فئة من المصريين يتعاملون مع الاقتصاد برومانسية مفرطة، وعالم المال والأعمال، لا يعترف بلغة العواطف من أى نوع، وأن لغته الوحيدة والرسمية، هى المصالح والمنافع المتبادلة، ومن هذه النقطة، يقفز السؤال الجوهرى: ما الفارق بين أن يقرر مستثمر أجنبى إقامة مصنع على الأراضى المصرية، أو شراء مصنع مقام فعليا؟ الفرق الوحيد أن البعض يرى أن قدوم المستثمر لإقامة مصنع يُعد قيمة مضافة للمصانع القائمة، لكن فى كلتا الحالتين، سواء قرر شراء مصنع أو أسسه، لا يمكن انتزاع مسماه الحقيقى، وهو «استثمار» وضخ عملات صعبة فى البلاد، وفتح أبواب رزق أمام الملايين للعمل!
ونعود بالذاكرة للوراء طيلة السنوات الماضية، كان لا حديث يعلو فوق حديث جلب الاستثمارات الأجنبية، وطرح السؤال «الكرباجى» الموجع على رؤوس وظهور الحكومات المتعاقبة، أين الاستثمارات الأجنبية، ولماذا لا تتخارج الدولة وتمنح الفرصة كاملة للقطاع الخاص، للعمل والاستثمار فى ظل ما يحصده القطاع العام من خسائر فادحة؟
السؤال عبارة عن كرباج فى يد كل من نصب نفسه جلادا، يريد أن يهاجم الحكومة والنظام، ويعتبره مؤشرا ومعيارا حقيقيا لتقييم نجاح الحكومة من عدمه، كما كان «لبانة» يلوكها ليل نهار الإعلام المعادى وجماعات وتنظيمات تمتلك على مواقع السوشيال ميديا، ذبابا إلكترونيا مُعديا بأمراض التشويش على عقول البسطاء، والتشكيك والتسخيف واتهام الدولة بالسيطرة على الاقتصاد، وإغلاق الأبواب أمام الاستثمار الأجنبى، ورفض منح الفرصة للقطاع الخاص!
وعندما قررت الحكومة، التخارج تدريجيا من الاقتصاد بطرح عدد من الشركات للبيع، وفتح الأبواب أمام المستثمرين الجادين سواء كانوا أجانب أو محليين، انقلب هؤلاء أنفسهم، من الذين كانوا يتهمون الحكومة بالتقاعس والفشل فى استقدام الاستثمار الاجنبى، إلى جلادين يهاجمون الحكومة بقسوة ويتهمونها ببيع أصول وممتلكات الدولة لأجانب وعرب!
هذا التناقض الخزعبلى، والانقسام المفرط بين هؤلاء المنصبين أنفسهم خبراء وعباقرة الاقتصاد، مثير للغثيان، وينتزع منهم كل قيم الصدق والتجرد والأمانة، ويعريهم أمام الملايين المصريين.
هؤلاء انقسموا إلى 4 فرق، على غرار المذاهب الأربعة، مع التباين الشديد، فى أن اختلاف أصحاب المذاهب، رحمة، بينما اختلاف الفرق الأربعة المنصبين أنفسهم المالكين الحصريين للفهم والقدرة والجدارة الاقتصادية، كارثة ووبال شديد، خطورته أكثر فتكا من انتشار الأوبئة القاتلة.
الفرق الأربعة، منقسمون كالتالى: الفريق الأول يرى فى تخارج الدولة، عملاً عظيما، تأخر كثيراً.
أما الثانى، يرى أن تخارج الدولة كارثة، وتخلى عن دورها فى حماية الطبقات المتوسطة ومحدودى الدخل.
الفريق الثالث، يعتبر فتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبى سواء لشراء شركات أو إقامة مشروعات، بيع أصول الدولة، يصل إلى حد الطعن فى وطنية الحكومة.
والفريق الرابع، فهو الفريق المرتبك، ما بين البكاء على اللبن المسكوب، واستحضار الماضى، وما بين رفض واقع عالمى فارض نفسه بقوة.
تتجلى مأساة الفرق الأربعة، أنها تصب مواقفها فى صالح موقف الجماعات والتنظيمات الباحثة عن إفشال الدولة المصرية، والتى يحزنها النجاح، ويطربها الفشل، فعندما تجد فريقا يهاجم الدولة، لأى سبب من الأسباب، تدعمه هذه التنظيمات ليس إيمانا بطرحه ورؤيته ولكنه كراهية فى الدولة، والطعن فيها.
وتجلت الوقاحة فى أبهى صورها، عندما قررت الدولة وضع مخطط تنمية مدينة رأس الحكمة بالشراكة مع كيانات عالمية ذات خبرة فنية واسعة وقدرة تمويلية كبيرة تمكن الدولة من وضع المدينة على خريطة السياحة العالمية خلال 5 سنوات على الأكثر، كأحد أرقى المقاصد السياحية على البحر المتوسط والعالم فى ضوء البنية الأساسية الكبيرة التى أقامتها الدولة لخدمة المنطقة.
والتفاوض جار بالفعل مع عدد من الشركات وصناديق الاستثمار العالمية الكبرى للوصول إلى اتفاق يتم إعلانه قريبا عن بدء تنمية المنطقة البالغ مساحتها اكثر من 180 كيلومتر مربع.
وما أن تكشف المشروع وبدأ الحديث عن جدواه الاقتصادية الكبيرة، فوجئنا بخروج الفرق الأربعة، يتنازعون ويتقاتلون، ودخل معهم فى قلب المعركة، الكيانات والتنظيمات والجماعات، المعادية الكارهة لكل خطوة تخطوها الدولة نحو النجاح، وأعطوا أوامرهم لذبابهم الإلكترونى ومنابرهم الإعلامية بمشاربها المختلفة، للتشكيك فى المشروع، والتشويش على عقول البسطاء، لإقناعهم أن المشروع مجرد بيع أصول وأراض، للغرباء!
وهنا نخاطب أهالينا البسطاء، بالعقل والحجة، تارة، وطرح الأسئلة تارة أخرى، للتفكير والتدبير، ورفع منسوب الوعى لديهم، حتى لا يقعوا فريسة الأكاذيب وحملات التشكيك لكارهى هذا الوطن، ونبدأ بالسؤال: عندما امتلك رجل الأعمال المصرى محمد الفايد، محلات «هارودز» أكبر وأشهر وأعرق المحلات التجارية فى بريطانيا، والتى تأسست سنة 1834 فهل نقلها للقاهرة أو صارت مستعمرة مصرية؟ وعندما انتقلت ملكيتها فى 2010 للشركة القابضة القطرية، هل صارت مستعمرة قطرية؟
قطر تعد المستثمر الأكبر والأهم فى بريطانيا، وبلغ حجم استثمارتها 50 مليار جنيه استرلينى، كما تجاوز حجم استثماراتها فى فرنسا الـ30 مليار يورو وفق إحصائية أعدتها رابطة «كادران» القطرية الفرنسية 2019 معظمها تملك عقارات ومشروعات سياحية، بجانب امتلاك أهم وأكبر ناد فى فرنسا وأوروبا «باريس سان جيرمان» والسيطرة على كبرى الشركات الرائدة والوطنية «فينشى وتوتال وسويس وإيرباص».. فهل يمكن لقطر استعمار بريطانيا وفرنسا؟
والأمر ذاته ينطبق على استثمارات السعودية فى بريطانيا والتى تجاوزت 60 مليار جنيه استرلينى، وفق مصادر رسمية سعودية، عبارة عن مشروعات سياحية وتملك العقارات، بجانب شراء أسهم فى مطار هيثرو، وشراء نادى نيوكاسل.
وتخيل يا مؤمن، لو الحكومة المصرية قررت عرض جزء من أسهم مطار شرم الشيخ، على سبيل المثال، وليس مطار القاهرة، للبيع، ماذا سيكون رد الفعل؟
الإمارات العربية تجاوزت استثماراتها فى بريطانيا الـ15 مليار جنيه استرلينى، بجانب امتلاك أهم وأكبر ناد ليس فى بريطانيا فحسب، ولكن فى العالم، مانشستر سيتى، ومع ذلك الشعب البريطانى، ولا الفرنسى، أقاموا الدنيا، واتهموا حكوماتهم بعدم الوطنية وبيع أصول دولهم!
وأخيرا، هل تعلم سيدى المواطن المصرى، أن حجم استثمارات الصين فى أمريكا، أقوى قوة على سطح الأرضى، 800 مليار دولار فى السندات، علاوة على المليارات الأخرى فى شراء الأراضى الزراعية والسكنية والمشروعات الصناعية والسياحية، وهو ما أعلنته وزيرة التجارة الأمريكية، جينا ريموندو، بنفسها فى سبتمبر الماضى، وأكدت على أن الصينيين تملكوا أراضى زراعية وسكنية ضخمة.
وفى الأخير، لا بد من التأكيد على أن الجميع يتفهم ويتقبل المخاوف المشروعة، لكن التشكيك والطعن فى وطنية النظام، أمر مرفوض لأنه يتصادم بعنف مع المنطق والعقل، وأن الاستثمار مفتاح سحرى لإحداث نهضة اقتصادية مصرية كبرى، وضربنا لكم الأمثلة، عبرة وعظة، وفى النهاية، المستثمر لن يحمل مصانعه وعقاراته فوق أكتافه، عندما يقرر الرحيل! شيئا من الوعى والعقل، فيه صحة وسلامة كبيرين للمجالات المختلفة وعلى كل المستويات والأصعدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة