عصام محمد عبد القادر

الهُوِيَّة المصرية

الثلاثاء، 20 فبراير 2024 09:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تُعبر الهُوِيَّة عن ذات الفرد وكيانه الذي يرتبط بمولده وانتمائه، والثوابت التي يتمسك بها من لغة ومعتقد وقيم موجهة لسلوكه، ومقدرته في الحفاظ على تراثه، واعتزازه بثقافة موطنه، والتفاخر بحضاراته، والطموحات والآمال المشتركة مع بني وطنه نحو المستقبل؛ لذا أضحت الهُوِيَّة سمة مميزة يشعر الفرد من خلالها بالتفرد والتميز، وتسهم في تحقيق استقلاليته، ومن ثم تُعد أحد معايير المفاضلة لديه في الاختيار؛ حيث يستمد من خلالها خبرات مجتمعه، من معارف ومهارات ومعتقدات وقيم وفنون واكتشافات وابتكارات وسلوكيات، يقرها ويعضدها المجتمع.
 
وفي هذا الإطار نستطيع التأكيد على أن الهُوِيَّة المصرية التي تترجمها مجموعة القيم والخبرات التاريخية تُشكل وعي المواطن وتمده بالنسق المحدد لخصوصية المجتمع سواءً في الفكر أم الممارسة، وفي ضوء هذه المرجعية يتمكن من صنع إرادته التي يستطيع من خلالها أن يعبر عن ذاته ويرسم ملامح مستقبله، ويهتم بصقل شخصيته بتمسكه بالصفات الجوهرية المستمدة من تراثه الحضاري، وهو ما يجعله مشتركًا في السمات العامة لمجتمعه، بما يخلق لديه شخصيته القومية.
وتُعد القومية البصمة المميزة لحضارتنا المصرية عن باقي حضارات العالم؛ فبواسطتها نتدافع نحو الحفاظ على أرثنا الثقافي والحضاري والاعتزاز به، ونضحي من أجل الأرض والعرض، ونُعلى من مصالح الدولة العليا فوق الرءوس، ونحترم المعتقد، ولا نقبل تهديدًا لكيان الدولة، ونقدر رموز الوطن، ونصطف خلفه في المحن، ومن ثم تنمو لدينا الإيجابية التي تُشكل الولاء والانتماء والمواطنة الصالحة في النفوس.
 
ومهما تكالبت على الهُوِيَّة المصرية العديد من المتغيرات التي تستهدف طمس هويتنا أو تغييرها أو إضعافها، فلن يحدث ذلك؛ لأسباب عديدة ومتعددة، يأتي في مقدمتها قوة النسيج المصري، وعمق الحضارة الغائر مقارنة بتاريخ الشعوب والأمم، والتي يصعب أن تقتلع جذورها الراسخة في القلوب أو الأماكن أو المعالم أو العادات والتقاليد المتوارثة، كما أن وحدة الوطن قامت على مواطنة أسست على قيم نبيلة متفردة عن باقي الأمم؛ فتلك طيبة النفوس وعفة اللسان والبنان، ورقة المشاعر ودفئها، وسمو الروح وجمالها، وحسن الخلق ورقيه، وحب الغير والإيثار على النفس، وقوة العزيمة والإرادة وقبول التحدي، وما ذكر قليل من كثير، وليس من قبيل الإطراء؛ فقد شهد منصفو العالم به على مر الحُقب والأزمان.
ونرى أن فداحة الانفتاح التقني، وسهولة التبادل المعرفي والإسهال المعلوماتي، وانسكاب الفكر المستورد، والأفكار الشاردة عبر فضاء غير منضبط، والعادات والممارسات غير القومية؛ لهو دافع رئيس كي نعمل بصورة مقصودة على ترسيخ هُوِيَّتنا القومية؛ لنضمن ممارسات لجيل يحافظ على مقدراته وفي الصدارة حضارته وتاريخه المشرف الذي يعتز ويفتخر به؛ فما نلمسه من انحرافات ولو طفيفة بين بعض أبناء الوطن يدعو للقلق، ويجعلنا نراجع أولوياتنا، والتي تبدأ قطعًا بتعضيد قيم المجتمع التي باتت في خطر.
 
إن المحاولات المستميتة تجاه صهر ثقافة المصريين في بوتقة ثقافات أخرى؛ بغرض تجنيسها والعمل على طمس ملامحها الرئيسة، ونقلها من حيز الأصالة إلى حيز الحداثة والانسجام مع أنساق وأنماط ثقافية ترغب على الاستحواذ، وتعمل جاهدة في إضعاف الهُوِيَّة القومية، يُعد ضربًا من المستحيل، وإن استمال إليه بعض ضعاف القلوب ومرضى النفوس؛ لأن ثقافتنا- دون مواربة- لا تقبل بحال من الأحوال المزج أو الدمج أو التوليف؛ كونها تقوم على مقومات ومبادئ لا تقبل ذلك البتة.
وها نحن نعيش حقبة من الزمن صار الاستعمار فيها متلونًا؛ حيث أضحى السعي المستعر تجاه الاستحواذ الفكري- أو ما يطلق عليه الغزو الفكري- سبيلًا لمن يستهدفون النيل من الأوطان؛ فعبر وسائل واستراتيجيات مبتكرة يعملون بصورة ممنهجة على تغيير أو استبدال عادات وتقاليد المجتمعات بعاداتهم وتقاليدهم، كما يوردون أفكارًا تشوه الممارسات، وتخالف بشكل جارف النسق القيمي لهذه المجتمعات؛ فيصبح هناك فجوة بين الأجيال، وصراع حيال تنميط الفكر المستورد لدى فئة الشباب على وجه التحديد.
 
وهنا تكمن الخطورة وتزداد وتيرة التهديدات؛ إذ يسهل لعماد الأمة الكائنة في شبابها التنازل عن الهُوِيَّة القومية طواعية؛ لتحل محلها الهُوِيَّة المشوهة أو المستعارة؛ فيفقد الفرد ماهية الولاء والانتماء، ويسعى فقط تجاه غاية رئيسة تتمثل في إشباع رغابته بعيدًا عن قيود النسق القيمي لمجتمعه الأصيل، ومن ثم تنهار الثقافات ومن ورائها الأوطان، ويرقص المستعمرون على أنقاض تلك الدول التي فرطت في عقدها الرئيس الذي يبدو في هُوِيَّتها.
وبما لا يدع مجالًا للشك فإن المنظومة التعليمية المصرية يقع على عاتقها مهمة تلقين وغرس وتنمية القيم لأجيال تلو أجيال؛ لتنبت أفهامًا تمتلك فكرًا قويمًا، وتغدو سياج حماية للوطن الغالي؛ إذ تؤمن بحضارته، وتتعمق في ثقافته، ولا نغالي في قولنا أن المؤسسة التعليمية تمتلك من الأدوات والمقومات ما تحقق به هذا الهدف السامي؛ فبواسطة مناهجها وما تتضمنه من مقررات، وما ينسدل منها من موضوعات تشتق منها أنشطة إجرائية يؤدي عبرها المتعلم أدورًا فاعلة وفق سيناريو مرسوم من قبل أساتذة متخصصين؛ ليكتسب الخبرات التي تعمق القيم المستهدفة في نفوس هؤلاء المتعلمين في صورة فردية أو جماعية.
 
إننا في أشد الاحتياج لتعضيد النسق القيمي الذي يؤمن به المجتمع المصري، وفي أمس الحاجة للحوار الثقافي مع أبناء الأمة المصرية؛ لنغرس في الأذهان هُوِيَّتنا المصرية الأصيلة والراسخة والتي من شأنها تحقيق المنعة والحصانة من محاولات الإضعاف أو الاستبدال؛ لنرى جيلًا حاملًا للراية، قادرًا على استكمال النهضة والإعمار، حاميًا ومحافظًا على مقدرات وطنه، يضحي في سبيل بقائه وحريته واستقلاله.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر. 
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة