نحو ستّة أيام بين الصوت وصداه، قالت واشنطن منذ اللحظة الأولى إنها ستردّ على مُهاجمة قواعدها العسكرية فى المنطقة، وسقوط ثلاثة قتلى وعشرات المُصابين؛ لكنها تركت مُتّسعًا من الوقت لتمرير رسائل هادئة قبل فَتح النار، خلال ساعات كانت قد حدَّدت المُتّهم، وألقت بالمسؤولية المباشرة على طهران، وبعدها أعلنت بوضوح أنها لن تُنفّذ ضرباتٍ فى العُمق الإيرانى، ولا تريد توسعة الصراع أو الذهاب لحربٍ إقليمية. وقد تعرَّضت إدارة بايدن لانتقاداتٍ جمهورية زاعقة، وعلَّق ترامب على «الرخاوة» فى إطار اللعبة الانتخابية المُشتعلة مع غريمه الديمقراطى. وما بدا من حصيلة المُخطَّط الزمنى طوال الأسبوع أن البيت الأبيض يعرف تمامًا ما يُريده؛ لكنه لا يعرف كيف يتحصَّل عليه، ويخاف من خصومه الإقليميين بقدر ما يخافونه. كأنَّ تداعيات «طوفان الأقصى» وما بعدها أنتجت حالةً من توازُن الرعب؛ صارت فيها الميليشيات رأسًا برأسٍ مع الجيش الأقوى عالميًّا، وحالة الردع الأمريكية فى أدنى درجات الفاعلية؛ إلى حدِّ أنها تُناور وتتباطأ وتُغلِّف البارود بالورود، على غير عادتها المُتغطرسة.
انتهت فترة الترقُّب، وأزاح الوحش الستارَ عن قصاصه الموعود، وبحسب قيادته الوسطى فقد نفَّذ 85 ضربةً على سوريا والعراق، بنحو 125 قذيفة دقيقة التوجيه، استهدفت مراكز قيادة وتحكُّم ووحدات تجسُّس وتخزين للصواريخ والمُسيَّرات، وفى المعلومات؛ فإنّ الطائرات انطلقت من الولايات المتحدة، وفيها قاذفات بعيدة المدى، وبالنظر إلى مسافةٍ تتجاوز 9 آلاف كيلو مترات، وإلى تمركُز قواعد ومطارات وحاملات طائرات فى المنطقة؛ فالأرجحُ أن أسراب الهجوم انطلقت من القريب، وربما تكون الإشارة لنقطة إقلاعٍ بعيدة بغرض إبعاد الحُلفاء والأهداف الأمريكية المُتاخمة عن نيران الغضب والردود الانتقامية، وحتى لو صحَّت المعلومة؛ فإن الطيران كلّ تلك المسافة، مع توافر بدائل حاضرة على مقربةٍ من الأهداف المقصودة، إنما يُشير لحساباتٍ مُعقَّدة بشأن التوازن القائم فى الإقليم، ومساعٍ لتحييد الوجود المباشر فى البلدين عن لعبة صناديق البريد وتبادل الرسائل الحارقة، وهكذا تُفكِّر الولايات المتحدة بعقلٍ مُنضبط تحت سقف الندّية، وبعيدًا من عقيدة الهيمنة والقوَّة المُطلقة، ومن فاعليّة اليد العليا ومنطق الفوز بإرهاب الخصوم.
أعلن «بايدن» مُبكّرًا اتهامه لإيران، وبعد الضربة المُوسَّعة قال إنه أمر باستهداف مُنشآتٍ يستخدمها الحرس الثورى وميليشياته؛ لكنه جدَّد التأكيد أنه لا يمضى إلى مواجهة شاملة، وعُزِّزَت المُغازلةُ المُتحفّظة بتصريحاتٍ نقلتها الصحافة الأمريكية عن مسؤولين فى إدارته، بأنهم لن يشنّوا غاراتٍ على إيران، وبجوار ذلك أوضحوا أنها جولةٌ ضمن مُستهدَفٍ طويل لوكلائها، وقد تضاربت المعلومات الأوّلية؛ فبينما نقلت منصَّات سورية أن القصف طال 12 موقعًا فى الميادين والبوكمال، وأسقط 28 قتيلاً ومُصابًا ممَّن أسمتهم «قوات حليفة»، وقالت مصادر عراقية إن 6 ضربات لحقت بمستودعات أسلحة ومنازل، تضاربت أرقام الإعلام اللصيق بالبنتاجون: نيويورك تايمز تحدَّثت عن 6 مواقع فى البلدين، وول ستريت جورنال قالت 7، وفوكس نيوز وواشنطن بوست أشارتا لثمانية.. ويبقى الحصر تفصيلاً صغيرًا؛ رغم ما قد يُثيره من ملاحظاتٍ على الارتباك وغياب التدقيق؛ إنما الأصلُ فى فلسفة الضربة، وما وضعته من سقفٍ صارمٍ للردّ.
تردَّد أن العملية شهدت هجومًا مُتزامنًا على أهدافٍ حوثية فى اليمن. والمعنى أن اليدَ الأمريكية عبثت فى كلِّ جبهات الممانعة «المحور الشيعى» باستثناء حزب الله اللبنانى، المُلاحظة هنا أن هجمةَ «التنف» على المثلث السورى العراقى الأردنى، وقاعدة «البرج 22» فى شمال شرقى المملكة، نفّذتها قوات المقاومة الإسلامية العراقية بحسب اتهام بايدن وفريقه، وتبنَّاها أحد مُكوِّناتها رسميًّا «كتائب حزب الله»، وكان المُعلَن أن الردَّ سيشمل الحرس الثورى وتابعيه، لكن ما حدث أنه لم ينحصر فى مُنفِّذى الهجوم وحدهم، ولم يشمل الباقة كاملةً، وهنا ربما يكون السبب أن واشنطن تُنحِّى لبنان عن المسألة، وتسعى لعزلِها بعيدًا من مناخ الاشتباك والتصعيد، اعتبارًا للتوتر الدائر مع إسرائيل؛ أو لأن جنرالات أمريكا تحسَّسوا الأرض تحت أقدامهم، وراعوا أنَّ ما تقبله طهران مع الحشد الشعبى أو حركة النجباء ولواء فاطميون، لن تسمح به مع رأس مشروعِها ودُرَّة تاجه فى الضاحية، أى أن العملية خُطِّطت بأقلّ منسوبٍ من الاستفزاز، وليس بمنطق مُحاسبة المسؤول المُباشر عن وفيات الأحد؛ لا سيّما أنها لم تستثنِ كثيرين لا يدَ لهم فى الهجمة.
تعرَّضت الارتكازات الأمريكية منذ اندلاع حرب غزَّة لزهاء مائة وخمسين هجومًا، ردَّت على بعضها بضرباتٍ جراحيّة محدودة، واكتفت فى أغلبها بالشجب ورسائل التحذير، المُتغيّر الجديد أن الذراع الإيرانية امتدَّت للدم الأمريكى. يختلف ذلك تمامًا عمَّا حكاه «ترامب» مُؤخّرًا، بشأن تلقّيه إشارةً فارسية مُسبَقة قبل الردّ على اغتيال سليمانى مطلع 2020، وأنهم سيُرسلون ثمانيةَ عشر صاروخًا على أطراف القواعد العسكرية، ولا رغبةَ لديهم فى الإيذاء والقتل. صحيحٌ أنه يُحتمَل أنّ المحاولة الأخيرة كانت كأيّة تجربةٍ سابقة، وتطوَّرت بسبب خطأ دفاعىٍّ أو توفيقٍ غير مقصودٍ؛ لكن لا يُمكن التغافُل تمامًا عن احتمال التعمُّد ورغبة الإيلام، وثمَّة إشارات على الأمرين: حزب الله العراقى أصدر بعدها بيانًا بتعليق عمليَّاته ضد الأمريكيين حتى لو قصفوه، وأصرَّت مجموعاتٌ أُخرى على مُواصلة التحدِّى، وصرح مسؤولون إيرانيّون بجاهزيَّتهم لأىِّ تصعيد. وربما كان التباطؤ فى الردِّ بحثًا عن برهانٍ فاصل بين القصد والخطأ، أو مُوازنةً بين الحاجة المعنوية لغَسل الصورة، والكُلفة المادية لهجومٍ غير محسوب.
ما زال العراقُ يحتضن نحو 2500 جندى أمريكى، وفى سوريا 900. إن تحوَّلت تلك القوَّة إلى هدفٍ مُباشر للميليشيات؛ فربّما تتضاعف الخسائر، أو تزداد أعباء التأمين بتعدُّد جبهات الاستهداف. ولا يغيب عن نظر المُخطِّطين الاستراتيجيين بالقطع أن الوجود الواسع من الخليج العربى ومضيق هرمز، إلى بحر العرب وباب المندب والبحر الأحمر، قد يقع فى مرمى النيران الطائشة، ويُحتمَل رغم التفوَّق وفارق القوى أن يحدُثَ خطأٌ عابر، يزيد فى وجيعته وإحراجه عن ضربة الأردن أو استعادة صورة الردع.. وبينما تُدفَع واشنطن لشِجارٍ شخصىٍّ خالص، لا تنسى أنها معنيّةٌ بدائرة النار الطالعة من غزَّة؛ وإن اشتبكت دونَ سقفٍ فقد تجدُ نفسها طرفًا فى الحرب، بينما تُحاول اختلاس عباءة الوسيط والضامن، كما أنها تعرف أنَّ سُخونة الجبهات الشيعية فرعٌ على أصل، أو هكذا يدَّعى أصحابُها، وبالتالى فكلَّما واصلت إسرائيلُ عدوانَها الصارخ على الغزِّيين؛ ستُواصل الميليشيات نشاطَها تحت لافتةٍ عقائديّة فعَّالةٍ، بالشعبية والأثر السياسى، فى بيئةٍ عربية حانقة على مُمارسات الصهاينة المُغطَّاة بمظلَّة أمريكية، وباختصار؛ فإنّ «بايدن» يتحوَّط من الانزلاق فى دائرة استنزافٍ مفتوحة، ومن أثر ذلك على حليفه العبرى، الذى لا يحتمل أن تصير سماء المنطقة زحامًا من الصواريخ والمُسيَّرات الدعائية الغاضبة.
قبل أسابيع تسبَّبت غارةٌ على أحد مقرَّات الحشد فى غضبةٍ عراقية هادرة. طُرِحَ وقتَها على نطاقٍ واسع مطلبُ إجلاء الأمريكيين، وبدأت جولاتُ حوارٍ بين الطرفين؛ للتفاهم على ترتيبات إنهاء عمل التحالف الدولى، وطبيعة العلاقة بعد الخروج. والآن صار الوضعُ مُعقّدًا للغاية؛ إذ لا يتَّفق السنَّة والأكراد أصلاً على النغمة الشيعية التى تُعزَف بأمر طهران، كما أن البيت الأبيض، ولو كان صادقًا فى ترحيبه السابق ببحث المسألة؛ لن يُغامر بإنجاز الخطوة تحت النار، مع ما يُرافقها من معانى الهشاشة والانسحاب أمام الحرس الثورى، وفى الوقت نفسه فإن ردودَه الأخيرة، بسخونتها واتّساعها فى الجغرافيا والزمن، ستعكسُ ملامحَ الضعف على مرآة الحشد وأذرع إيران. أى أن الرحيل المُعجَّل يكادُ أن يكون مُستحيلاً، والبقاء الآمن مُتعذّر أيضًا، وسبيل التوفيق بينهما أن يقبل الطرفان بالجوار الهادئ مُؤقّتًا، وأن تُشطَب الساحةُ العراقية من لعبة الرهانات الحارقة. وهنا يُثارُ سؤالٌ عن ميدان الشدِّ والجذب البديل؛ إذ لا تصلحُ سوريا بكل ما فيها وعليها من نزاعٍ، ولبنان مُغامرةٌ لا يُريدها أىّ منهما، واليمن بعيدٌ من خطوط الإمداد الشيعية، وفيه تهديدٌ بانكشاف الرأس الفارسية فى مجالٍ مفتوح، أى لا بديل عن احتمال سخونة الميدان العراقى، دون الوصول به لحالة الغليان والاحتراق، على أمل أن تكون التهدئة فى غزَّة أسرع من الإشعال فى بغداد.
عندما أُبرِمت الهدنةُ الوحيدة أواخر نوفمبر، بجهودٍ مصرية قطرية خالصة؛ توقَّفت مظاريف النار المُتطايرة فى الإقليم طوال الأسبوع. قد لا يكون المحورُ الشيعى صادقًا فى مسألة إسناد غزَّة، والمُؤكَّد أنه يرفعها على طريقة «قميص عثمان»، وأن لديه أغراضًا سياسية فى الميادين الرديفة؛ لكنَّ الحرب فى النهاية تُمثِّل غطاءه الدعائى الوحيد لحالة استثمار الفوضى. ولو صدقت النوايا الأمريكية بشأن الرغبة فى التبريد، والانصراف عن مُغامرة تصعيد الأوضاع لمواجهةٍ شاملة أو حربٍ مفتوحة الجبهات؛ فإن المدخل الوحيد يتحقَّق على تراب القطاع، وبترويض الجنون الإسرائيلى، وإنجاز تهدئةٍ عاجلة تُوقِف المقتلةَ، وتُمهِّد لمسارٍ سياسى ناضج، على قواعد راسخة من القانون والشرعية والمُقرَّرات الأُمميَّة. والمقطوع به أن الولايات المتحدة قادرةٌ على فَرض رؤيتها، وقد أعلن «بايدن» رفضَه التهجير وتمسُّكَه بحلِّ الدولتين، ولا معنى لإرخاء حبل التبرير للقاتل الصهيونى، وللتاجر الشيعى؛ إلَّا أنه يستهلك الوقتَ ويُدير لُعبتَه الانتخابية بالدم العربى، وقد اختبر الإقليم تلك المراوغة مع كلِّ الإدارات السابقة؛ وما عاد الكلامُ وحده مُقنعًا، كما لا يكفى لإبعاد شُبهة «الرقصة الثنائية» بين طهران وواشنطن على إيقاع الحرب، ولأجل تصفية حساباتٍ أُخرى فى بيئاتٍ غير فلسطين.
ما حدثَ أن الميليشيات ادّعت إسناد الغزِّيين؛ لتخفيف الضغط وتشتيت آلة القتل. وطوال أربعة أشهر ما تغيَّرت أوضاع غزَّة ولا قلَّت مُعاناتها؛ بل وُضِعَت بلدانٌ ومناطقُ أخرى فى عين العاصفة، دون مَغرمٍ قاسٍ على إسرائيل أو مَغنمٍ نافع لفلسطين. وزعمت أمريكا أنها تُريد التهدئةَ وكَبحَ الانفلات؛ لكنها صارت من مُسبِّباته المُباشرة فى اليمن وسوريا والعراق، وعندما تمركزت بوارجها لأسابيع قبالةَ سواحل لبنان. ربما تختلف الرؤيةُ وصِيغةُ العمل، ويبدو أحدُ الفريقين مارقًا والآخرُ «فِتوَّةً» يتسلَّح بعصا القانون الغليظة؛ لكنَّ النتيجة واحدة، خصمان يقولان عكس ما يفعلان، ويُتاجران بالدم بمعيار استثمارٍ واحد، وفى حقيقة الأمر كأنهما يُريدان توسعة نطاق الحرائق؛ لتحسين شُروط التفاوض وجَردة العوائد. وسيقول الأمريكيّون إنَّ إيران تُقاتل لآخر وكيلٍ من ميليشياتها المذهبية، وهى بدورها ستتَّهم الولايات المُتحدة بأنها تتحرَّش بها، وتُهدِّد مصالحَها، وتغتصب حقوقها فى البلاد التى اختطفتها بالسيف. ولا فارقَ بينهما إلَّا أنَّ طرفًا يحتكر الحديث باسم النظام العالمى الظالم، والآخر يُحاول إحلالَه بظُلمٍ من نوعٍ مُغاير.
لم يتأخّر الردُّ على الردّ؛ فأعلنت فصائلُ عراقيّة قصفَ قاعدة «حرير» فى أربيل الكُردية، واستُدعِى القائمُ بالأعمال فى سفارة واشنطن وتَسلَّم احتجاجًا حاد اللهجة، وأدانت حكومتا الأسد والسودانى وجيشاهما الغارات، وقال الأخيرُ إنها خَرقٌ للسيادة، واعتبر ادِّعاء واشنطن عن الإخطار المُسبَق بالضربةِ «كذبًا وتدليسًا»، وأن وجود التحالف الدولى بات يُهدِّد أمنَهم القومى.. كان استباقُ البيت الأبيض بالحديث عن التنسيق مُثيرًا للاستغراب، وإن صحَّت الروايةُ فلعلّ بغداد تُناور للإفلات من الغضبة الإيرانية، ولو لم تصحّ فالمعنى أن واشنطن تُريد الزجّ بالعراق فى صدامٍ مُدمِّر. الإدارة مُرتبكةٌ بشكلٍ واضح، وقد تركت مُهلةً طويلةً مليئة بالتحذيرات الصاخبة؛ حتى تستعدَّ الميليشيات بنَقل عناصرها وعتادها، وتكون أقدر على امتصاص الضربة، ثمّ جاءت الغارة كثيفةَ الحجم محدودةَ الأثر، فلم تتجاوز 30 دقيقة ولم تُكبّد الخصوم تكاليف باهظة فى البشر والذخائر. لقد صُمِّمَت لتكون تحت السقف، وهكذا فإنها تستهدف ترضيةَ الغاضبين الأمريكيين، لا عقاب المتمرِّدين الشيعيِّين. كأنَّ صناديق البريد الأمريكية الإيرانية ما تزال حاكمةً لحدود العمل؛ برغم الزخم الدعائى والخُشونة اللفظية المُصطنَعة.
التناقُضُ إلى العَظم، أصحابُ العمائم السوداء يلصقون «القدس» فى كلِّ حديث؛ ولم يُطلقوا رصاصةً صادقةً لصالحها، ولا وفَّروا القضيةَ صافيةً من الاستقطاب والتحريف والمُتاجرة الرخيصة، والآتون بقبَّعات لينكولن وشعلة تمثال الحرية يكرهون العصابات المُسلَّحة، ويفعلون فعلَها. الغريبُ أن الذين يُدافعون عن فلسطين بالنار أضرُّوها، ولم يُفوِّتوا فُرصةً للتصويب على حزامها القريب، من دُولٍ داعمة بصدقٍ وتجرُّد، والذين أفاقوا على فداحة التوحُّش الميليشياوى كانوا سببَ استفحاله، وسلَّموا العراق مجّانًا للغُول الشيعى، وكانوا المُقاولَ الذى بنى أوكاره فى سوريا ولبنان واليمن لسنوات، بالصمت أو الإسناد المُراوغ أو رعاية بيئة الخراب. والردُّ الأمريكى أمس لن يكون الأخير، واستعراض الميليشيات ربما يخفُت قليلاً لكنه لن يتوقَّف. واشنطن أكبرُ داعمٍ لما يُسمَّى «محور الممانعة» ولو ادَّعت البراءة، وكلّ انحياز للجنون فى إسرائيل أو إضعاف لمحور الاعتدال والتعقُّل؛ لا يمكن النظر إليه إلَّا من زاوية إبقاء حلقة البارود تحت سماء مزدحمة بالشَّرَر، إن كان الشُركاء الوازنون ينتظرون على طاولة الحوار؛ فلا معنى للعب مع الأشقياء سوى أنك راغبٌ فى طاحونة الدم، وتُضمِر للمنطقة عكسَ ما تُظهِر، الصهاينةُ يعيشون على الفوضى وفُوهات البنادق، والذين يلعبون بطريقتهم إنما يخدمونهم، أو لا يُجيدون لُعبةً سُواها. كلُّهم عصابات يتنازعون فى الأزياء والسلاح وطقوس القتل، رفعوا رايةً سوداء أو قُماشةً مُرصَّعة بالنجوم، وتحدَّثوا بالميثاق الأُممىّ ودستور جورج واشنطن، أو بالتوراة والتلمود ومأثورات آيات الله والمراجع الاثنى عشرية، يموتُ الفلسطينيون وحدهم، وتُحفَر المنطقةُ قبرًا كبيرًا؛ لأنَّ الآتين من خارجها يختلفون فى الوصفة، ويتَّفقون جميعًا فى صَنعة الموت.