عادل السنهورى

التجربة البرازيلية...لولا دي سيلفا في مصر

السبت، 17 فبراير 2024 02:47 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بدت أجواء المؤتمر الصحفي بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا يوم الخميس الماضي بقصر الاتحادية إيجابية وودية للغاية بين الرئيسين وكل من حضر أو تابع المؤتمر وقبل ذلك حفاوة الاستقبال يظن بأن الرئيسين تجمعهما علاقة صداقة ممتدة عبر السنوات. على الرغم من أنها اللقاء المباشر الأول بين الرئيسين والزيارة الرسمية الأولى للرئيس البرازيلي بعد عودته للحكم للمرة الثالثة في سابقة لم تحدث في التاريخ السياسي للبرازيل أو دول أميركا اللاتينية.

هناك علاقة خاصة تجمع الشعبين المصري والبرازيلي عبر عشرات السنوات رغم بعد المسافات. هذه العلاقة ساهمت فيها المواقف البرازيلية المساندة لمصر وللقضايا العربية منذ الخمسينات ومع تأسيس حركة عدم الانحياز في الخمسينات بقيادة مصر والهند ويوغسلافيا وانضمت لها أكثر من ثلثي دول العالم من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية

"دبلوماسية البن " لعبت دورا فلكوريا وتراثيا لدى الشعب المصري فقد انتشر البن البرازيلي في كل مقاهي وكافيتريات القاهرة و الإسكندرية وباقي المدن الكبرى وأنشأت أماكن خاصة في أرقى مناطق وشوارع القاهرة والإسكندرية وغيرهما تحمل اسم " البن البرازيلي" يرتادها المثقفون والفنانون والمشاهير .

أيضا "دبلوماسية كرة القدم" دعمت السمعة الشعبية للبرازيل في الشارع المصري مع ظهور الأسطورة " بيليه" وزيارته لمصر عام 58 بعد فوز المنتخب البرازيلي بكأس العالم لأول مرة بالفوز على السويد بدعوة من اتحاد الكرة المصري ثم الزيارة الشهيرة للمنتخب البرازيلي لمصر عام 1960 لأداء 3 مباريات في القاهرة والإسكندرية وأسوان واحتشد الألاف في مطار القاهرة  لاستقبال الفريق ثم كان الاستقبال الرسمي للبعثة من الرئيس جمال عبد الناصر.  وعاد "بيليه" مجددا إلى مصر في العام 1972، مع فريقه "سانتوس" البرازيلي، حيث خاض مباراة ودية مع فريق الأهلي ، وانتهت بفوز فريقه بخماسية نظيفة سجل منها هدفين.      

وفي عام 2014  جاء بيليه لمصر، ضمن رحلته التي شملت عددا من الدول العربية وحضر احتفالية خاصة نظمتها وزارة الرياضة المصرية عند سفح الأهرامات؛ لاكتشاف المواهب الكروية الشابة بـ200 مركز شباب. بيليه كان يحب مصر وعبر عن ذلك في لقاءات عديدة وبادله المصريون مشاعر الود له ولبلاده.

زيارة الرئيس لولا تأتي أيضا في مناسبة احتفالية وهي مرور 100 عام على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين الصديقين التي تضمهما تجمع " البريكس" وعدم الانحياز واتفاقية " الميركسور" لعدد من دول أميركا اللاتينية وهي البرازيل والأرجنتين وباراجواي وأوروجواي ومصر لتعزيز تنمية التجارة والاستثمارات المتبادلة بما يمنح الصادرات المصرية أفضلية كبيرة لهذه الدول.

كلمات الرئيسين في المؤتمر الصحفي عبرت عن طبيعة العلاقات العميقة والودية بين البلدين والشعبين. الرئيس عبد الفتاح السيسي وصف لولا دا سيلفا " بالشخصية العظيمة والملهمة لها مكانة دولية عظيمة لدى الشعب المصري والعالم." والرئيس البرازيلي أشاد بالرئيس السيسي وبمصر ودورها التاريخي والمحوري والاستراتيجي في المنطقة والعالم.

من منطقة العلاقات الخاصة اتفقا الرئيسان على ضرورة تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين وكما قال الرئيس البرازيلي: "هناك فرص سانحة لتنويع العلاقات مع مصر وتنويع المنتجات، ومصر الشريك التجاري التجاري الثاني لنا في أفريقيا، وقيمة التبادل التجاري 2 مليار دولار، ويجب أن تكون هناك اتفاقية لتسهيل الاستثمار بين بلدين".

البرازيل لها دور كبير في المنظمات والتجمعات التي تنتمي لها وخاصة في "بريكس " ومجموعة العشرين التي ستترأس اجتماعاتها المقبلة في البرازيل ودعوة مصر لها. ودعم الرئيس لولا لمسألة عدم اعتماد العالم على عملة واحدة في المعاملات التجارية.

كما أن تزامن زيارة الرئيس البرازيلي عقب زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يصب في صالح القضايا والمصالح المصرية- والمصالح المشتركة بالطبع- لكن ارتباط الدولتين وتداخلهما في الكثير من ملفات المنطقة سواء القضايا العربية أو الأفريقية يجعلهما وسيطين نزيهين في بعض الملفات. فالرئيس البرازيلي غادر القاهرة متجها الى أديس أبابا في زيارة رسمية أيضا لأثيوبيا  وهي زيارة تعني الكثير لمصر.

لغة المصالح المشتركة هي الحاكمة بالتأكيد في العلاقات الدولية مع بعض الخصوصية في علاقات ما بعدد من الدول وهو ما سوف يعود بالإيجاب وبالمنفعة على مصر في تبريد العديد من القضايا الساخنة في المنطقة.

هناك أيضا إمكانية لاستلهام تجارب تنموية مبهرة يمكن الاستفادة من جوانب منها للتجرب المصرية. وأقصد هناك تجربة البرازيل الملهمة عندما تولى لولا دي سيلفا الحكم لمرتين متتاليتين منذ عام 2003 . وهي تجربة تستحق الدراسة والاستفادة منها.

فالرئيس البرازيلي -ابن الفقراء- تولى الحكم والبرازيل تعاني من أزمات اقتصادية متلاحقة وطاحنة كانت نتيجتها تسريح ملايين العمال وخفض أجور باقي العاملين، و الغاء الدعم ... وانهار الاقتصاد البرازيلي ووصل الأمر إلى تدخل دول أخرى في السياسات الداخلية للبرازيل، وفرض البنك الدولي على الدولة أن تضيف إلى دستورها مجموعة من المواد تسببت في اشتعال الأوضاع السياسية الداخلية

ورغم استجابة البرازيل لكل الشروط ، تفاقمت الأزمة أكثر فأكثر ، وأصبح 1% فقط من البرازيليين يحصلون على نصف الدخل القومي وهبط ملايين المواطنين تحت خط الفقر ، الأمر الذي دفع قادة البرازيل إلى الاقتراض مرة أخرى بواقع 5 مليارات دولار ، في محاولة للخروج من الأزمة.

الا أن الأوضاع تدهورت أكثر ، وأصبحت البرازيل الدولة الأكثر فسادا، وطردا للمهاجرين و الأكبر في معدل الجريمة وتعاطي المخدرات وصاحبة المعدلات الأعلى في الديون.

الدين العام للبرازيل تضاعف 9 مرات في 12 عاما ، حتى هدد الدائنون الدوليون  بإعلان إفلاس البرازيل إذا لم تسدد فوائد القروض ، ورفض إقراضها أى مبلغ في نهاية 2002 ...وانهارت العملة وبلغ سعر الدولار الى 11 الف كروزيرو - العملة البرازيلية- قبل أن تصبح الريال عام 94 

خلاصة الأمر أن البرازيل كانت دولة تحتضر حتى جاء عام 2003 لتبدأ قصة النهوض ..

 لكن كيف حصل ذلك..؟

في عام 2003 تم انتخاب الرئيس البرازيل دي سيلفا – ولد في أكتوبر 1945-  ليقود حلم النهضة من خلال الخطة الذي رسمها والمتمثلة في النهوض باقتصاد البرازيل وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحديث الجيش.

القصة تستحق أن يعاد قراءتها ..فقد قدم دا سيلفا العديد من برامج الإصلاح الاجتماعي لحل مشاكل كالفقر، من خلال إيقاف عمليات تصنيع الأسلحة، وقد لعب دورا هاما في تطور العلاقات الدولية، بما في ذلك البرنامج النووي لإيران ومشكلة الاحتباس الحراري. ووصف بأنه «رجل صاحب طموحات وأفكار جريئة من أجل تحقيق توازن القوى بين الأمم».

سيلفا الذى ولد فقيرا ، وعانى من الجوع ، كان يعمل ماسح أحذية لفترة طويلة في شوارع ساو باولو، وكصبي في محطة وقود، ثم حرفي في ورشة، وبعد ذلك ميكانيكي لإصلاح السيارات، وبائع خضروات انضم دا سيلفا إلى نقابة عمالية بهدف تحسين أوضاع العمال. استطاع أن

في لحظة تولي الحكم أبدى رجال الأعمال تخوفهم منه وتعالت أصوات الفقراء بأنه جاء ليسرق ليعوض الحرمان الذي عاش. فالجل قادم من بيئة فقيرة واستطاع أن يشغل منصب نائب رئيس نقابة عمال الحديد ثم رئيسا لها عام 78 وأسس حزب العمال اليساري وبدأ في طريق الصعود السياسي حتى أصبح رئيسا للبرازيل.

وجاء رد لولا على رجال الأعمال وأصحاب الثروة في البرازيل. لم يؤمم ولم يسرق  وقال كلمته الشهيرة :"التقشف ليس أن أفقر الجميع بل هو أن تستغنى الدولة عن كثير من الرفاهيات لدعم الفقراء "وقال :" لا بد أن نعتمد على أنفسنا وبسواعد أهلنا فاللجوء الى الآخر سيدمر بلداننا"

وقرر وضع بند في الموازنة العامة للدولة أسماه " الإعانات الاجتماعية المباشرة " وقيمته 0.5% من الناتج القومي الإجمالي للدولة .ويصرف بصورة رواتب مالية مباشرة للأسر الفقيرة .يعنى بدل الدعم العيني بدعم نقدي. هذا الدعم كان يدفع الى 11 مليون أسرة ، تشمل 64 مليون برازيلي وقيمته 735 دولارا

وكان السؤال ....من أين يأتي لولا بالأموال والبرازيل تبدو مفلسة...؟

اتخذ دا سيلفا قرارا برفع الضرائب على الجميع ماعدا  المدعومين ببرنامج الإعانات

يعنى رفع الضرائب على رجال الأعمال والفئات الغنية من الشعب البرازيلي

هل وافق رجال الأعمال على ذلك ...؟

 الإجابة، نعم وكانوا سعداء، لأن سيلفا دا لولا  منحهم " تسهيلات " كبيرة في الاستثمار وآلية تشغيل وتسيير أعمالهم ... ومنح الاراضي مجانا وتسهيل التراخيص وإعطاء قروض بفوائد صغيرة .. ساعدتهم في فتح أسواق جديدة ، بالإضافة إلى أن دخل الفقراء سوف يرتفع ، وتزيد عملية  شراء منتجات رجال الاعمال فتضاعف حجم مبيعاتهم ... لذلك لم يشعروا انها "جباية" ...بل يدفعون ضرائب مقابل "تسهيلات" و أصبحوا يكسبون اكتر منها .

بعد 3 سنين فقط عاد 2 مليون مهاجر برازيلي بأموالهم وودائعهم وجاء معهم 1.5 مليون أجنبي للاستثمار والحياة في البرازيل

في 4 سنوات فقط وهي المدة الرئاسية الأولى للرئيس دا سيلفا  سدد كل مديونية صندوق النقد، بل أن الصندوق اقترض من البرازيل 14 مليار دولار اثناء الأزمة العقارية العالمية فى 2008 ، أى بعد 5 سنين فقط من حكم "لولا دا سيلفا"

النهضة البرازيلية جاءت بفضل تركيز "دا سيلفا" على 4 أمور هي الصناعة و التعدين والزراعة و التعليم.

البرازيل أصبحت تصنع الطائرات الامبريار ... ودشنت أول غواصة نووية من بين 5 دول فقط فى العالم تصنع غواصات نووية هي امريكا - روسيا - الصين - بريطانيا فرنسا  ...أول غواصة كانت بالتعاون مع فرنسا ... ودشنت الغواصة الثانية فى 2020 والثالثة فى 2022 بصناعة برازيلية خالصة

أعيد انتخاب لولا  سنة 2006 وبعد انتهاء ولايتي حكمه في 2011 وبعد كل هذه الإنجازات الحقيقية، طلب منه الشعب أن يستمر و يعدل الدستور ... رفض بشدة وقال كلمته الشهيرة :

البرازيل ستنجب مليون لولا... ولكنها تملك دستورا واحدا ".

و قرر ترك الحكم . اختير كشخصية العام في 2009 من قبل صحيفة لوموند الفرنسية، وصنف بعد ذلك في السنة التالية -حسب مجلة التايم الأمريكية- الزعيم الأكثر تأثيرا في العالم. كما لقب بأشهر رجل في البرازيل من الجيل الحديث، بل ولقب بأشهر رجل في العالم.

المفارقة العجيبة والغريبة وعلى الرغم مما فعله " لولا "في البرازيل الا ان ذلك لم يشفع له عندما أصدر القضاء البرازيلي حكما عليه بالسجن مدته 9 سنوات وستة أشهر بتهمة الفساد وغسل الأموال في يوليو 2017 .وفي 9 نوفمبر 2019 خرج دا سيلفا من السجن بعد ما ان أطلق سراحه وكان قد قضى فيه أكثر من عام ونصف العام. ولم تنخفض شعبيته بل زادت بنسبة كبيرة احتراما له ولتاريخه ولإنجازاته. في يناير الماضي اختاره الشعب مرة ثالثة وسط تحديات كبيرة، و صعوبات فى حكومة أكبر دولة فى أمريكا اللاتينية، من الجوع والفقر والحالة الاقتصادية المتدهورة،

التجربة البرازيلية لها معنى واحد فقط وهو أن " النهوض من التخلف ليس مستحيلا .وعندما تتوافر "الإرادة" و"الإدارة" تصنع المعجزات. الصناعة والزراعة وجودة التعليم وبرامج الحماية الاجتماعية هي مفتاح السر في هذا النهوض وهو ما تقوم به مصر حاليا. رغم التحديات والصعوبات الداخلية والخارجية.

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة