حازم حسين

أثر المخلصين باقٍ لا يزول.. «يوم الشهيد» والقيمة الحيّة فى ذكرى القائد وذاكرة الجنود

الأحد، 10 مارس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بزغت الذكرى من وجيعةٍ شخصية، يومَها أُصيب ثانى أرفع قيادة عسكرية على الجبهة، ولفظ أنفاسَه الأخيرةَ مُقدَّمًا بُرهانًا مختومًا بالدم على قيمة أن يتوحَّد القائد مع جنوده، وألَّا تنفصل طوباويّةُ خطاب الفِداء عن يوميَّات المُمارسة العمليّة، وأن تكون الشجاعةُ أسبقَ من طلب الأمان، والتضحيةُ قيمةً راسخةً تتجاوز الرمزيّة ولا تُقوِّضها المخاطرُ أو المخاوف، استُشهِد رئيس الأركان على بُعد عشرات الأمتار من سيناء المُحتلَّة، بينما كان يحتفلُ برجاله ويشدُّ من أزرهم، ومن وقتها صار التاريخُ الذى وثَّق خسارتَه الفادحةَ مُناسبةً سنوية لإحياء ذكراه، وقد اتَّسعت دلالاته لتستحيلَ عنوانًا عريضًا لفكرةِ البطولة والاستشهاد فى سبيل المُثُل السامية، وليس أسمى من الوطن، ، إنه «يوم الشهيد»، ويوم الفريق عبد المنعم رياض أيضًا؛ لشخصه بالأثر المباشر، ولِما يُمثّله من ثِقَل معنوىٍّ، بالموقع المهنى، وشرف المقاتل، وكونه واحدًا من آباء العسكرية المصرية المعاصرة، يدل على أجلّ وأنقى ما فيها، ويختزل فى إخلاصه وثباته ما ينسحب على كل أبنائه وإخوته وزملائه، السابقين منهم واللاحقين. 
 
كانت اللحظةُ استثنائيّةً بكلِّ ما فيها، والختامُ جاء على أحسن ما يليق برجلٍ غير عادى أيضًا، يُمكن القول إنها الكُلفةُ الميدانية الأكثر فداحةً فى كلِّ معارك مصر، ولعلّها سابقةٌ عالمية، المُعتاد أن يجلس قادةُ الصفِّ الأوّل فى غُرَف القيادة وأمام تختة الرمل، ولم يحدُث أن شُوهِدَ رئيسُ أركانٍ أو وزيرُ دفاعٍ على الجبهة فى أىٍّ من حروب العالم الكبرى، لكنّ «رياض» مُقاتلٌ صلبٌ عنيد، وبلاده فى طَور التعافى من هزيمةٍ قاسية، طُبِخَت على نار الغدر، وترصَّدت لمُؤسسةٍ كانت مُنهكةً وقتها بأحداثٍ شديدة التداخل والإرباك منذ مطلع الستينيات، انتفض الجيشُ سريعًا فى «رأس العشّ» بعد أيّامٍ من النكسة، ثمَّ بإغراق المُدمِّرة إيلات قبالة سواحل بورسعيد، ومنها لحرب الاستنزف الطاهرة التى اندلعت فى يونيو 1968، وأزعجت خطوطَ إسرائيل المُتقدِّمة فضلاً على تنفيذ عملياتٍ فى العُمق، وبعد أقل من تسعة أشهرٍ أحرزت المفارزُ الأُولى عند نقطة المُواجهة نجاحًا ظاهرًا بخطَّة «تدمير خط بارليف»، ورأى القائدُ أن يُشرِف عليها ويكون إلى جوار الضباط والجنود فى مُواكبة آثارها، وبينما يطوف الأرجاءَ مَزهوًّا بما تحقَّق ويلمسُه من عزم الرجال، سقطت قذيفةٌ على مَقربةٍ منه؛ فكانت النهاية الشريفة على قدر الرحلة البازخة. 
 
ضُرِبَ موعدُ الشهيد مع الله عند الموقع رقم 6، وكان أوَّلَ نقطة تفتحُ نيرانَها على دُشَم العدوِّ فى الثامن من مارس؛ لذا وُضِعَت موضعَ الرصد من عصابة الاحتلال، ولعلّهم أرادوا الثأر المُجرَّد، أو سمحت لهم المراقبةُ برصد رئيس الأركان لدى حضوره، أو على الأقل معرفة أن هناك قائدًا رفيعًا بين المُقاتلين، لم تكن المنطقةُ تبعُد أكثر من 250 مترًا عن المدافع المنصوبة على الضفَّة الشرقية للقناة، ومع هُطول القذائف احتمى الفريقُ المُتمرِّسُ بإحدى الحُفَر؛ فطالته بعضُ الشظايا مع تأثير تفريغ الهواء وخلخة مستويات الضغط، لتفيض روحُه الطاهرة إلى بارئها بعدما تجاوز التاسعة والأربعين بقليل، قضى أكثر من إحدى وثلاثين سنة منها عاملاً فى جيش مصر، مُقاتلاً فى خمس حروبٍ، وقائدًا مُتدرِّجَ المستويات فى مراحل وطنية وإقليمية فارقة، صنعت منه ضابطًا شديدَ البأس والصلابة، وجنرالاً ذهبيًّا لا ينسى قَسَمَ السلاح ولا يهاب الوقوف على تُخوم النار. 
 
التحق عبد المنعم رياض بكُلية الطب؛ ثمّ غادرها بعد عامين إلى الكلية الحربية؛ ليتخرَّج فيها عام 1938 شابًا دون التاسعة عشرة، وخلال رحلته نال ماجستير العلوم العسكرية أوّلاً على دفعته، ودرس الرياضةَ البحتة بكلية العلوم، وانتسب لكلية التجارة بعدما صار برُتبة الفريق ليدرس الاقتصاد، وأجاد أربعَ لغاتٍ غير العربية، وحصل على زمالة كليّة الحرب العليا من أكاديمية ناصر، ورسم ملامح «الخطة 200» التى صارت فيما بعد نواة «جرانيت» ثم «الخطَّة بدر» التى انتصرت بها مصر فى أكتوبر 1973، وشارك فى الحرب العالمية الثانية على إحدى البطاريات المُضادّة للطائرات، ثم فى حرب فلسطين 1948 ضمن إدارة العمليات والربط مع القادة الميدانيين، وكان قائدَ الدفاع المُضادّ للطائرات وقت العدوان الثلاثى، وتولَّى مركزَ القيادة المُتقدِّمَ فى عَمّان ضمن اتفاقية الدفاع المُشترك مع المملكة، وقائدًا عامًا للجبهة الأردنية إبان الخامس من يونيو، وبعد أسبوعٍ تقريبًا من العدوان اختِير رئيسًا لأركان الجيش المصرى، وفى سجلِّ شرفه أنواطٌ وأوسمةٌ رفيعة من مصر والأردن ولبنان، ويظلُّ أعلاها قدرًا وسامُ الشهادة، واختلاطُ دمه بالأرض التى أقسم أن يكون حاميًا لها، وأبرّ بيمينِه بأوثق الأدلّة وأوضح آيات الوفاء.
 
سلسالُ الشهداء فى مصر طويلٌ كتاريخها، غزيرٌ كالنيل فى فيضانه، ومُشرقٌ مثل جَوِّها الذى يخرج من شمس الظهيرة إلى لمعان النجوم؛ كأنه ما غادرَ الليلَ ولا خاصم الضوء، نقعُ فى المنطقة الحيَّة من الذاكرة على كتابٍ ضخمٍ وباذخ، يبدأ من «سقنن رع» فى تصدِّيه الحماسىّ اللاهب للهكسوس، وإلى أحمد المنسى ورفاقه، حتى آخر جندىٍّ طالته يدُ الإرهاب، أو وافته المنيَّةُ على ثُغور الشرف والمهمّة الوطنية، وإن كان الأبناءُ والأحفادُ ينتسبون للفريق عبد المنعم رياض باتِّصال العقيدة والطابع المُؤسَّسى؛ فإنَّ من سبقوه منسوبون إليه أيضًا بكونه امتدادَ الأجداد وكمالَ صورتهم، والنسخةَ التى كثَّفت فيها مصرُ خُلاصةَ تجاربها، وصاغت مُدوَّنة إيمانها بمعزلٍ عن أزمنة الملوك والأباطرة، وعن حسابات القتال لتاجٍ أو عرش، لا شىءَ أكثر من جنودٍ على أرضٍ وتحت عَلَم، والبطولةُ ما يقضى به الميدانُ، والغاية أن تظلَّ الراية مرفوعةً خفَّاقة، وإن كانت حُروبُ الماضى تلوَّثت بقدرٍ من البدائيّة، وجرت على شرطِ الفرعون المُؤيَّد من آمون وزُمرته؛ ثمَّ تتابعت عليها رواسبُ الدول والممالك واختلاف الأديان والثقافات؛ فإنَّ مُنازلات الحاضر قد اكتسبت وجهًا تُرابيًّا خالصًا، وصارت دفاعًا عن الأرض مُجرَّدةً من الأيديولوجيا والعروش، لا لحُكمٍ راهنٍ أو وارثٍ مُؤجَّل؛ إنَما لوجه الطين والناس، ضُعفائهم قبل أقويائهم، والذى لم يُولَدوا قبل الأحياء والحاضرين منهم، ، كان الجيش فى تأسيسه الجديد عنوانًا على دولةٍ حديثة؛ وصار بعد يوليو 1952 أصلاً وطنيًّا دائمًا، لا فرعًا على قصرٍ فى طيبة أو دِكَّة فى القلعة. 
 
وراء اختيار التاسع من مارس يومًا للشهيد معانٍ أعمقُ من التنسيبِ المُباشر للتقويم، ليس الأمرُ اختزالاً لقافلة الشهداء والأبطال فى شخصِ واحدٍ منهم؛ حتى لو كان قائدًا عظيمًا ترجَّل فى مشهدِ استشهادٍ غير مُعتاد، إنّنا مَدينون لكلِّ شهيدٍ بأكثر من يومٍ واحتفال، فى ميلاده ورحيله وتعميده مُقاتلاً، وفى ذكرى كلِّ قطرة عَرقٍ سالت على جبينه العالى، أو جُرحٍ مَسَّ جلده، وزَفرةِ غَيظٍ وتحدٍّ غادرت رئتيه، على هذا المعنى؛ فالسنةُ كلُّها أعراسٌ ومواكب لحَبَّات العقد النفيس فى عُنق الوطن، ولا حبَّةَ فيه أكبر من أُختها أو أثمن، جميعها سواء، ونقفُ احترامًا أمام الذكرى المُتّصلة خارج المواقيت والمناسبات، وحسبُنا فيما نُحييه سنويًّا أن نمدَّ يدنَا لقلبِ كَومة اللؤلؤ، وننتخبَ واحدةً تدلُّ على الكلِّ، وتُلخِّصُ ثروتَنا وإرثَنا الذى لا يزول، وتقولُ للناظر والباحث إنَّ لدينا من تلك العيّنة ما يفيضُ على طاقة الحصر، ويتجاوزُ تعدادَ الأيّام؛ وإن فكّكناها ساعاتٍ ودقائقَ ولحظاتٍ، نستعيدُ يومًا وفى وَعيِنا تحضرُ السنةُ بتمامِها، وتلمعُ على زجاج عيونِنا صورةُ «رياض» وحواليه تصاويرُ كتيبته الكاملةِ فى الجنَّة، مثلما نقول: يا مصر، ونعنى كلَّ شِبرٍ وحفنة رملٍ، وكلَّ أبٍ وأُمٍّ وأخ، وكلَّ ابتسامة ودمعة، وما فى عُمق معارفنا وأرشيفنا من آمالٍ وآلامٍ وأحلامٍ وانتكاسات، فيما بين فجر تاريخها وغدِها المأمول؛ ولو لم نكُن من شهودِه الحُضور. 
 
صار عبدالمنعم رياض معنىً يتجاوزُ محدوديّةَ الاسم؛ إذ لم يعُد يُشير إلى شخصٍ ووجود مادىٍّ وموعد رحيل، بقدر ما يُذكِّر بقيمةٍ ورسالة رمزية تعلو على الدراما البسيطة فى حياة قائدٍ شديد التركيب، ما وراء الذكرى إلهامٌ للمُصدِّق وتثبيتٌ للمتردِّد، ودلالةٌ قاطعة على حجّية فكرة الفداء، وأنَّ الروح ترخصُ أمام القِيَم العُليا دون قيدٍ أو شرط، فلا يهتز هذا القانون الراسخ بالرُّتبة أو المكانة المهنيّة والاجتماعية، إنه المعنى السامى الذى ينتقلُ لوعى كلِّ ضابطٍ وجندى، وكلِّ مواطنٍ على واحدة من جبهات النضال اليومى، قتالاً أو عملاً وبناء، عندما يستعيدون صورةَ الجنرال الرفيع شهيدًا على خطِّ المواجهة، فيتأكَّد بالدليل الحاسم أن الجميع مُتساوون أمام الوطن، يتكبَّدون الأعباءَ دون تمييز، ويتلقَّون الاحتفاء بالتساوى، ومعيارُ التقييم الوحيد أن يكونوا على قدر المعركة، وأن يُنكروا ذواتهم الفرديّة لصالح ذاتٍ قومية جامعة، ، القائدُ يتفانى لأجل البلد، والمُقاتل يذوب فى قائده ويتوحَّد معه، فيختلطُ أثرهما؛ حتى لا يُمكن أن تفصل دمًا عن آخر، ولا أن تنسب لحظات الفخر لواحدٍ دون الباقين. 
 
أحسنت القواتُ المُسلَّحة اختيار عنوان الاحتفالية، وأكد الرئيس السيسي معانيه في كلمته بالندوة التثقيفية إحياءً للمناسبة، لقد غادر عبد المنعم رياض وزملاؤه الأطهار «ويبقى الأثر»، تلك الرائحةُ التى خيَّمت على الميدان من رحيل رئيس الأركان حتى تحرير سيناء، وما زالت حاضرةً ومُلهمة لأجيال، مَنْ قَضى نحبَه ومَنْ ينتظرُ وما بدّلوا تبديلاً، وذاك الأثر الذى صان إنجاز الحرب وتعهَّد فلسفة السلام، وسيَّج مصر بسياجٍ منيعٍ أمام موجات الاستهداف والإرهاب والقلاقل الإقليمية المحيطة، خمسٌ وأربعون سنة وأثرُ الفريق الراحل حىٌّ فى رجاله وأبنائه، مثلما يحيا أثرُ العقيد أحمد المنسى ورجاله منذ رحيلهم عنَّا قبل سبع سنوات، وإلى ما شاء الله، ومثلما ستبقى آثارُ قافلة الشهداء الطويلة كلَّما نظرنا إلى الخريطة، أو توزَّعت خطانا فى ركنٍ من أركان البلد، لطالما كانت الجغرافيا محميَّةً بعزم الرجال، ومُباركةً بأرواح الشهداء، وستظلُّ؛ لأنَّ ما تركوه فى الوعى والذاكرة أبقى وأعزّ، ولأنَّ التضحيات الصادقةَ دون مطامع أو حساباتٍ أقوى من عواصف الأيام، وأثرُها لا يذبُل ولا يزول. 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة