شهد العالم في العقود الأخير تطورات جذرية في التواصل والمعلومات، تلك التطورات التي أدت إلى تحوله الحاد من مرحلة الكتابة والطباعة إلى مرحلة التواصل البصري والرقمي، وهو الأمر الذي كان له أثره الكبير على تشكيل الوعي لدى إنسان هذا العصر، وخاصة الوعي بالذات.
والوعي بالذات هو المقوم الأهم لفكرة الهوية سواء الفردية أو الجمعية، تلك الهوية التي تمثل مجموعة القيم الثابتة التي يعرف بها الفرد أو المجتمع نفسه، وهي التي كانت قبل هذا الانفتاح الرقمي الكبير تمثل كتلة صلبة مكونة من تراكمات تاريخية متعددة، لكن في العالم الافتراضي تبدو الهوية أكثر مرونة، حيث يؤثر عدم الحضور الواقعي بابا مهما للأشخاص لكي يبدأوا في بناء هوياتهم كما يتصورونها أو يحبونها، فيسبغون على أنفسهم الصفات التي يحبون وجودها أو إظهارها على الأقل.
من ناحية أخرى فإن هذه الهزة الكبيرة قد أسهمت في تحولات جذرية في آلية تكوين الآراء والمواقف، فهذا الانفتاح الكامل على العوالم المختلفة أسهم في تقسيم ردود الأفعال تجاهه إلى قسمين كبيرين، لنرى من يتعامل مع هذا العالم بين متقوقع كامل متحصن بهويته الأصلية، ومنفتح بصورة كبيرة على القيم الجديدة الواردة عليه، وبين كليهما يبدو الاستقطاب وحدته أثرا واضحا للوقوع بيم هذين الطرفين.
يبدو هذا الاستقطاب كذلك نتيجة واضحة لسيل المعلومات والآراء الجارف عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتي تجبر متابعها على رؤيتها من الخارج أو على الأقل على القراءة السطحية التي تتخذ مواقفها من خلال العناوين دون تمعن فيما تعبر عنه، وهو ما يمثل آلية مهمة للاستقطاب حيث لا يوجد تأثير حقيقي للمعلومة بقدر ما توجد محاولات دائمة لتأكيد المواقف الأصلية.
من هنا يبدو أثر وسائل التواصل الحديثة على تكوين مجموعات افتراضية يتم توجيهها من السطح اعتمادا على وجودها في دائرة التأثر دون أن يكون هذا التأثر مبنيا على رؤية واضحة أو مواقف ثابتة، وهو الأمر الذي يظهر بصورة واضحة في آلية التريند التي يتم عن طريقها التحكم في سريان الرأي العام، كما يبدو أثر آلية المينشن في انتقاء أفراد يمكن التأثير عليهم مباشرة أو توجيههم.
إن وجودنا في العالم الجديد يحتاج إلى دعم الهويات الصلبة الأصلية التي لا نستطيع مواجهته إلا عن طريق تقويتها.