مصادفة لا دخل للبشر فيها أن يرحل كبير الصحافة وعظيمة الفن فى الشهر ذاته، فى 3 فبراير 75 ترحل أم كلثوم وفى 17 فبراير 2016 يرحل محمد حسنين هيكل. رحلت الست قبل الأستاذ بحوالى 41 عاما لكنه ظل يتذكر علاقته بها وما حواه وجدانه من تقدير خاص لها وحب جارف لصوتها وأغانيها وشخصيتها أيضا.
علاقة هيكل بكوكب الشرق جاءت من خلال حب صديقه جمال عبد الناصر لصوتها والاستماع إليها، لكنها توطدت لتصبح علاقة صداقة ممتدة بين أم كلثوم وأسرة الأستاذ هيكل.
تتوطد العلاقة بين الست والأستاذ على جسر حب الزعيم لصوتها ويقبل هيكل أن تجرى أم كلثوم حوارا معه وهو الحوار الفريد من نوعه بين فنان بحجم وقيمة أم كلثوم وصحافى أصبح الأشهر والأهم بمقالاته وكتبه وعلاقاته فى مصر والشرق الأوسط والعالم، ويذاع الحوار فى الإذاعة المصرية للمرة الأولى وربما الأخيرة عام 55 .
تسأله عن حركة عدم الانحياز التى أسسها ناصر، ليشرح لها الأستاذ أن الحركة تعنى موقفا مستقلا تتحرك فيه الدولة حيال كل قضية وفقا لرؤيتها فقط، لتفاجئه "أم كلثوم" بعفويتها وسؤاله: "فى النهاية يعنى إحنا مع مين بقى فى الآخر".. ويستمر الحوار الفريد بين العملاقين. وأجرت معه الست حوارا آخر فى ديسمبر 67 عقب نكسة يونيو ونشر الحوار فى آخر ساعة وفى إذاعة البرنامج العام.
تتعدد اللقاءات الصحفية بين الفن والسياسة ويجرى هيكل حوارا خاصا مع الست عن علاقة الفن بالسياسة نشره فى آخر ساعة أيضا ويســألها "كيف اســتطعت إلغاء الفارق بين السياســة والفن؟ أجابت أم كلثوم: "فى رأيى السياســة والفن توأمان، يعنى مثلا مصر لما أرسلت آثار توت عنخ أمون إلى باريس، كان هذا عملا سياسيا بمعنى أن الفرنسيين رأوا حضارتنا وتبادلنا معهم الثقافة فى نفس الوقت.
ويعود هيكل ليكمل ما بدأته أم كلثوم: "هذا المثال صادق من الجواب على السؤال، أنا أعتبر السياسة تستعمل الفن مثل ما السياسة تستعمل الاقتصاد وأشياء أخرى. هناك توافق بين العمل السياسى والفن، لكن أنتِ فعلتِ شيئا غير هذا. أقصد عملتِ توافقا بين العمل السياسى والعمل الفنى.. إزاي؟. تجيب أم كلثوم : لا أبدا ليس لى دور ســياسى، لكن يمكــن دور مواطنة مصرية بتحب بلدها، وبتعبر من خلال فنها عن وطنها، ويستمر الحوار عن الفن والسياسة والإنسان.
كانت العلاقة تسمح بالعتاب واللوم بين الأيقونتين، ففى 26 مايو من العــام 1967 وهيكل ينشر مقاله الأســبوعى "بصراحة"؛ ليزيد مخــاوف المصريين ويؤكد لهم دخول بلادهم فى حرب أكيدة مــع اسرائيل؛ لتفاجئه أم كلثــوم" بزيارة تعاتبــه فيها على ما وصفته بـ "إحبــاط المصريين"، وتطلب منه أن تذهب معه إلى مكتب المشير عبدالحكيم عامر؛ لتطمئن على جيش بلادها، قبل أن تشدو بأغنيتها "راجعين بقوة السلاح".
تعددت الزيارات بين الست والأستاذ ووثقتها الصور فى كل مناسبة، وهناك صورة متداولة تجمع بين كل من هيكل وأم كلثوم ونجيب محفوظ، تعود إلى بداية الســتينيات مــن القرن الماضى، حيث اجتمع الثلاثة للاحتفال بعيــد ميلاد محفوظ، والذى كان في ذلك الوقت قد تخطى ســن الخمسين بأعوام قليلة، وقد ظهر هيكل فى الصورة وهو يتحدث إلى أم كلثوم وبينهما الأديب الكبير، ويحكى الأستاذ عن الست ويكشف بأنها كانت صاحبة فكرة تسجيل أ الشيخ محمد رفعت للقرآن الكريم، كاملا بصوته، لكن الشيخ رفعت كان يرفض ذلك باعتبار أنه لو جرى تسجيل القرآن كله بصوته قد يتم الاستغناء عنه، وكان يحصل على أعلى آجر عن ترتيل القرآن
الكريم، وهو30 جنيها فى الساعة، وهو أجر كبير بمعيار ومقياس زمانه. اتفقت أم كلثوم مع سعيد باشا لطفى، مدير الإذاعة فى ذلك الوقت، على أن يسجل للشيخ رفعت بعض الأسطوانات أو الشرائط على سلك، دون علم الشــيخ رفعت، وعندما عرف غضب غضبا شديدا وذهب إلى الإذاعة وحصل على الأسطوانات والشرائط كلها، لكن بقى عند الإذاعة من عشرة إلى اثنى عشر شريطا لم يتمكن الشيخ رفعت من الحصول عليها.
كان هيكل يرى فى صوت أم كلثوم بأنه صوت عميق، انطلق من أرض الريف وشــق طريقه إلى القمــة، وفيه من القدرة التى فيها.. قدرة ثورية، وقــال: أن قصة أم كلثوم ودورها لا يقارن عن صوتها وجماله، فهى صاعدة أبدا كالشهاب.. تمثل قدرة الفلاح على الانطلاق وقدرته على الثبات وتأكيد مكانه.
ويقول الأستاذ هيكل إن عبد الناصر رفض جزءا من أغنية الشاعر كامل الشناوى التى كتبها لأم كلثوم ويقول فيها " وعنــدى جمال وعندى جمال" لأنه رفض وجود اسمه فيها وتحدث عبد الناصر نفسه مع أم كلثوم قائلا " أنا ضد ذكر اسمى " فجرى تغيير المقطع إلى " وعندى الجمال وعندى جمال" وفى الأخير أصبحت الصيغة شــبه مقبولة، واعتبر ذلك يشكل حلا وسطا.
إعجابه هيكل بصوت أم كلثوم جعله يكتب عنها مقالا بعنوان "وجلســت بجوار أم كلثــوم"، وذلك فى أعقاب دراما العدوان الثلاثى على مصر عام 56 وجاء فيه:
"جلســت بجوار أم كلثوم، أســمع التجربة الأخيرة، لنشيدها الجديد، الذى كتبه بيرم التونسى ووضع لحنه رياض الســنباطى، أحسست عندما وصلت أم كلثوم إلى الفقرة التى يقول فيها النشيد:
ثلاث دول يا بورسعيد متقدمة
بدبابات وطيارات تملأ السما
الأولى داخلة البلاد مستعمرة
والتانية بعد الانكسار متجبرة
والتالتة على العرب متأجرة
أحسســت عندما وصلت هذه الســيدة الجالسة بجانبى إلى هذه الفقرة، أن روح مصر كلها تجســدت فى كيان هذه الفلاحة العظيمة القادمة من السنبلاوين، واقفة على شاطئها المنتصر، ترقب موجــة البغى تنحسر عن رمالــه الطاهرة.. تشــيع غزاتها المندحرين بضحكة ساخرة.. أقسى على أسماعهم من صراخ المدافع.
فى إحدى المرات اصطحب هيكل سيدة الغناء إلى إحد الملاهى الليلية فى مصر الجديدة لمشاهدة الراقصة سهير ذكى وهى ترقص على أنغام أغنية "أنت عمري"... التى جمعت لأول مرة بين أم كلثوم وعبد الوهاب. وحكت سهرى زكى هذه الواقعة فى إحدى البرامج التليفزيونية. وأبدت إعجابها بها. يتذكر هيكل: عندما سافرت أم كلثوم لأداء العمرة، سألتها عندما عادت: ماذا قلت وأنتِ واقفة أمام( الروضة الشريفة ) قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل همست فى نجواك بإحدى أغنياتك، العابدة الخاشعة، التى تغنينها له وأنتى هنا فى القاهرة؟
قالت أم كلثوم: اسكت.. لم أستطع أن أفتح فمى بكلمة واحدة.
قلت أنتِ..! أنتِ التى تغنين فى مدحه وفى سيرته أروع ما قيل فى مدحه وفى سيرته من قصائد، كالهمزية النبوية، ونهج البردة والى عرفات الله.
قالت أم كلثوم: نعم.. نعم أنا التى أجد نفسى فى مدحه وسيرته، هنا من على البعد، مثل "اللبلــب" وجدت نفسى فى رحاب قربه وليس على لسانى كلمة واحدة. وقلت لأم كلثوم ضاحكا: لم تستطيعى أن تذكرى ولا قصيــدة واحدة من أغانيك؟ قالت أم كلثوم ضاحكة: تذكرت أغنية واحدة.. ولكن بعد أن خرجت، الأغنية التى أقول فيها:
"ولما أشوفك يروح منى الكلام وأنساه".
وعندما سئل ذات مرة عن أكثر عبارة غنائية يحبها من أم كلثوم قال: وعزة نفسي منعانى..! (أغنية حريت قلبى معاك، تأليف أحمد رامى، وألحان رياض السنباطي(.
رحل الأستاذ فى 17 فبراير كما رحلت قبله بأربعين عاما فى الشهر ذاته وتفقد الأمة فى صوتها وحنجرتها "سلاحا فتاكا، يصوّبه المصريون فى وجه كل عدو سوّلت له نفسه الاقتراب من أرضها،" مثلما افتقدت الأستاذ " الذى كان قلمه نبراسا يضيء الطريق للملايين، وجرس إنذار يحذر من أى خطر يقبل على بلاده، "...وكان هذا هو سر عبقرية العلاقة بينهما...الصوت والقلم وبينهما الإنسان والوطن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة