يبدو مفهوم "الإصلاح" بمثابة الشغل الشاغل لقطاع كبير من دول العالم، في العديد من المراحل، بينما تزايدت الدعوات لتطبيقه مع نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، عبر إدماج أوروبا الشرقية في عجلة الرأسمالية العالمية، وتغيير أنظمتهم، لتحمل نفس المبادئ التي طالما تبنتها دول المعسكر الغربي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع دعوات لتطبيق الديمقراطية في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، وغيرهم، تزامنا مع حزم اقتصادية، تهدف إلى تحقيق تغييرات هيكلية في بنية دولهم، وهو الأمر الذي مر بالعديد من المحطات، بين الضغوط السياسية على الأنظمة الحاكمة تارة، مرورا بالتدخل العسكري المباشر، على غرار العراق وأفغانستان تارة أخرى، وحتى بزغ مصطلح "الفوضى الخلاقة"، مع بداية العقد الماضي، من خلال ثورات ما يسمى بـ"الربيع العربي" تارة ثالثة.
ولعل محاولات فرض الإصلاح من قبل قوى واحد حاكمة للعالم، لم تنجح في تعميم الرؤى التي تتبناها بصورة كبيرة، وإن ظهرت بعض الاستجابات في بعض الدول الأفريقية، ولكنها بعضها لم ينجح في الصمود، بينما لم تستجيب الغالبية العظمى من الدول المستهدفة، حتى بالقوة العسكرية، أو الضغوط الاقتصادية، بل وزادت الأمور سوءً مع اندلاع الفوضى في منطقة الشرق الأوسط، إلى حد السقوط بدولها في مستنقع الحروب الأهلية، بينما لم تساهم في تحقيق أي قدر من الإصلاح المنشود، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن فرض نماذج إصلاحية على الدول من الخارج، لا يحقق نجاحا في أغلب الأحيان، وحتى إن تحقق قدر من النجاح، ففي الغالب الأعم يشكل نموذجا هشا، قد يسقط سقوطا ذريعا مع زيادة التحديات وتراكمها.
ولكن بعيدا عن الرؤى الإصلاحية، والتي يمكننها توصيفها بـ"الفوقية"، والتي تعني فرض نموذج بعينه من القوى الكبرى، على الدول الأصغر، في إطار تعميم رؤيتها، تحت مظلة "العولمة"، تبدو الحاجة الملحة في اللحظة الراهنة، إلى "دولنة" المفهوم، عبر "إصلاح" النظام الدولي، ليس فقط على مستوى القمة، في إطار المتغيرات التي يشهدها النظام العالمي، وصعود قوى قادرة على المشاركة في عملية صناعة القرار الدولي، وإنما أيضا فيما يتعلق بالدور الذي يمكن للأقاليم القيام به، سواء من خلال القوى الرئيسية المتواجدة بها، أو حتى في إطار المنظمات، في حل الأزمات المرتبطة بمناطقها الجغرافية، بعيدا عن الاعتماد على الحلول المستوردة القادمة من القوى الكبرى الحاكمة للعالم، على غرار العقود الماضية.
الحاجة إلى تعزيز دور الأقاليم، في حل أزماتها، تبدو واضحة، مع حالة العجز الدولي الناجم عن التعامل معها، في السنوات الماضية، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد، ربما أحدثها أزمة غزة، والتي يعجز العالم عن وضع حد للمأساة التي ترتبت عليها، ناهيك عن المشهد السوداني، وحتى إذا نظرنا بعيدا عن دائرة الشرق الأوسط، نجد أن الأزمة الأوكرانية، أثبتت أن اعتماد أوروبا على الحلول القادمة من واشنطن لم تقدم حلولا لها، بل على العكس ساهمت في تفاقمها، وهو ما يتطلب تحركا إقليميا (أوروبيا) من شأنها إنهاء الأوضاع الراهنة، وتقديم حلول جذرية من شأنها تحقيق التعايش بين دول القارة، بعيدا عن الصراعات التي هيمنت على التاريخ.
الأمر نفسه يبدو بجلاء عند الحديث عن المنظمات الإقليمية، والتي وإن كانت تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، ولكنها تبقى في حاجة إلى تحقيق المزيد من الاستقلالية، في ظل قدرتها على تحقيق توافقات بين أعضائها فيما يتعلق بالأزمات المرتبطة بهم، أو تمثل هواجس جراء احتمالات انتشارها وبالتالي تهديد الأوضاع داخلها، مع تعزيز التكامل فيما بينهم في مختلف المجالات مما يعزز حالة الصمود في مواجهة التحديات.
وفي الواقع، تبقى تلك الحالة الناجمة عن تصاعد دور الأقاليم، في مواجهة الأزمات، دافعا رئيسيا لظهور تجمعات متنوعة، تحمل في عضويتها مزيجا بين العديد من الدول من أقاليم مختلفة، يتمتعون بأدوار قيادية، على غرار تجمع "بريكس"، وهو ما يساهم في ليس فقط تحقيق التعاون بين الأعضاء، وإنما في واقع الأمر تعزيز التعاون بين الأقاليم الجغرافية، في ظل إمكانية توسيع نطاق العضوية داخل مثل هذه التنظيمات، وقدرتها على المساهمة في مساعدة المناطق على التغلب على أزماتها من خلال توسيع نطاق التكامل جغرافيا، وهو ما يساهم في إيجاد أدوات بديلة، يمكن من خلالها تحقيق قدر كبير من الشرعية الدولية، للحالة الأممية المترهلة، والتي تعاني أساسا جراء سيطرة عدد محدود من الدول عليها.
وهنا يمكننا القول بأن الحاجة للإصلاح لم تعد قاصرة على مجرد فرض نموذج بعينه، من قبل قوى كبرى على الدول الأخرى، وإنما أصبحت حاجة دولية، في ظل نقائص بدت واضحة في بنية النظام العالمي، ومنظماته، وهو الأمر الذي يضع القوى الكبرى في اختبار حقيقي حول ما إذا كانت قادرة على مواجهة الواقع، والتعاطي معه، أم أنها سوف تسعى لتحقيق المزيد من المزايا، لتحقيق مصالحها الخاصة، لتتحول هذه القوى في اللحظة الراهنة، من الصورة التي طالما روجتها لنفسها باعتبارهم "دعاة" الإصلاح، إلى المقاومة، عبر التصدي لما تفرضه المستجدات الدولية، وحالة العجز عن مجابهة التحديات.