العام 2013 عندما كتب مسلسل " هز الهلال يا سيد " الذي لم يعرض حتى الآن
منذ 11 عاما تقريبا لم يكتب أو لم يعرض لآخر عمالقة التأليف والكتابة الدرامية أي عمل درامي فقد ظن- أطال الله في عمره -الناس أنه غادر عالمنا مثل باقي العمالقة والكبار فقد رحل الجميع ولم يتبق حاملا لراية الكتابة الحقيقية سوى كاتبنا الكبير عبد القوي الذي ندعوه للعودة من جديد ونتمنى على الجهات المعنية أن تحتفي به وتكرمه وتفسح له المجال مرة أخرى للكتابة واستعادة وهج الدراما المصرية من جديد على يده ويد تلامذته . وكم كنت سعيدا عندما التقيته خلال زيارته لمقر " اليوم السابع" ودار حوارا سريعا بيننا حول غيابه وعودته وعن أزمة الكتابة للدراما . قلت له عليك مسئولية كبرى وهي تعليم وتأهيل وتخريج جيل جديد من كتاب الدراما المصرية حتى تستمر مدرسة الكتابة المصرية التي عشناها وعاشها العالم العربي سنوات طويلة منذ الستينات وحتى نهاية التسعينات
حوالي 34 عملا دراميا واذاعيا وسينمائيا- له فيلم واحد فقط لعادل امام وهو المولد- تبوأ بهم محمد جلال عبد القوي مكانة متميزة وأصبح أحد عمالقة كتابة الدراما المصرية وأصبحت أعماله من كلاسيكيات و" أيقونات" الدراما المصرية والعربية ويتحمل عبء استكمال المسيرة الآن.. ونحن في لهفة لأول أعماله بعد فترة توقف 11 عاما.. فمازال في جعبته الكثير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة