حازم حسين

تجربة وطنية بالعقل والقلب معا.. «قادرون باختلاف» وفلسفة الاستثمار فى الأمل

الخميس، 29 فبراير 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
صار المشهدُ من مفردات الزمن الجديد؛ ولعلَّه تصويبٌ لكثير من الأزمان القديمة بأثرٍ رجعى، عندما كان قطاعٌ عريض من الناس خارج دائرة الاهتمام تقريبًا، وبعيدًا حتى عن الإضاءة المعنوية التى نحتاجها بقدر ما يحتاجونها، وربما أكثر، فالقيمةُ التى صارت تُمثّلها احتفاليات «قادرون باختلاف» تتجاوز الحالةَ الأخلاقية الظاهرة، إلى معانٍ نفسية واجتماعية ووطنية أعمق، وأكثر اتّصالاً بطبيعة الدولة وفكرة المواطنة، والشرطُ فيهما ألَّا يقع الاستثناء من باب الفرز الهويّاتى؛ بل بحدود الالتزام بالبناء الجامع أو الخروج عليه، ويتساوى فى ذلك السليم والسقيم، والقادر على الجرى فى السباقات، مع من ينتظر العون والإسناد لظروف خارج إرادته، ولا تمسّ جوهر عضويّته الكاملة فى الجمعية العمومية للوطن.
 
بحسب مُؤشّرات العام 2022؛ فإن نسبة الذين يُعانون من صعوبات عضوية أو ذهنية تُلامس حدود 11%، ما يعنى أننا نتحدَّث على الأقل عن عشرة ملايين مواطن من كلِّ الفئات والأعمار والبيئات الجغرافية، وتلك الفئةُ العريضة حُرِمت من بعض القدرات؛ لكنها ما فقدت بقيَّة إمكاناتها، وربما لديها مزايا أكبر فى بعض الجوانب؛ شريطة اكتشافها وتنميتها، وكان الحادثُ أنهم بعيدون من دائرة الضوء تمامًا، وقضوا عقودًا فى نزال غير مُتكافئ مع بيئةٍ ليست صديقة لذوى الإعاقة، وتحدِّيات تبدأ من الولادة والتعليم، ولا تنتهى بالعمل والعلاج والحركة فى دروب الحياة، وقد أخذت دولةُ 30 يونيو على عاتقها مهمّة الانشغال بهم، وإعادة الاعتبار لحضورهم الأصيل بين مُكوِّنات المجتمع وعناصر قوَّته، وغزلت المادى بالمعنوى؛ لإنجاز الغاية على وجهٍ يُحقّق العدالة العاجلة، ويُجفِّف آثار الإهمال الطويل.
 
عندما التقى الرئيسُ مئاتٍ من ذوى الهِمَم فى احتفاليتهم أمس؛ كان يُجدِّد العهد الذى بدأ قبل ستِّ سنواتٍ، بإقرار قانون حقوق الأشخاص ذوى الإعاقة رقم 10 لسنة 2018 كأحد أوائل التشريعات الصادرة فى هذا العام، ثمّ إعلانه عامًا لذوى الاحتياجات الخاصة، وبعدها كانت احتفالية «قادرون باختلاف» الأولى فى 2019، ومن يومها لم تنقطع العادة تحت كلِّ الظروف والتحدّيات، وصارت طقسًا ثابتًا فى روزنامة الدولة عند أعلى مستوياتها، وكما قال الرئيس فى واحدةٍ من مداخلاته بالحفل، فإنها أصبحت يومًا تعيش مصر على آثاره المعنوية المُبهجة عامها كاملاً.
 
تستثمرُ الدولة فى المشاعر الطيّبة تجاه أحد مُكوِّناتها العضوية المُهمّة، لكنها تُرسِّخ دلالةً عميقة وشديدة التعبير بانتظام اللقاء سنويًّا، باسمه وصيغته الاحتفالية وإشاراته المُوحية، هى أن تلك الفئة الثريّة مشمولةٌ بمظلَّة رئاسيّة لا تنحسر أو تسهو عنها، ولا تتركُ أمورَها للاعتياد وروتين الدولاب التنفيذى، وإن كان الرئيس مشغولاً بتخصيص يومٍ للقاء بهم والاحتفال معهم؛ فإنَّ على كلِّ مسؤولٍ آخر أن يتحضَّر لهذا اليوم بإنجاز التزاماته تجاه ذوى الهِمَم جميعًا، وأن ينطلق منه لتعزيز الجهد فيما بعده، وسدّ الثغرات والنواقص، وليس الغرض أن يُساق الأمرُ على صيغةِ الدولة الرحيمة المُكلَّلة بالأعباء، بقدر ما يُراد منه أن يكون مناسبةً دوريّة للتعريف بهذا الجزء الغاطس من المجتمع، وما يتوافر لأعضائه من مواهب ومهارات، ويُحقِّقونه من اختراقٍ ونجاحات؛ كأىِّ شخصٍ طبيعى لم تُعانده الظروف القاهرة، وربما حتى أكثر من طبيعيين كُثر، ومن آخرين خدمتهم الظروف ولم يخدموا أنفسهم بالجهد والدأب والإصرار.
 
قدَّمت الدولة للقادرين باختلاف كثيرًا ممَّا كانوا محرومين منه، أو بالأحرى أعادت تصحيح الأوضاع التى كانت خاطئةً، واضطلعت بمسؤوليّتها تجاههم على قاعدة الواجب الأصيل، والطموحات المأمولة، يشمل ذلك حزمةً من التسهيلات التى وفَّرها القانون، ومنظومةً للرعاية من خلال بطاقات الخدمات المتكاملة، ومزايا فى السيارات وبعض الحاجات المُتّصلة بشؤونهم اليومية، بجانب الاهتمام بصناعة الأطراف والأجهزة التعويضية وتوطينها، والعمل الجاد لأجل التمكين فى التعليم والتوظيف والمناصب القيادية وعضوية المجالس النيابية، وقد صار المجلس القومى للأشخاص ذوى الإعاقة، الذى تأسَّس بالعام 2012، ونصَّ دستور 2014 على وضعيَّته المستقلة ودوره فى التخطيط ورسم السياسات، شريكًا أصيلاً للدولة فى برامج رعاية وتأهيل المُعاقين وتمكينهم من حقوقهم، بفلسفةٍ تضعهم فى القلب من منظومة إدارته والإشراف على القنوات العريضة بين الأجهزة الرسمية، لتفعيل دوره وإثراء حضوره فى المساحة بين المُستحقّين والمُكلّفين بخدمتهم.
 
فى كلِّ احتفالٍ يُقدَّم الرئيس صورةً عملية للعلاقة الواجبة مع القادرين باختلاف، إنها صيغةٌ مُتوازنة بين النظر فى ظروفهم ومزاياهم، والدعم الجاد بعيدًا عن مشاعر الأسى والإشفاق. أوَّلاً لأنهم كاملون تمامًا بما لديهم من قدراتٍ خاصة، ولأننا نزيد بهم ولا ننقص، وكلَّما حصَّلوا مكسبًا فإنهم يستعيدون حقوقًا كانت ضائعةً أو منسيَّةً أو مُرجأة، وليسوا فى رابطةِ مُحاباة أو إحسان مع وطنهم ومُؤسَّساته.. إنهم شُركاء يقتسمون حصاد شركتهم، لا ضيوف أو عابرو سبيل، وكما كلّ النُّسَخ السنوية حتى الأربعاء، يحضر ذوو الهِمَم  بنماذجهم الناجحة فى كلِّ المجالات، وأفكارهم الخلّاقة، والبطولات التى يحملونها على أكتافهم من الداخل والخارج. قبل عدَّة سنوات طلب الطفل «مهند» تدريس مادةٍ تعليمية عن احترام الآخر، واستجاب الرئيس، وهى فكرة جاءت ممَّن كانوا يُعانون التمييز والإنكار، ولم يُفكِّر فيها بعض من يعتبرون أنفسهم أصحاء ويستفيدون بكل الفرص والامتيازات، وأمس وقف صفٌّ من أبطال مصر والعالم فى الرياضة يحملون ميدالياتهم وأحلامهم، ويدعون الرئيس لمُشاركتهم بطولةَ العالم فى القاهرة بعد ثلاث سنوات، وقد صَمَّم شعارَها أحدُ المُتميّزين من بينهم، إنه وجهٌ مُشرق لأهل العزيمة، وكلُّهم لا يُفوّتون فرصةً لإشباعنا بالفخر والأمل، وضَرب نماذج مُحفّزة فى الإرادة والتحدِّى، ربما نحتاجها أكثر منهم، ونستلهم معانيها وإشاراتها من صمودهم الذى لا يهتز.
 
لم يحرمنا أهلُ العزيمة من عطائهم فى كلّ الأوقات؛ حتى عندما غابوا عن الاهتمام الرسمى أو سارت الريحُ عكسَ أشرعتهم، كان طه حسين وعمّار الشريعى والشيخ محمد رفعت آباءً تاريخيين للناجحين من ذوى الإعاقة، والقائمة تطول بما يُعجِز عن الحصر، وكلّهم كانوا مُشرِّفين ولم يخذلوا أنفسهم أو أُمَّتهم. لدينا نجاحات مُدهشة فى الأولمبياد الخاص، وأكاديميون وعلماء ومثقفون ومبدعون فى كل المجالات. وإن تحقَّق كلّ ذلك مع الإنكار القديم، فالوعدُ أكبر فى المستقبل مع ترقية الاهتمام ودخولهم فى دائرة الضوء، ربما يراه الناظرون من السطح احتياجًا لفئةٍ تتكفّل الدولةُ تلبيتَه؛ إنما المُتعمّقون يعرفون أنها مسألةٌ مُلحّة للدولة نفسها، وإنفاقٌ لصالح المجتمع كلّه، ولفائدة الهوية الوطنية وإثراء قُوانا الناعمة.
 
طوال الاحتفالية أظهر الرئيسُ السيسى شعورًا بالأبوّة الممزوجة بالفخر، وفى كلمته أشاد بما يُحفّزه ذوو الهمم من قيمٍ فى نفوسنا جميعًا، وعبّر عن الشكر والامتنان لعائلاتهم التى آمنت بأنهم قادرون على صُنع الفارق لأنفسهم وبلدهم. وجدَّد تأكيد عقيدة الدولة الراسخة فى الملف، وتنشيط برامج التأهيل والتمكين وبطاقات الخدمات والدعم النقدى، وإنجاز قانون صندوق «قادرون باختلاف»، وأعلن تخصيص 10 مليارات جنيه لصالحه، تزامنًا مع رسالته الإيجابية بوصول الدفعة الأولى من قيمة اتفاق تنمية «رأس الحكمة»، الخير حاضرٌ فى كلّ محفلٍ يحضرون فيه، وتزيد بركاتُ الأوطان كلّما تحقّقت فيها العدالةُ، وحلّ أبناؤها الطيّبون فى مشاهدها الجامعة.
 
كثيرٌ من نجاحات الناس العاديين تكون لأنفسهم حصرًا؛ بينما كلّ نجاحٍ يُحقّقه قادرٌ مُختلف يصبّ فى نهر البلد كاملاً، أوّلاً لأنه يستفيد بالطاقات العظيمة التى كانت تحبسها الظروف القديمة، وتُقدّم وجهًا رشيدًا للإرادة الإنسانية التى لا تُعطّلها العقبات، ولا يأخذها النجاح من تواضعها وسُموّها الروحى والأخلاقى، كما أنه يخلق حافزًا معنويًّا لا يستكين لليأس والمصاعب العابرة، ويضبطُ بوصلةَ المجتمع تحت صيغةٍ عادلة وناضجة، تأخذ وتعطى بالتوازى، ولا تُفرّط فى أصلٍ من أُصولها عالية القيمة لأنّ بينهما مانعًا أو مسألةً تتطلّب مزيدًا من الجهد والتفانى، المشهد بكامله أكبر من ترضيةٍ وأهمّ من تقويم مسار؛ بل أثمن ما فيه أننا قادرون على الحركة بالعقل والقلب معًا، وعلى رؤية ما وراء الظاهر البسيط، إلى الجوهر العميق، وتوظيفه والاستفادة منه على أفضل ما يكون.
 
يستحقّ القادرون باختلاف ما حقّقوه، وما ينتظرهم فى الغد القريب. وتستحق الدولة الامتنانَ على صادق الشعور ووافر العمل، والقيادةُ السياسية فى موقع الرأس من جسدٍ وطنى يتعافى وتتداعى أعضاؤه لبعضها، إن مشهد القادرين باختلاف، لا ينفصلُ عن فلسفة التنمية التى بدأت بتطوير العشوائيات والمناطق الخطرة، ووصلت فى أحدث حلقاتها إلى حزمة حمايةٍ اجتماعية ضخمة قبل أسابيع، إنه استثمارٌ فى الأمل، وتخليقٌ للحوافز، ومُعايرةٌ للموازين كى لا تختل أو ترفع المساواةَ البسيطة فوق العدالة المُنتجِة، ومناطُ النظر أين تكمن الحاجة الاجتماعية والمصلحة الوطنية، بمعيار النوعية والاستدامة والتراكم البنّاء، والاستثمار فى البشر بقدر الاستثمار فى الحجر، من بنيةٍ تحتية وقاعدة صناعية وزراعية وعناصر جذب سياحى، وعصبُ الرؤية أن المصريين جميعًا سواء، فيما بينهم وأمام الدولة، وأن القدرة والرغبة الصادقة معيارُ الاستحقاق والترقى، أكانت قدرةً عادية من الطبيعة، أم استثنائيةً مُميّزة بالاختلاف.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة