إنه التفاوض تحت النار. لا شىء يُبرِّر الجنونَ الإسرائيلى سوى الرغبة فى تضييق خيارات حماس، وانتزاع مكاسب سياسية عجزت آلة القتل عن تحقيقها. ويعلم نتنياهو قبل الجميع أنه لا سبيلَ لإكمال المُغامرة حتى آخرها، وما تبقَّت إلَّا مُهلة ضئيلة قبل أن يجد نفسه تحت رحمة التوقف الاضطرارى. وانطلاقًا من الظرف اللاهب يُصعِّد خطابَه المُتطرِّف، ويُعيد دوزنة الآلات مع حلفائه؛ ليُضفى على اللحن هارمونيّةً خادعة، خطُّها الأساسى وتريّات الأجهزة الأمنية المُتبدِّلة على لقاءات الهُدنة المأمولة، وإيقاعها تعزفه طبولُ مجلس الحرب، بينما ينفخ التوراتيِّون أبواقَهم النحاسية؛ ليكون الرنينُ المعدنىّ الزاعق بديلاً عن صلابةٍ شقَّقها «طوفان الأقصى»، وكنست بقاياها موجاتُ الخسارة المعنوية أمام القانون وضمير العالم. والحال أنَّ التهديد باجتياح «رفح» فائضٌ فى الخطابة والابتزاز، وتنفيذه إن جرى فسيكون تعبيرًا عن اعتلالٍ صهيونى، بأكثر ممَّا يُترجِم صورةَ البأس والعافية. لو حُشِرت الفصائل بعد أكتوبر فى أنفاقها العميقة الضيقة؛ فإن الاحتلال محشورٌ فى أوهامه الكالحة، وهى أعمق وأظلمُ وأشدُّ ضِيقًا.
لا تتجاوز رفح الفلسطينية 55 كيلومترًا مُربعًا، أى أكثر قليلاً من سُبع المساحة الإجمالية للقطاع. وقد تضخَّم تعدادُها خمس مرَّات منذ اندلاع الحرب. وإن كانت المسألةُ الديموغرافية تحدِّيًا دائمًا فى غزّة؛ فإنها تجاوزت كلَّ حدودها السابقة فى أقصى الجنوب. والاحتلال إذ يُهدِّد بنقل عمليّته البرّية إليها؛ يُغامر بحرائق تفوق ما أحدثه شمالاً، وتوتُّراتٍ قد تُفلت خيوطُها من يده فى لحظة. ولا يعودُ الأمر لجاهزيّة المُقاومة، أو ثِقَل العبء الإنسانى فقط؛ بقدر ما يتّصل باستفزاز الجارة الأكبر، وتجديد خصومةٍ طُمِرَت تحت رماد السلام البارد، وآخر ما تحتملُه إسرائيل أن تُجرِّب المصريين الآن. وموقفُ الإدارة فى القاهرة كان حاسمًا فى البدء: لا تهجير ولا تصفية للقضية ولا حلول على حساب مصر، وصار أشدَّ حسمًا: رفح ليست نُزهة، ولا قَبول بسيطرة أمنية على فيلادلفيا، وكلّ الخيارات مطروحة.. والحديثُ هنا ليس عن خَصمٍ مباشر، ولا ميليشيات تُحرِّكها العقيدة وأهواءُ المُموّلين؛ إنما عن أقوى تجارب التهدئة السياسية فى الإقليم، واتفاقية السلام التى بدأت بوجيعةٍ ميدانية وانتهت بانكماشٍ جغرافى. يُخلِّق المشهدُ لغةً جديدة على التّماس بين سيناء وفلسطين، وفيها ما يكفى لأن تُضاءَ كلُّ المصابيح الحمراء فى تل أبيب، ولو أعماها الجنون؛ فالمسؤولية على عاتق رُعاتها وآبائها الروحيِّين فى الغرب.
تدرَّج جيشُ النازية اليهودية من غزَّة لخان يونس، وما زالت «حماس» وفصائلها الحليفة فى كلِّ شِبر، والكمائنُ الدامية لا تنقطع، والصواريخُ تخرج منها جميعًا بين حينٍ وآخر. تقولُ أكثر رواياته تفاؤلاً إنه دمَّر ثُلثَ قوَّة القسام، أى نحو ثمانٍ من أصل أربعٍ وعشرين كتيبة. وفى تبرير الذهاب جنوبًا أنهم لن يُحقِّقوا النصر ما بقيت أربعُ كتائب فى رفح، بينما حِسبتُه الرسمية تُؤكِّد أنه ترك خلفه اثنتى عشرة كتيبة فى الشمال والوسط. الهروبُ هنا ليس بحثًا عن النصر على زعمهم؛ بل تبريرًا لقصورٍ فادحٍ يُلازمهم من غلاف غزَّة إلى اليوم الثلاثين بعد المائة فى الحرب. كانت الصدمةُ شديدةَ القسوة؛ فأنتجت استجابةً مَرضِيَّة مُعاديةً للعقل، زاد من فداحتها أن نتنياهو وضع براءته من الفساد مُقابل إدانة الدولة كلِّها بالوحشية والإبادة، وربما الزجّ بها فى صراعٍ يتجاوزُ هشاشتَها البادية. وحينما يُطوِّح عينيه على حدود مصر؛ فكأنما يُغالِب مشاعرَ الفشل الجارفةَ بمُقامرةٍ أخطر من الطوفان والسيوف الحديدية، ويستثمرُ فى الفوضى كما يفعل على تخوم لبنان، ولا يعرف أن الساحات المُتباينة فى كلِّ شىء، قد يتكفَّل الغباءُ العبرىُّ بحشدِها معًا، ومن دون اتفاق.
كان المأخذُ على الحماسيِّين أنهم لا يعرفون ما يريدون، ونفّذوا هجمتها دون برنامج سياسى يجمع الثمار ويضمن المخارج الآمنة. الانتقادُ ليس خاطئًا تمامًا؛ لكنه ينطبق على عدوِّهم بالدرجة نفسها. إذ لا يعرف الإسرائيليون ما يُريدونه فعلاً، ولا كيف يُحقِّقونه من غير أن تُرافقه خسائرُ أكبر. إنهم بينما يُرتِّبون حقائبَ وفدهم الأمنى الذاهب للقاهرة، يخرج وزير ماليّتهم سموتريتش بتصريحاتٍ عدائية ضدها، ويدعو المُتطرِّف «بن جفير» لإبادة مدنيِّيى رفح، ويقول المعتدل جانتس إنهم مُتأهّبون لابتلاع المدينة، ويُحشَدُ مُتظاهرون عند معبر نيتسانا لوَقف المساعدات. هذا السلوك ممَّا يتجاوزُ لعبةَ توزيع الأدوار، ويُشير إمَّا لارتباكٍ عاصف بين دائرتى السياسة والعسكرية، أو لرغبةٍ مقصودة فى تسخين الأجواء وانتظار التفاعلات. لكنَّ المسألة تخطَّت «عضَّ الأصابع» مع الفصائل، وباتت تُهدِّد جهودَ الوساطة أوّلاً، ثمّ حدود ضبط النفس فى دول الاعتدال، وإن كانت ثلاثُ جبهاتٍ فُتِحَت فى الإقليم منذ أكتوبر؛ فالبحث عن الرابعة وما بعدها هو الخيار الأكثر رعونة، والأصعب احتمالاً لبلدٍ كلَّما عجز عن إدارة حرب، ينفلتُ منها لغَيرِها، أو يجمعهما معًا.
سقطت عباءةُ الدولة عن الغول الصهيونى؛ فارتدَّت إسرائيلُ إلى طَورها الأول: عصابة من قُطَّاع الطرق وحثالات الجيتوهات. وما يُحرِّكها منذ تلقَّت الصفعةَ، قليلٌ من الانتقام، وكثيرٌ من الغريزة الهمجيَّة القارّة فى عُمق وَعيها. لقد خرجت من حال الاستجابة للألم ورغبة الردّ، إلى هيستريا إنكار الواقع وإثبات التفوُّق المَحض. أصابتها الضربةُ فى صميم إيمانها بنفسها؛ بأكثر ممَّا عزَّزت عقيدة خصومها لناحية حقِّهم العادل وانتصارِهم المُمكن. وسعيًا إلى إلغاء الحقائق المُستجَدّة؛ سبحت فى المُستنقع مدفوعةً بوَهم القوّة، ومُنصرفةً عن حقائق الأرض وتوازنات المنطقة. وفى سبيل أهدافها العاطفية سلكت كلَّ الطرق الخاطئة: دمَّرت غزة لتستعيد صورة الردع، واشتبكت مع حزب الله لتُبشِّر نازحيها بأمانهم المفقود، وما توقَّفت عن استفزاز مصر والأردن؛ لتُجدِّد سرديّة الكيان التقدُّمى الصغير وسط مُحيطٍ هادرٍ بالعداوة. وما يحدثُ أنها تُعيد إنتاج أزماتها الداخلية بأبعادٍ إقليمية ودولية، إذ عند حدٍّ من القتل فإن القمعَ يُغذِّى سياقَ التمرُّد بدلَ أن يردعه، وترحيلُ اللبنانيين من قُراهم لن يُعيد اليهود لمستوطناتهم، والعزفُ المُنفلت على أوتار الجوار سيُحمِّلها وحدَها كامل المسؤولية؛ لو تبخَّرت مفاعيلُ اتفاقات السلام.
لم يُرحِّب أحدٌ بفكرة غزو رفح. دُولٌ ومُؤسَّسات كبرى حذَّرت من المُخاطرة الدامية، وأمَّا الولايات المُتّحدة فبَين بين: فريقٌ يُعبّر عن القلق من الكارثة الإنسانية، وآخر يُطالِب بخطّةٍ واضحة ومُنضبطة. والسيد بايدن يُفيق من نوبات ألزهايمر ليقول إن إسرائيل تجاوزت الحدَّ؛ ثمّ يعودُ إليها مُؤكّدًا صهيونيّته وتشدُّدَه فى إفناء حماس. ومن تقارير صحفية أمريكية عن وصفه لزعيم الليكود بالأحمق المتشبّث بالسلطة، إلى مُتحدِّثين يُزيّنون خطابَهم الدبلوماسى بعبارات الصداقة القديمة والاحترام المُتبادَل. وتغليبًا لإساءة الظنّ، ولم يخذلنا العم سام فيها قَطّ؛ سنقول إن واشنطن تدعم المقتلةَ المُنتظَرة، ويرفضها بقيَّةُ العالم تقريبًا. وقد جدَّدت مصر رسائلَها المبدئيّة الصارمة، وردَّت الخارجيةُ على زعران نتنياهو بلهجةٍ أشدّ حسمًا من سوابقها، وإلى جانب تفسيرها بهروب الإسرائيليين من فشلهم عبر مُحاولة تحميله للآخرين، قالت إنها تحترمُ التزاماتها ما كان الاحترامُ تبادُليًّا. وزاد مصدرٌ رفيع لقناة القاهرة الإخبارية، بأن أوضاع رفح تحت المجهر، والدولةُ جاهزةٌ لكلِّ الاحتمالات. والمعنى أننا إزاء مرحلة «الخطوة مُقابل خطوة»، وما يتبدَّى من الصهاينة سيُبنَى عليه مُقتضاه، فيظلّ العبءُ الأخلاقى لإشعال المنطقة أو توسعة الصراع على كاهل تل أبيب، ونظلُّ فى أوج الجاهزية والاستعداد لأىّ سيناريو. وما تكبَّدناه من الحرب ونحن دُعاة تهدئة، لن يكون أكبر من كُلفة صَون القضية وإحباط التهجير، بكلِّ أداةٍ يفهمها الأغبياء فى دولة التوراة المُلطّخة بالدم.
فى النزاعات الصفريّة يتيسَّر ضَبط ميقات الرصاصة الأولى، ويتعذَّر اختيار لحظة الختام بإرادةٍ مُنفردة؛ وقد تكسبُ معركةً وتخسر الحرب. وفى أجواء التصعيد دخل الحوثيّون على الخطّ؛ فقالت قيادةٌ من صفِّهم الأوَّل إنهم سيدعمون مصر لو احتدم الصراع. وإذا كانت القاهرةُ بعيدةً تمامًا من فلسفة الميليشيات، ولم تلجأ لتلك الأداة الرخيصة كما فعلت بلدانٌ مجاورة، منها إسرائيل نفسها؛ فالتنسيق مُستبعَدٌ تمامًا؛ إنما تداخلُ الخطوط والجبهات ممَّا لا يُمكن التنبؤ به أو تحييده. وجنرالُ الاحتلال السابق، إسحاق بريك، قال لإعلامهم الداخلى إن سقوط اتفاقية السلام سيُشعل الحدود الجنوبية، ويُثير أكبر جيوش المنطقة دون فرقةٍ عسكريّة واحدةٍ على حزام التحامٍ طويل، ولو ذهبت حكومتُه لهذا الخيار الحارق؛ فعليهم أن يتوقَّعوا نشاط الأذرع الشيعية استغلالاً للظرف، وأن تتَّخذ المناوشاتُ مع سوريا ولبنان والفصائل العراقية صيغةً أشدَّ ضراوة، وربما تُكثِّف قيادةُ محور الممانعة من أنشطتها، تأسيسًا على هشاشة الجيش الصهيونى فى أعلى حالات احتشاده، وعجزه عن الاشتباك طويل المدى ومُتعدِّد الساحات، ووقتها قد لا يكون الإسنادُ الأمريكى كافيًا لتقطيب الجروح النازفة من كلِّ ناحية.
تشكَّلت الجغرافيا على قالبٍ صُلب بعد كامب ديفيد؛ اللهم إلَّا مُنازلات محدودة داخل فلسطين وعلى أطرافها. واليوم تعود لحالتها السائلة كما كانت زمنَ النكبة؛ عندما تخطَّفتها ثنائيّاتٌ دامية: جمهوريات تُولَد من أرحام مَلكيَّاتٍ مُتداعية، وماركسية تحترب مع بقايا برجوازيّات عتيقة، والتمدُّن والأُصوليّة يقتتلان على أطلال الخلافة ورماح القوميات الساخنة. وقد يكون من التزيُّد أن ننسبَ اجترارَ الماضى للطوفان الغزَّاوى؛ إنما بعيدًا من البواعث تبدو الأرضُ كأنها تعود فى الزمن: حداثةٌ لامعة تُقابلها رجعية قاتمة، والأوطان بين استعمار العولمة وتفشِّى المذهبيّات، والسلاحُ المُشرعَن تُنافسه ميليشياتٌ صارت بأحجام دُولٍ كُبرى، وفلسطين التى كانت وجيعةَ السياسى والمُحارب والرأسمالى والاشتراكى والعلمانى والسلفى، عادت لتكون طَبقًا على موائد الجميع، لكلٍّ منهم غاياتٌ قليلُها مُعلَن وكثيرُها مُضمَر؛ لكنهم يتّفقون على أنها الورقةُ الرابحة أو الأهمّ. كلُّ هذا التداخُل الثقافى والزمانى والأيديولوجى يُركِّب القضيةَ بأضعاف تركيبها المُغلَق أصلاً، ولا يجعل إسرائيل فى مُواجهةٍ من نوعٍ واحد؛ إذ تصطدمُ بالمُعتدلين فى جنونها، وبالمُمانعين فى دعاياتهم، وبالأفكار فى إجماعها على رفض الوجود المُلفَّق بمعايير العقيدة والإنسانية والقانون. وباقةُ المعارك المُتضافرة من كلِّ صنفٍ ليست فى وارد حسمِها دفعةً واحدة، فالقوَّة إن طالت جانبًا ستقصُر عن غيره، والحشدُ الغربى لو أزعج فريقًا سيستفزّ آخرين، والتلفيقُ اليهودىّ زَيتٌ يُصَبُّ على جَمر الإسلاميين فيملأ الدنيا دُخانًا.. العقل والبراجماتية هما الباب السحرى الأوحد، وللسخرية فإنه الوحيد الذى لم تطرقه يد إسرائيل، ولا كُعوب بنادقها.
الطمعُ فى «رفح» شىء من ثلاثة: إزاحة غزَّة نحو الجوار، أو استدعاؤه إليها، أو تفجيرها فى وجه العالم.. وخلاصتُها جميعًا الرغبة فى تعميق المأساة الإنسانية، فإمَّا التهجير أو التجويع أو الحرب الشاملة. عندما اجتاح الاحتلالُ شمالَ القطاع دفع سكَّانه للجنوب، فظلّوا فى أرضهم واقتربوا من خطوط الإمداد، وانتقال الجيش إليهم سيقتلُهم فى أماكنهم ويُلطِّخ الضمير الأُمَمىّ، أو يُحرِّكهم باتّجاه مصر فيكون الصدام، أو يُعيدهم شمالاً؛ فتنقطعُ عنهم المساعدات ويكون الجوع. وكلُّها تُبشِّر ببحرٍ من الدم أو جبلٍ من الهياكل العظمية، والذهنيةُ الواقفة وراءها تُعانى انفصالاً عميقا عن الواقع، فتتشبَّث برغبةٍ صهيونية فى تخليق صورة انتصار، وبناء أُمثولةٍ بربريّة تمنعُ تكرارَ الطوفان؛ لكنها لا تلحظُ أن الأولويّات أُعِيد ترتيبُها حتى لدى الحلفاء. كانت الانطلاقةُ من وَصْم «حماس»، وتخيَّل نتنياهو أنه تفويضٌ لا تنفد صلاحيته، وقد تحرَّك الميدانُ من تحته وما زال فى خباله القديم؛ يُراهن على انصراف الغربِّيين عن الحركة، أكثر ممَّا يهتم بإقبالهم عليه. والآن تراجعت عملية الغلاف إلى هامش الذاكرة، واحترقت ورقةُ الفصائل كلِّها بعدما أكلت محارقُه آلاف النساء والأطفال. وإصرارُه على بناء مجالٍ حيوىٍّ أوسع، وأكثر أمانًا وهيمنةً، بات يتصادم مع الشرعية الأخلاقية للدولة التى ستتحرَّك فيه، وستظل جرائمها حائلاً دون الانتفاع بأثر المُمارسات الباطشة، وآلةَ إنتاجٍ دائمةً للهلع وانحلال السرديّة مع كلِّ اشتباك، سواء هُوجِمَت أو بادرت بالعدوان.
بدأت الخطَّة بالتتابُع المُعتاد: غارات جويّة عاصفة، ومذابح مُمنهَجة، وأحزمةُ نارٍ بالمدفعية ومن الجو. ولا يُمكن التنبّؤ بمنسوب الجنون؛ إنّما تظلُّ احتمالات النكوص أكبر من فُرص الاستمرار. إلى الآن لا خطَّة لإجلاء المدنيِّين، والجيش يُعِدّ تكتيكاته لعرضها على المستوى السياسى. قد تنضجُ الهُدنة قبل ساعة الصفر المُؤجَّلة، ولعلَّ هذا ما يُريده كابينت الحرب، وقد تردعُ التقارير الأمنية نتنياهو عن المُقامرة الخَطرة، لا سيّما مع صلابة الموقف المصرى، أو تُعدِّل واشنطن مُقاربَتها المائعةَ؛ فتُحاصِر حليفَها المجنون وتُنقذه من نفسه، وبالأحرى تُنقذ تل أبيب والمنطقة بكاملها من نزواته. أميلُ شخصيًّا إلى أن عملية رفح مُناورةٌ لتحسين شروط التفاوض، وإن تشدَّدت «حماس» فى موقفها فقد يتطلَّب الأمر عدَّة أسابيع قبل التنفيذ، والألعابُ الناريّة غالبًا ما يُطفئها الوقت والفُرجة. المنطقُ يقول إن المُسارعة تُهدِّد بتفجير الأوضاع مع الجوار، وانتظار الخطَّة يُقرِّبنا لرمضان ويجعلُ إنفاذها انتحارًا قد يستنبتُ انتفاضةً ثالثةً فى الضفّة، وسخونةً مُضاعَفة على جبهاتٍ رديفة، أمَّا الإرجاءُ بضغوطٍ أو تحذيراتٍ أمنيّة سيحشو فوهات المدافع والدبابات بالرمل، وفى كلِّ الأحوال لن تكسب جنوبًا ما خسرته شمالاً، ولا التضحية بالعلاقات الاستراتيجية ستنصرُها فى النزاعات العارضة، وتُغامر بإعادة المنطقة لزمن الصراعات الهائجة؛ إنما يظلُّ المنطق أندرَ البضائع فى إسرائيل وأردأها، وكلّ الأشياء واردة مع عصابة اليمين بأطيافها القومية والتوراتية. الألسنةُ فى مُنتديات الحوار والأصابعُ على الزناد، والملامةُ كلُّها على من يُغادر الطاولةَ ليقفَ فى مرمى النار.