النشاط المنظم الذي يقوم على منهجية في التفكير بهدف الوصول لنتائج محددة وفق فرضيات مسبقة انطلاقًا من نظرية بعينها، تفرز لنا تطبيقات نستفيد منها في شتى مجالات الحياة، وتحدث نقلة نوعية في المجالات الاقتصادية بكافة تنوعاتها، تلك ما نطلق عليها مخرجات البحث العلمي، الذي بات الاهتمام به من أولويات الدولة المصرية في عهد قيادة سياسية تؤمن بأهمية العلم ومنابع المعرفة، وما يحدثه من نهضة وتقدم وبناء للدولة ومؤسساتها واقتصادها بقطاعاته ومجالاته المختلفة.
وضمانة توظيف البحث العلمي في دعم الاقتصاد الوطني يقوم على استعداد الدولة التام تجاه تسخير كافة الإمكانيات المادية والرعاية البشرية التي تُعد المورد النفيس الذي يحقق ما نصفه بالابتكار العلمي، بما يسهم بشكل حقيقي في رقي الاقتصاد بمكوناته المتباينة، ومن ثم تستطيع الدولة أن تستكمل مسارات نهضتها وفق رؤيتها التي تتبناها.
وقد اعترفت الدولة المصرية بشكل صريح بأهمية البحث العلمي ودوره الحاسم في دعم الاقتصاد الوطني؛ حيث أعلنت عن ذلك في هدفها التنموي الرابع بالاستراتيجية الوطنية المعلنة برؤيتها (2030)؛ حيث الربط الوظيفي بين نتائج البحث العلمي وتطبيقاته التنموية، بما يساعد في النهضة الاقتصادية والزراعية والصحية والعسكرية والاجتماعية بصورتها الشاملة، ومن ثم يحقق ماهية الأمن القومي المصري في أبعاده المختلفة، وهذا يؤكد على رسالة مهمة تتمثل في الدعم المطلق من الدولة للميدان البحثي.
ونؤكد على أمر رئيس تجاه وظيفية البحث العلمي، يتمثل في قيمة النتائج التي يتم التوصل إليها من الناحية التطبيقية عبر مؤسسات الدولة الإنتاجية والتي تستهدف تلبية الاحتياجات والمتطلبات الأساسية منها والتكميلية، وهذا التطبيق المشار إليه يسمى بثروة المعلومة البحثية، وقيمتها المضافة التي يتم تعظيمها بترجمتها لفائدة ملموسة، وهناك من يطلق عليه القدرة على تحويل رأس المال الفكري لاستثمار فعلى يعود نفعه المباشر على البشرية جمعاء، وفي المقدمة يحقق النهضة المنشودة باقتصاديات الدولة الراعية.
ولنا أن نتخيل مقدرة البحث العلمي على التحكم في سير اقتصاديات العالم بأسره؛ نظرًا لتجدد مخرجاته التي تفرزها مؤسسات البحث العلمي على مدار الساعة، وبالطبع يصعب حصرها في أي مجال من مجالات العلوم وما يرتبط بتطبيقاتها الاقتصادية المختلفة، وبناءً عليه نحن في أشد الاحتياج لتحديد الأولويات، والتي في ضوئها يتم الدفع بمسارات البحث المهمة التي تخدم الاقتصاد المصري، وهذا لا يتعارض مع فلسفة تنمية الابتكار في خضم بحور البحث اللامتناهية؛ لكن من قبيل تعضيد الصلة بين نتائج البحث التطبيقي والنهضة الاقتصادية المتطلبة آنيًا ومستقبليًا.
ورغم نظرتنا المركزة حول النهوض الفوري بالاقتصاد المصري؛ إلا أن وعينا بأهمية البحث العلمي تتأتى من منطلق قدرته في خلق بيئات نهضوية سواءً أكانت علمية، أم صناعية، أم زراعية، أم عسكرية، أم طبية، أم تقنية تحقق جودة الحياة للمواطن المصري، وتشعره بمستويات الرفاهية المستحقة له، ومن ثم لا تقف نتائج البحث العلمي عند سد الاحتياجات للمستهلك؛ لكن تصل به فوق ما يتخيل وما يحلم وما يأمل، وهذا الوصف أضحى معاشًا وملموسًا في حياتنا على المستويين الفردي والجماعي.
ولا نغالي إذ نقول إن التنمية الشاملة في بلادنا مرهونة بالتقدم المدعوم بنتاج ومفرزات البحث العلمي في صورته التطبيقية؛ لذا صار البحث العلمي والاهتمام به مطلبًا ملحًا لا من قبيل الرفاهية والترف، ولكنه أساس لا غنى عنه، ومن ثم يشكل مقوم رئيس من مقومات الأمن القومي المصري.
والمناداة بأهمية البحث العلمي في مساره التطبيقي ليس قاصرًا على الدولة ومؤسساتها الوطنية، وما ينبغي أن توفره من مقومات وإجراءات تدعم آليات التطبيق، وتساعد في الوصول للمنتج الذي يستخدمه أفراد المجتمع؛ وإنما الأمر مرهون بوعي مجتمعي شامل لأهمية البحث العلمي ودوره الفاعل في نهضة البلاد والعباد، ناهيك عن مساهمة القطاع الخاص ودوره الفاعل في احتضان مخرجات البحث العلمي وشراكته الداعمة لمؤسساته التي تحدث منفعة متبادلة فيما بينهما على مستوى التنمية البشرية والمادية.
كما أن الوعي بأهمية البحث العلمي لا يقف عند حد الانفاق والتمويل؛ لكن هناك ممارسة غاية في الأهمية تتمثل في سهولة إجراءات التنفيذ من خلال مؤسسات الدولة المعنية والحافظة لحقوق الملكية الفكرية، وهذا ما يحقق المُناخ المعنوي الداعم للنهضة الاقتصادية في الدولة، ويساعد صناع ومتخذي القرارات في الوصول لحزمة الإجراءات التي تجذب الاستثمار في المجالات الاقتصادية المختلفة.
إن توظيف البحث العلمي في دعم الاقتصاد الوطني يؤدي إلى نهضة تصنيعية تُسهم في زيادة الدخل القومي المصري بمعدلات يصعب تخيلها؛ فهناك دول زادت معدلات دخلها القومي إلى 50% جراء تنمية اقتصادياتها المنسدلة من تطبيقات البحث العلمي المدعوم بالتقنية الحديثة؛ فها هي اليابان التي أحدثت تطورًا تكنولوجيًا غير مسبوق، ومن ثم شغلت مكانة لا يستهان بها بين مصاف الدول المتقدمة.
وما زال الأمل قائمًا تجاه مستقبل مشرق لأجيال تحمل بين جنبيها الولاء والانتماء للوطن وترابه، وفي عقولها يكمن الابتكار الذي توظفه سلاحًا تبني وتطور به الدولة وتنهض بكل مقوماتها ومجالاتها وقطاعاتها؛ ليتحقق الأمن والأمان والاستقرار وتتضح الخريطة التي يسطر في صدارتها المقولة الخالدة، مصر فوق الجميع، وستحيا ما بقيت الحياة.
حفظ الله شعبنا العظيم ومؤسساتنا الوطنية وقيادتنا السياسية أبدَ الدهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر