رغم ما يبدو من كون وقوف دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية مجرد سعى للحصول على قرارات غير إلزامية، فإن الأمر يحمل الكثير من الوجوه، وطريق لمواجهة الاحتلال أمام العالم وكشف جرائم ارتكبت على مدى عقود، وهى جرائم لا تسقط بالتقادم، وحتى العدوان الحالى والجرائم وحرب الإبادة، أصبحت الآن معروضة أمام العالم، والباب مفتوح للتوثيق والشرح، وكشف كل ما يتعلق بهذا العدوان الذى تجاوز كل حدود العقل.
ورغم آلة القتل الإسرائيلية فإن الكيان الإسرائيلى فى مأزق رغم أنه يمتلك القوة والسلاح، وعجز عن تحقيق أى أهداف غير قتل الأطفال وربادة أسر كاملة وأحياء، وارتكب الاحتلال مجازر قتل فيها أكثر من 30 ألف شهيد، ونحو 70 ألف مصاب منذ 7 أكتوبر الماضى، وفقا لوزارة الصحة الفلسطينية، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وهدم مستشفيات ومنازل ومدارس وأحياء، فى حرب إبادة واضحة، ترافقها عملية حصار وتجويع وأكاذيب، وبالرغم من كل هذا فإن الاحتلال فشل فى تنفيذ وعوده باستعادة المحتجزين، وكل هذه الجرائم أصبحت لأول مرة معروضة ضمن اتهامات متعددة وجرائم حرب وإبادة أمام محكمة العدل الدولية، التى أصدرت قرارا يفرض على الاحتلال الإسرائيلى اتخاذ تدابير مؤقتة لمنع الإبادة الجماعية فى غزة، وبالطبع كان الأمل أن يصدر قرار بوقف العدوان، لكنه يمكن أن يكون مقدمة لمزيد من الجهد والتحركات لإدانة الاحتلال.
أصبح العالم على دراية بجرائم تحدث على الهواء، وحتى الدول التى تدعم الاحتلال أصبحت عاجزة عن تبرير آلة الحرب الهمجية وجرائمه البشعة، ليس فقط على غزة ولكن فى كل الأراضى المحتلة، حيث فرض منطقة عازلة على طول محيط الأراضى الفلسطينية بمزاعم منع هجمات المقاومة، والاستيلاء على أراضى الفلسطينيين، وغيرها من الجرائم التى تضمنتها دعوى جنوب أفريقيا ضد الاحتلال بارتكاب جرائم إبادة جماعية، والجديد أن مصر تقدمت بمذكرة إلى محكمة العدل الدولية حول الممارسات الإسرائيلية فى الأراضى المحتلة، منذ عام 1967، وتقدم مصر مرافعة غدا الأربعاء، بطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتتضمن مرافعة مصر كل الملفات ومنها الأبعاد القانونية للمستوطنات غير المشروعة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وجرائم ارتكبت خلال أكثر من 7 عقود، وإدانة سياسات ضم الأراضى وهدم المنازل وطرد وترحيل وتهجير الفلسطينيين، والاضطهاد والتمييز العنصرى، ومسؤولية إسرائيل عن كل تلك الأفعال غير المشروعة دوليا، بما يحتم انسحاب إسرائيل بشكل فورى من الأراضى الفلسطينية المحتلة، وتعويض الشعب الفلسطينى عن الأضرار التى لحقت به، ومطالبة كل دول العالم والمجتمع الدولى بعدم الاعتراف بأى أثر قانونى للإجراءات.
وتستمع محكمة العدل الدولية إلى إحاطات من 52 دولة - وهو رقم غير مسبوق فى تاريخ المحكمة - بالإضافة إلى الاتحاد الأفريقى، ومنظمة التعاون الإسلامى، وجامعة الدول العربية، وهو ما يمثل تطورا مهما فى مواجهة جرائم الاحتلال، السابقة والحالية.
كل هذه الخطوات ربما تمثل فرصة لمحاكمة أوسع للاحتلال، يتم فيها إعادة عرض جرائم حرب ضد الفلسطينيين وضد كل الدول المحتلة، وهو طريق يمكن أن يكون مسارا لمواجهة أوسع وأكثر اتساعا، فضلا عن أنها تجنب الفلسطينيين المزيد من الدم، فالعدوان إن آجلا أو عاجلا سيتوقف، وإذا كانت بعض أطراف المواجهة والمقاومة تتحدث عن ضرورة العودة لخطوط 7 أكتوبر الماضى، ربما يكون طريق الانتفاضة والمواجهة الطويلة فى مواجهة الاحتلال أكثر قوة، وديمومة.
والواقع أن هناك فرصة لفتح ملفات الجرائم التى ارتكبت فى حق الفلسطينيين وأيضا فى حق الأسرى العرب والمصريين والذين تم قتلهم ودفنهم باعترافات جنرالات الاحتلال بعد هزيمة يونيو، وقبل سنوات كانت هناك منظمات توثق هذه الجرائم، وغيرها مع عشرات المذابح، التى وقعت فى حق الفلسطينيين على مدى عقود.
قبل سنوات كانت هناك دعاوى ومفكرون يرون أن طريق جنوب أفريقيا ونضالات مانديلا يمكن أن تكون نموذجا لكفاح طويل من أجل مواجهة الاحتلال الصهيونى، وهو أمر يمكن أن يشكل خطا مهما، لاستخلاص الحق بكل الطرق، والالتفاف حول رؤية الدولة المصرية وهى الأشمل لإنهاء العدوان الإسرائيلى على غزة، بل وحل الصراع من جذوره، فى خارطة طريق ومسار سلام، وصولا لأعمال «حل الدولتين»، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهى أهداف صعبة لكنها تتطلب توحدا من الفلسطينيين وإنهاء الخلافات، وتحديد الأهداف، وهى فرصة لنضال طويل فى مواجهة جرائم لا تسقط بالتقادم.